قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2016-12-29

نفذت نقابة اطباء السودان يوم 6 أكتوبر، اضرابا شاملا في العديد من المدن السودانية، بلغت نسبته 100% في جميع ولايات السودان المختلفة.

وقد تضامنت معه النقابات، والمنظمات، والأحزاب السياسية، وشبكة الصحفيين السودانيين والحركات المسلحة.

وقد عانت المستشفيات بالمدن المختلفة من حالة شلل تام نتيجة توقف خدمات الطوارئ، وبالرغم من محاولات حكومة الخرطوم الحثيثة لكسر واختراق الإضراب، الا ان محاولاتها تلك باءت بالفشل.

ويعد هذا الإضراب هو الإضراب الثالث منذ وصول تيار الإسلام السياسي للسلطة في يونيو 1989، حيث كان الإضراب الأول هو ذلك الذي نفذته نقابة الأطباء في ديسمبر عام 1989، بينما جاء الثاني بعده بأكثر من عشرين عاما في عام 2010.

وقد أتى هذا الإضراب الأخير كمؤشر قوي وتطور نوعي في دور الحركات النقابية، وهو الدور الذي ظل في حالة خمول نسبي منذ الاطاحة بالرئيس الراحل جعفر النميرى.

أسباب الإضراب

دعت نقابة أطباء السودان أعضائها في 6 أكتوبر للإضراب احتجاجا على تزايد حالات الاعتداء على الأطباء التي بلغت 16 حالة خلال السنوات الماضية، فضلا عن تردى ونقص الخدمات التي ساهمت في خلق بيئة غير صالحة، سواء فيما يتعلق بتقديم خدمة صحية للمواطن السوداني، أو لعمل الأطباء والقيام بمهمتهم، ومن هنا يمكن القول أن الإضراب استهداف الضغط على الحكومة من اجل توفير بيئة صحية جيدة للسودانيين.

وقد بلور الأطباء مطالبهم، في هذا الإضراب الذي حمل شعار "علشانك يا مواطن" عدد من المطالب الرئيسية أهمها:

* تحسين بيئة العمل في مستشفيات السودان الحكومية.
* تحسين شروط التدريب للكادر المتدرب.
* اصدار قانون لحماية الأطباء.

ويمكن القول أن الإضراب استهدف بالأساس مطالب مهنية الغرض منها إصلاح بيئة العمل، وذلك من خلال توفير المعدات الطبية، كالاسعاف لانقاذ الحياة، وتحسين شروط خدمة الأطباء، توفير الحماية لهم خلال فترة أداءهم لواجباتهم وتطوير مناهج التدريب، وسن قوانين لحماية الأطباء في أعقاب تزايد الاعتداءات على الأطباء في الفترة الأخيرة، مما أدى لتوقف الأطباء عن العمل بعدد من المستشفيات.

وفي السياق ذاته طالبت نقابة الأطباء بضرورة الارتقاء بالخدمات الطبية والصحية والإرشادية بمواصفات الصحة والطب المتعارف عليها عالميا، فضلا عن تقديم الخدمات للمرضى في الحالات الطارئة، والحد من ظاهرة وفيات الأمهات والأطفال والفقراء بسبب انعدام المساواة في الحصول علي تلك الخدمات، ووقف تبذير وإهدار أموال المواطنين عن طريق تصفية وبيع مؤسسات الدولة للقطاع الخاص، ورفع كفاءة التدريب للكوادر الصحية وتحسين أوضاعهم، ورفع مستوى السلامة والجودة والرقابة، ومعالجة الأخطاء الطبية وتعويض المتضررين وفقا لميثاق الصحة للجميع.

ومع دخول الإضراب يومه الثامن، أكد الأطباء بأن إضرابهم يسير بصورة قوية ومتماسكة تجاه حقوق قضاياهم ومطالبهم، الالتزام المهنى والاخلاقى بتغطية الحوادث والحالات الطارئة، وفي مواجهة ذلك هدد المجلس الطبي بمعاقبة الأطباء المضربين عن العمل.

في مواجهه الإضراب اتخذت الحكومة عدد من الإجراءات: فقد أصدر المجلس الطبي بداية وهو الهئية الأعلى في السودان قرارا بفصل بعض الأطباء والاختصاصيين من عدة مستشفيات متفرقة منها المستشفي الصيني بمدينة أم درمان، كما طال التهديد عدد من الأطباء والاخصائيين في مستشفي إبراهيم مالك، وذلك لتضامنهم مع إضراب أطباء السودان، كما اصدر المجلس قرارات تعسفية غير مبررة منها التهديد بالغاء تعيينات بعض الاطباء المضربين والعودة بهم إلى نظام العقود الموقتة، التى لا تلزم المجلس الطبى بقواعد ومعايير محددة تجاه هؤلاء الأطباء، كمان انها ورقة ضغط على الأطباء باحتمال الاستغناء عنهم.

وإلى جوار ذلك تفاجأ الأطباء يوم 13 أكتوبر، برفع أسمائهم وتسليمها للأمن الخاص وذلك لمنعهم من الدخول إلى المستشفيات لممارسة عملهم.

وفي سياق التصعيد المتبادل أصدرت لجنة إعلام أطباء السودان بيانا تندد فيه بالقرارات التي اتخذتها الحكومة، وأشارت إلى أن مثل هذه القرارات سوف تزيد من تمسكهم بتحقيق مطالبهم المشروعة، والاستمرار في الإضراب، والتصدى قانونيا لهذه المظالم.

وقد تعزز موقف الأطباء بتزايد عدد الاختصاصيين الداعمين للإضراب بصورة كبيرة في كل مدن السودان وامتنع البعض حتى عن مزاولة عملهم بالقطاع الخاص فضلا عن نشر تضامن موسع من قبل العديد من الجهات مثل:

-اللجنة التمهيدية لنقابة الصيادلة.
-اللجنة التمهيدية لاطباء المختبرات.
-نواب الجراحة العامة.
-جمعية أطباء التخدير.
-جمعية اختصاصيي علم الأمراض.
-اختصاصيي مستشفي عطبرة.

تداعيات ونتائج

الواقع أن القطاع الصحي في السودان يعانى من العديد من المشاكل، حيث أدى انخفاض الإنفاق الحكومى على الصحة على مدار السنوات الماضية إلى تكبد المواطن السودان العادي من ميزانيته الخاصة نحو 80% من إجمالى الانفاق الصحي وذلك نتيجة للتحول نحو الاستثمار الواسع للقطاع الخاص في الخدمات الصحية، حيث وصل عدد المستشفيات الخاصة إلى 1400 مستشفى.

وقد أدى هذا التحول إلى ارتفاع تكلفة العلاج في تلك المستشفيات مقارنة بالانفاق الصحى الحكومي في القطاع العام، وبالتالى عدم حصول الفقراء على خدمات صحية مناسبة، مما يعكس جزء من غياب العدالة الاجتماعية وتفشي عدم المساواة بين المواطنين السودانيين واتساع الفجوة بين اغنيائهم وفقرائهم.

وقد طرح إضراب الأطباء الذي شهده السودان أسئلة جوهرية فيما يتعلق بالأزمة النقابية في البلاد، فضلا عن السؤال بشأن إذا ماكان يعد إضرابا سياسيا أم مطلبيا خاصة أن الاغلبية العظمى من الأطباء وجدوا أنفسهم في حالة مواجهة بين الولاء السياسي والمهنى؟

لا شك أن الإضراب في حقيقته يعكس مطلب فئوى ويستهدف معالجة مهنية لمشكلات قطاع الصحة في السودان الذي يعانى من مشكلات عديدة.

لكن لا ينفي هذا أن الإضراب كفعل سياسى يستهدف الضغط على السلطة ليس بعيدا عن الواقع السياسى المعقد والمأزوم في السودان، ومن هنا قد يجوز القول أن هناك وجه آخر للإضراب يحمل في طياته بعدا سياسيا، حيث أعلنت قطاعات واسعة من المجتمع السوداني شملت الأحزاب السياسية والحركات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية تضامنها ودعمها لإضراب الأطباء.

وقد تمثلت القوى السياسية الى دعمت الإضراب في: قوى الإجماع الوطني، أحزاب نداء السودان، الحزب الشيوعي، حزب الأمة القومى، حزب البعث، الاتحادي الموحد، حزب المؤتمر السوداني.

وقد عبرت كافة هذه الجهات عن مساندتها المطلقة لمطالب نقابة الأطباء التي وصفوها بالمطالب المشروعة.

وقد شكل الإضراب تحديا كبيرا للحكومة الحالية، وأحدث أيضا حراكا سياسيا عنيفا ومضادا لحكومة المؤتمر الوطنى، وحرك المياه الراكدة للقوى السياسية والحركات المسلحة والتنظيمات الأخرى، وقد جاء هذا الدعم في محاولة منها لاستثمار هذا الإضراب سياسيا.

وكانت شبكات التواصل الاجتماعي، ساحة مهمة للتتفاعل مع واقع هذا الحدث، حيث شهدت هذه الساحة اتهامات متبادلة بين القوى السياسية المعارضة وحكومة الخرطوم، فضلا عن نشاط واسع من كافة فئات المجتمع التي تستشعر غبنا من سياسات النظام، ومن ثم كان الإضراب فرصة لتسخين الساحة السياسية والتفاعل مع القضايا العالقة لاسيما أن فشل الحوار الوطني قد سبب إحباطا كبيرا لدى قطاعات واسعة من السودانيين.

كما لا تفوت الإشارة إلى أن السيطرة على نقابة الأطباء تدان إلى حد كبير للتيار اليساري، وبالتالى ينظر البعض لهذا الإضراب باعتباره يحمل في طياته دوافع سياسية، لاسيما في ظل حالة غياب الأفق التي تقود فيها الحكومة البلاد.
ومن هنا يمكن القول أن إضراب نقابة الأطباء قد يكون بداية لعملية تراكمية، تتبعها حركات ومطالب لنقابات آخرى، ولا شك أن هذا قد يعزز من عودة روح الحركة النقابية السودانية، ولا تختلف البيئات النقابية في الشكل والمحتوي في السودان، بعد أن تخلت الدولة عن تلك النقابات، لرفضها الخضوع لها، وهو ما يمهد الطريق أمام إضرابات أخرى ربما تقود حتما في نهاية المطاف للعصيان الشامل.

خلاصة القول أن الاحداث المتسارعة التي صاحبت إضراب الأطباء، جسدت قوة وإرادة النقابات الفعالة، بالرغم من التهديدات والترغيبات من قبل الجهات الحكومية، التي تقف في وجه هذا الحراك النقابى، الذي من المنتظر أن يفضى إلى إصلاح الكثير من أحوال المؤسسات الصحية في السودان.

وأخيرا فقد القى إضراب الأطباء السودانيين بحجر ثقيل في البحيرة الراكدة، حيث مثل خروجا عن السياق الذي تمكن النظام من تكريسه خلال السنوات الأخيرة، وتمكن فيه من تجميد الحراك السياسى والاجتماعى.

فضلا عن أن الإضراب مثل تجاوزا لمحدودية الحركة والعجز الذي اتسمت به الأحزاب والفاعلين السياسيين والتي انتهى معها الأمل لدى قطاعات سودانية في التغيير، وربما يكون هذا الإضراب نواة لعودة النقابات للمشهد الاجتماعي والسياسي السوداني بعد غياب طويل.