قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2016-12-29
د. زياد عقل

خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تقبع ليبيا تحت وطأة صراعات سياسية وعسكرية منذ الانقسام الذي حدث في 2014 وأدى لظهور أكثر من سلطة داخل البلاد.

وبالرغم من أن حالة الانقسام لازالت مستمرة، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت تطورات في سياق الصراع السياسي والسجال العسكري، وكان لهذه التطورات آثار داخلية وإقليمية ودولية.

ولعل النقطة المحورية في هذا الشأن هي رؤية الصراع الحالي في سياق الأزمة الممتدة منذ 2014، فما حدث في ليبيا مؤخراً سواء تمثل في تحرير سرت من قبضة تنظيم داعش أو عودة سيطرة الدولة على الموانئ النفطية، لا يمكن النظر له أو تحليله دون ربطه بجذور الصراع وقراءة الصورة الكلية.

فالتطورات الأخيرة ليست عمليات مستقلة أو مهام دورية تقوم بها السلطات، بل هي حلقة جديدة في سياق الصراع السياسي الدائر بين الشرق والغرب في ليبيا.

ومما لا شك فيه، أن سلسلة الأحداث الحالية قد بدأت مع رفض مجلس النواب المتكرر لتشكيل حكومة الوفاق الوطني المُقدمة من المجلس الرئاسي، وهي الخطوة التي كان من المفترض أن تمثل نقطة البداية في تفعيل الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه في الصخيرات بالمغرب في ديسمبر 2015.

لكن مجلس النواب ظل رافضاً للتشكيل المقترح والتعديلات التي طرأت عليه، كما بدأ مجلس النواب والحكومة المؤقتة التابعة له في تعبئة الشارع والرأي العام علي أرضية أن الاتفاق السياسي يلحق الكثير من الضرر بليبيا ويعد بمثابة فرض وصاية دولية عليها.

علي الجانب الآخر كان المؤتمر الوطني العام في طرابلس مرحباً بالاتفاق السياسي لأنه سوف يعمل على إنهاء حالة غياب الشرعية والاعتراف الدولي التي عانى منها المؤتمر منذ انتخابات عام 2014.

وبدأ المؤتمر الوطني في اتخاذ خطوات جادة لكي يتحول إلى مجلس للدولة وفقاً لبنود الاتفاق السياسي، بل وبدأت ميليشيات فجر ليبيا في العمل تحت لواء المجلس الرئاسي، وحيث يظل أعضاء الميليشيات هم المكون الرئيسي لقوام القوات التي قامت بعملية البنيان المرصوص لطرد تنظيم داعش من سرت.

ورداً علي عملية "البنيان المرصوص" التي أعطت شرعية وشعبية لقوات الحرس الرئاسي، قام الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر بالهجوم علي ميليشيات "حرس المنشآت النفطية" وتحرير عدد من موانئ النفط التي كانت تحت سيطرة الميليشيات.

وبالتالي، تكشف هذه الحزمة من التطورات السياسية والعسكرية عن حقيقة لابد من الاعتراف بها، وهي أن الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه في ديسمبر 2015 غير كاف لوقف النزاع بين الطرفين حيث لا يوفر الحد الأدنى من التوافق بين الشرق والغرب.

كان فشل الاتفاق السياسي، خاصة فيما يتعلق بالتطبيق والتفعيل، أحد الاحتمالات المطروحة بقوة.

ففي النهاية لم يكن هناك ما يكفي من إجماع حول الاتفاق، وتم التوقيع عليه من قبل أعضاء من مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام دون توفر أرضية واسعة للتوفاق حول هذا التوقيع داخل المؤسستين.

وبالتالي، كان حجم التحديات التي تواجه اتفاق الصخيرات كبير، ولم يكن هناك احتمالية لتطبيقه دون ضغوط دولية وإقليمية علي الأطراف المختلفة، وهو ما لم يحدث بشكل مناسب، ومن ثم، تحول المجلس الرئاسي إلى إضافة جديدة للصراع السياسي في ليبيا سواء كفصيل ثالث مستقل، أو كتكملة للصراع الدائر بين الشرق والغرب في حال استمرار التوافق بين المجلس الرئاسي وطرابلس.

كما ألقت الأحداث الأخيرة الضوء علي أحد التطورات الهامة في سياق الصراع السياسي في ليبيا، وهو بدء التنسيق بين الكيانات السياسية والأذرع العسكرية.

فعلي مدار العامان الماضيان لم يكن هناك أية بوادر لوجود قدرٍ كافٍ من التفاهم والرؤية المشتركة بين المؤسسة السياسية وذراعها العسكري، فلم يكن مجلس النواب قادر علي السيطرة علي الجيش الوطني الليبي في الشرق، كما فشل المؤتمر الوطني العام في السيطرة علي ميليشيات فجر ليبيا في الغرب.

وقد تكرر أكثر من مرة أنه في الوقت الذي كانت تبذل فيه محاولات من قبل وفود المؤسسات السياسية للسيطرة علي الوضع من خلال المشاركة في حوار الأمم المتحدة أن تكون الأذرع العسكرية لكل مؤسسة تقاتل بعضها البعض في ذات الوقت في غياب واضح لأي نوع من أنواع التنسيق.

وقد تكون هذه النقطة أحد أسباب تطور القدرات العسكرية للطرفين، وهو ما بات واضحاً من خلال انتصار الطرفان على تشكيلات مسلحة وتنظيمات إرهابية لم يتمكن كلا الطرفين في التغلب عليها من قبل، ولكن التطور في القدرات العسكرية الذي انعكس علي الأرض في شكل عمليات ضد تنظيم داعش وميليشيات حرس المنشآت النفطية له أكثر من سبب.

فلم يكن ممكناً أن تنتهي قوات الحرس الرئاسي من قتال تنظيم داعش وطرد عناصره من سرت دون المساندة العسكرية التي قدمتها الطائرات الأمريكية لهذه القوات كغطاء جوي.

وفي نفس الوقت، فحسبما ذكر شهود عيان وعدد من التقارير كانت الطائرات المصرية توفر غطاءاً جوياً للجيش الوطني الليبي خلال معركته لاسترداد الهلال النفطي من حرس المنشآت النفطية.

وتشير كل من المساندة الأمريكية والدعم المصري إلى تغير في نمط تدخل الفاعلين الإقليميين والدوليين في ليبيا دون تغير واضح في سياساتهم تجاه الأزمة الليبية، وفي واقع الأمر كان لهذا التغير في نمط التدخل دوراً في تعميق الانقسام بين الشرق والغرب أو المجلس الرئاسي من خلال الثقل السياسي الذي خرج به الطرفان من العمليات العسكرية.

إضافة إلى ما سبق فقد نجم عن الأحداث الأخيرة تطور هام يتمثل في تمكن المجلس الرئاسي من دمج ميليشيات فجر ليبيا داخل هيكل الدولة وتسميتها بقوات الحرس الرئاسي، وهو ما يعني أن هناك امكانية لمأسسة الميليشيات المختلفة داخل ليبيا أو دمجها داخل المؤسسات الأمنية في الدولة، وهو ما يعتمد علي سلوك هذه الميليشيات خلال السنوات الماضية، ومدى توافقها مع مبادئ الاتفاق السياسي وقوانين الدولة، وحجم الراديكالية في فكرها، وأخيراً موقفها السياسي من النزاع.

إذ تظل الميليشيات أحد المشكلات الأساسية التي تواجه ليبيا، ولذا فالتوصل لحل يسمح للقيادة السياسية بالسيطرة علي الميليشيات والاستفادة منها هو تطور في غاية الأهمية، خاصة أنه من غير الممكن أن يتم تصنيف كل الميليشيات كتنظيمات أو جماعات إرهابية.

ويبقى في النهاية السؤال الأكثر أهمية الذي يجب طرحه في هذا التوقيت وهو هل مات اتفاق الصخيرات اكلينيكياً وفشلت محاولات التسوية السياسية التي قادتها الأمم المتحدة ومجموعة من الدول المهتمة بالشأن الليبي؟ ورغم أنه من الواضح أن الوقت لازال مبكراً للحكم علي اتفاق الصخيرات بالفشل التام، إلا أنه مما لاشك فيه ايضا أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي من ناحية، والفرقاء الليبيين من ناحية أخرى، لم يتمكنوا من تطبيق وتفعيل الاتفاق بشكله الحالي، وظلت النقاط التي تتعلق بعدد أعضاء المجلس الرئاسي، وتشكيل الحكومة، ووضع القوات المسلحة داخل هيكل الدولة، نقاط خلافية لم يتمكن الاتفاق من التوصل لحلول ترضي الطرفين بشأنها.

ولكن في نفس الوقت نجد أن الاتفاق تمكن من تغيير بعض الحقائق علي الأرض مثل القدرات العسكرية لمؤسسات الدولة، والاعتراف الدولي بالمجلس الرئاسي، وطبيعة التفاعل بين الشرق والغرب في سياق الصراع السياسي، وهو ما يعني أن الاتفاق به العديد من النقاط القابلة للتنفيذ.

ومن ثم، فعلى الرغم من أنه من غير الممكن الإعلان عن وفاة اتفاق الصخيرات، إلا أن هناك الكثير من البوادر التي تشير إلى احتمالية تعديل بعض بنوده، خاصة تلك التي تتعلق بالنقاط الخلافية السالف ذكرها.

وبالتالي، طالما ظل المجلس الرئاسي مسيطراً علي الوضع في طرابلس وقادراً علي قيادة الحرس الرئاسي، وطالما استمرت القوى الدولية والأمم المتحدة في الضغط علي الأطراف المختلفة لتنفيذ الاتفاق، لن يختفي اتفاق الصخيرات وما جاء به من تغييرات من المشهد.

وتحتاج المرحلة القادمة بالطبع إلى نمط مختلف من التدخل الدولي والإقليمي، وهو ما يحتاج لمراجعة الأدوار التي تلعبها كل من مصر والجزائر في سياق الصراع السياسي داخل ليبيا، بل والتنسيق بين دوريهما بحيث يتمكنا من لعب دور ملحوظ في تقريب وجهات النظر بدلاً من الأدوار الحالية التي تعمق من الانقسام.

كما تحتاج الاتفاقية في حال تعديلها إلى خطة إصلاح اقتصادي واضحة المعالم تكون بمثابة حافز للطرفين ومصدراً للضغط الشعبي، وتحتاج الاتفاقية أيضاً إلي تفصيل هيكل المؤسسات الأمنية داخل الدولة بحيث لا تتعارض أدوار هذه المؤسسات مع بعضها البعض، وفي نفس الوقت تتمكن الدولة من تطبيق نوع ما من اللامركزية فيما يتعلق بعمل المؤسسات الأمنية، وهو ما يعد بمثابة ضمان لكل من مصر والجزائر نظراً للفشل المتكرر للمؤسسات الأمنية المركزية في ليبيا في أداء دورها محلياً وإقليمياً.

لازالت فرص التسوية السياسية قائمة في ليبيا، ولكن استمرار الانقسام ومرور الوقت سوف يؤدي للمزيد من التطورات التي من شأنها أن تنهي احتمالات الحل السياسي وتزيد من حجم التهديد الإقليمي والدولي النابع من ليبيا ذاتها.