ومن جهة ثانية يحمل عودة عن تقليد المرشح التوافقي لأنه في النهاية المرشح الصريح لأحد الفريقين.
كما أن هذا الانتخاب الذي أتى كمحاولة لرأب الصدع بين الفريقين المتنافسين في لبنان، كان كفيلا بشق كل فريق على نفسه وإذكاء الخلافات الداخلية في كل فريق على حدة.
الأمر الذي يـُنبئ بإعادة تشكيل تكتلات سياسية جديدة قائمة على تفضيلات مختلفة وقد يُعلن رسميا انتهاء فريقي 8 و14 آذار.
يعود ميشال عون إلى رئاسة لبنان ولكن هذه المرة بانتخاب مجلس النواب له وليس على رأس حكومة عسكرية كالتي عُهدت اليه في منتصف الليلة الاخيرة لرئاسة أمين الجميل بوصفه قائدا للجيش في نهاية الثمانينيات.
وإذا كان ميشال عون هو المرشح الرئاسي المفضل لدى حزب الله ربما منذ عقد تحالفه الوثيق معه في مطلع عام 2006، ولكن من أتى به فعليا إلى الرئاسة هو سعد الحريري قائد الفريق المناوئ له.
والحقيقة أن الحريري كان قد فعلها من قبل عندما حاول في مطلع عام 2016 دعم ترشيح سليمان فرنجية، حليف آخر لحزب الله، وقيل حينها أن الحريري يناور ليفكك تحالفات الفريق الخصم ويذكي المنافسة فيما بينهم.
ولكن الحريري في الحقيقة كان واقعيا، لأن توزيع الكتل النيابية لا يسمح بأن يتم انتخاب الرئيس بأصوات أيٍ من الفريقين منفردا، ولذا كان يفكر في كسر هذا الاستقطاب لإتمام انتخابات الرئاسة المعطلة منذ ربيع 2014.
غير أن حزب الله استمر في تمسكه بمرشحه ميشال عون، ومضى في طريق تعطيل الانتخابات الرئاسية طوال هذه المدة بتغييب نوابه ومنع انعقاد نصاب التصويت في مجلس النواب.
ودستوريا بما أن الانتخابات الرئاسية قد حان موعدها يتحول مجلس النواب إلى هيئة ناخبة ويحظر عليه ممارسة أي سلطات تشريعية لحين قيامه بمهمته الانتخابية، وبالتالي عُطلت المؤسسة التشريعية بالتبعية.
فيما تعذر اجراء انتخابات تشريعية جديدة وتم التمديد لمجلس النواب المنتخب في 2009 لولاية جديدة وصولا إلى 2017.
ومن ثم فإن انتخاب الرئيس يعد فعليا استئنافا للحياة السياسية الدستورية اللبنانية بكافة مؤسساتها.
ولكن هل يستحق هذه التضحية الكبيرة من جانب الحريري؟
لماذا غير الحريري موقفه؟
في الحقيقة لم يكن لفريق 14 آذار مرشح قوي، بخلاف سمير جعجع الذي لم يكن من المنطقي الدفع به من الاساس نظرا لتاريخه المعروف في الحرب اللبنانية.
ومن ثم فلم يكن للحريري وهو صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر (وإن كانت لا تشكل الأغلبية) مرشح مفضل للدفع به.
بل كانت خيارات الحريري ستؤول على الأغلب إلى مرشح توافقي مثلما كان الأمر بانتخاب الرئيس السابق ميشال سليمان.
ولذا يعتبر البعض أن الحريري بدا مهزوما لأنه في النهاية اضطر لتأييد مرشح حزب الله، وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن من جهة أخرى، انتصر الحريري بفرض خيار انتخاب الرئيس أولا ثم البحث لاحقا في أمر تشكيل الحكومة وأمر قانون الانتخابات الجديد.
وهذا على خلاف ما كان ينادي به فريق 8 آذار الذي أراد حل كل القضايا المعلقة باعتبارها سلة واحدة تحسم في وقت واحد.
في حين اصطف عون في صف الحريري وطالب بعقد فوري للانتخابات الرئاسية ومن ثم التفرغ لبحث الأمور المعلقة.
ولكن الخطوة الجريئة التي اتخذها الحريري لإعادة الحياة السياسية في لبنان لن تمر دون خسائر، فعدد من حلفاء الحريري القريبين وحتى من داخل كتلته رفضوا هذه المناورة السياسية ورفضوا التصويت لعون.
وربما قد ينذر ذلك بخروج هؤلاء من كتلته لاحقا لتكوين مراكز قوى سنية مناوئه له، وربما تهدد زعامته في بعض مناطق الشمال مستندة إلى عداء مستمر مع حزب الله على خلفية طائفية لا تخلو من دلالات الحرب السورية.
ولكن في المقابل ترشيح عون للرئاسة لم يمر بسلام على الفريق الآخر، 8 آذار.
حيث رفض نبيه بري الحليف الشيعي الأهم لحزب الله، التصويت لعون على لوجود خلاف شخصي قديم بين الرجلين، بري وعون.
ومن ثم قد يتحول بري سريعا إلى معارضة الرئيس دون أن يتنازل عن حصته في الحكومة المقبلة.
فيما قد لن تجد بعض الكتل المسيحية في فريق 14 آذار، كالقوات والكتائب، بدا ًمن تأييد عون للرئاسة أو على الأقل عدم معارضته كي تنال حصة وزارية في الحكومة القادمة.
معضلات تشكيل الحكومة الجديدة
ومن هنا تبدو الحكومة القادمة إحدى أولى معضلات العهد الرئاسي الجديد.
فمن جهة، غالبا سيستلم الحريري جائزته الأولى – لانتخابه عون رئيسا – وسيصبح رئيسا لهذه الحكومة.
ولكن تبدو تشكيلة الحكومة ككل غير محسومة، فللمرة الأولي منذ سنوات عديدة يكون رئيس الجمهورية زعيم فريق سياسي كبير ومن ثم فسيكون له وزارء من السياسيين وليس فقط من التكنوقراط أو من الوسطيين.
كما يبدو أن بري قد يوسع من حصته الوزارية طلبا لترضية بعد انتخاب عون رغما عنه، في حين أن الحريري الذي يعتبر نفسه قد أقدم على تضحية كبيرة من أجل حلحلة الأمور المعقدة، ينتظر هو الآخر حصة وزارية أكبر له ولحلفائه خاصة من الوزارات السيادية، كي يثبت لخصومه من السياسيين السنة أنه كان على صواب عندما انتخب عون رئيسا.
بينما يتنافس كل من القوات والكتائب على حصة الوزارء الموارنة من نصيب حلفاء الحريري بعدما اقتطع عون قسما كبيرا من هذه الحصة لوزرائه من التيار الوطني.
ولذا فمن غير المتوقع أن تنفرج عقدة تشكيل الحكومة سريعا وقد تطول إلى شهر أو اثنين، فكل فريق سيكون متمسكا بحصة أكبر من الوزارات كي تساعده على كسب الشارع قبل الانتخابات البرلمانية الوشيكة في الربيع القادم.
فرغم قصر العمر المتوقع للحكومة القادمة، فهي حاسمة لأنها ستنظم الانتخابات البرلمانية الأولي منذ ثماني سنوات، والتي ستفرز حتما خريطة سياسية جديدة للبلاد.
وإذا ما تشكلت الحكومة، لن تنتهي العقبات، إذ ستبرز معضلة البيان الوزاري، وهو الوثيقة التي يستخدمها عادة كل فريق لإثبات مرجعيته ضمن عمل الحكومة.
وهنا ستنشأ مشكلات عدة، لا تقتصر على الإشارة إلى شرعية المقاومة، أي نشاط حزب الله العسكري، بل قد تمتد أيضا للنقطة الخلافية الأبرز وهي دوره في الحرب السورية.
وهو المدخل الأبرز للسياسات الإقليمية كي تلقي بظلالها الثقيلة على السياسة الداخلية اللبنانية، وبالتالي فهي النقطة المرشحة لتكون العقدة الأصعب.
ورغم الاتفاق المبدأي بين عون والحريري على تجنيب لبنان تداعيات الحرب السورية، فإن تنفيذ هذا الاتفاق ليس بالأمر الهين.
أما اهم استحقاقات العهد الرئاسي الجديد، فيكمن في صياغة قانون انتخابي جديد يضمن صحة التمثيل المناطقي والطائفي بشكل عادل.
ولعل المعضلة الأكبر هو إدخال مبدأ النسبية إلى القانون الانتخابي، كي يسمح بتمثيل شرائح واسعة من النشطاء الحقوقيين والقيادات المحلية خاصة من الشباب ممن لم يكن القانون الانتخابي القديم يسمح بتصعيدهم إلى البرلمان.
وأمام هذا الاستحقاق ستبدو التحالفات القديمة في خطر، وربما سيتم الفرز فيها على أساس طائفي بحت بعيدا عن تقسيمات 8 و14 آذار.
ولذا ربما سيكون مبدأ النسبية هو السلاح الذي سيتسخدمه كل فريق ضد الآخر، ومن هنا قد يدخل أخيرا ضمن مفردات السياسة اللبنانية.
أو في أسوأ الأحوال قد يتكتل الجميع ضده لأنه يهدد احتكار كل حزب لتمثيل طائفته وينذر بتوسيع الطبقة السياسية لتضم فاعلين جدد من الصعب التفاهم معهم.
إيجابية وحيدة
لكن الأمر الايجابي الوحيد بعد كل هذه المعضلات التي ستواجه العهد الرئاسي الجديد، هو إجراء الانتخابات البرلمانية في ربيع 2017 بعدما انتفت كل حجج تأجيلها.
ومن ثم بعد 8 سنوات من الجمود السياسي قد نشهد توزيعا جديدا للنخبة البرلمانية اللبنانية.
ومن غير المتوقع من سيكون الخاسر فيها، هل سيكون حزب الله الذي انهك مناصريه بالانخراط في الحرب السورية طوال خمسة سنوات؟ أم سيكون الحريري التي تتفتت كتلته لتفرز قيادات جديدة من خارج عباءته؟ أم لعل كلاهما سيخسر، وستنشأ قوى برلمانية جديدة إذا ما تم إقرار النسبية ونشهد من ثم تجديدا حقيقيا في الطبقة السياسية اللبنانية؟ على الجانب الآخر من غير المتوقع أن ينعكس انتخاب الرئيس اللبناني الجديد لتهدئة التنافس الإقليمي السعودي الإيراني على لبنان، إذ من المتوقع أن يتزايد هذا التنافس في ظل حسم بعض الملفات المعلقة ودخول لبنان أخيرا إلى نادي الدول المنتجة لمواد الطاقة.
وبالتالي فسيُضاف إلى ملفات التنافس السعودي الإيراني ملف جديد وهو النفط، والذي قد تشهد سياسة لبنان بشأنه تخبطا ربما يضاهي سياسته تجاه سوريا أو يزيد عنها.