عقدت مؤخرا وحدة الدراسات الدولية بمركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ورشة عمل، تحت عنوان "نحو تشكيل النموذج المصري للعدالة الانتقالية: الارجنتين نموذجا".
وتأتى هذه الورشة في إطار مشروع بحثي يسعي الي بلورة الموقف بشأن قانون العدالة الانتقالية المنتظر إصداره من البرلمان القادم تماشيا مع المادة (241) من الدستور والتي تنص علي: «يلتزم مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية».
في بداية الورشة أوضحت الدكتورة امانى الطويل مدير الوحدة الدولية، ان عملية العدالة الانتقالية دائما ما تتسم بالتعثر ليس فقط في مصر بل أيضا في دول أخرى في العالم، وذلك لأسباب سياسية داخلية وتحديات خارجية.
وهي أيضا عملية صعبة لا تحتاج فقط الى جهد الحكومات بل أيضا جهد المجتمع المدنى ومراكز التفكير والأكاديميين.
مشيرة الي ان دور مراكز الفكر هو طرح القضايا وقيادة عملية التفكير بشأن العدالة الانتقالية وفتح النقاش العام بشأنها بهدف ممارسة ضغوط إقرارها.
وأن هذا النقاش سيكون متواصلا في المستقبل للوصول الى منتج فكرى مصري حول هذه المسألة.
مشيرة الي ان عملية العدالة هي عملية طويلة ومعقدة وممتدة وتعتمد بالأساس على فكرة النفس الطويل، كما انها مرتبطة بإيمان المجتمعات بأهمية تحسين جودة الحياة ليس فقط اجتماعيا واقتصاديا بل أيضا في مسألة العدالة التي هي عجلة دفع التنمية والتقدم.
اشارت الى ان الورشة هي عبارة عن عرض تقدمه الأستاذة امل مختار الباحثة في الوحدة، لنتائج زيارة ميدانية استمرت عشرة أيام الى الارجنتين التقت فيها مباشرة مع الأطراف المعنية والمشتبكة مع قضية العدالة طوال أكثر من 30 عاما هناك.
في بداية العرض اعتبرت الباحثة أن العدالة الانتقالية تتعامل مع ظروف استثنائية، مرتبطة بحجم التجاوزات من ناحية، وفي طبيعة مرتكب التجاوزات من ناحية أخرى.
وقدمت تعريفا مختصرا لمفهوم العدالة يتلخص في ثلاثة محاور أساسية، وهي إيقاف التجاوزات، ومعالجة اثارها السلبية على الضحايا وذويهم، واخيراً ضمان عدم تكرار هذه التجاوزات في المستقبل.
وأكدت أمل مختار أنه ليس هناك نموذج واحد لتحقيق العدالة الانتقالية.
ولكنها نماذج مختلفة طبقا للبيئة السياسية والاجتماعية وطبيعة توازنات القوي فيها مشيرة الي أن التعامل مع الخبرات السابقة يكون بهدف الاستفادة والاسترشاد والتعلم والنقل الجزئى أحيانا وليس الكامل ابدا.
بالإضافة الي أن آليات العدالة الانتقالية في الخبرات الدولية قد اختلفت فمنها ما غلب على مسارها الية المصالحة وأخرى الية المحاكمات وأخرى الإصلاح المؤسسى فضلا عن العفو.
لكن المؤكد ان كافة الخبرات الدولية اعتمدت الية توثيق وكشف الحقيقة باعتبارها العمود الفقرى لمسار العدالة.
بالنسبة للحالة الأرجنتينية والتي شهدت فترة حكم سلطوى بداية من 1976 انتهى بسقوط النظام عقب هزيمته العسكرية في 1983.
وقد خلف هذا النظام ارث من ضحايا تم تقديره ب 30 الف شخص نتيجة التجاوزات والانتهاكات وكانوا بين قتلى ومختفين ومعتقلين جميعهم من المعارضين اليساريين.
وخلال فترة الحكم السلطوى وبعد التحول الديمقراطى وحتى الان ما زالت الارجنتين تشهد مسارا متعرجا طويلا للعدالة الانتقالية جدير بالمتابعة والرصد والدراسة والفهم.
وقد أوضحت الباحثة انها قامت باستخلاص مجموعة من الملامح الرئيسية من البحث الميدانى.
ومنها:
• أدوات إنجاح مسار العدالة في الارجنتين
يعد الدور المحورى لمنظمات المجتمع المدنى والعمل المنظم لاهالى الضحايا هو اهم هذه الادوات، حيث عملت هذه المنظمات بطريقة منظمة وخاصة في مسألة توثيق الحقيقة وجمع المعلومات والتواصل مع الضحايا وذويهم.
وقد بدأ هذا العمل حتى قبل التحول الديمقراطى واستمر بقوة أكبر بعد ذلك ومستمر الى اليوم رغم ما واجهوه من صعاب على فترات متفرقة.
ولم يقتصر دور تلك المنظمات على جمع الوثائق او التواصل مع عائلات الضحايا فقط، بل تعدى ذلك الى الضغط من اجل تغيير القوانين والدستور بما يكفل تفعيل احترام حقوق الانسان.
بالإضافة الى الخبرة الأرجنتينية المتميزة وربما المتفردة في وجود منظمة أهلية غير تابعة للدولة تقوم بدور فنى متميز في مجال الطب الشرعى وصلت الى درجة من التخصص ما جعل تقاريرها معترف بها من قبل المحاكم الرسمية.
ويأتي دور المرأة في قلب أهمية هذا العمل المجتمعى، والذي تمثل في "جمعية أمهات مايو" او "Madres de plaza de Mayo".
والتي اعتبرت اول معارضة سياسية بدأت في اثناء الحكم السلطوى في وقت تم فيه حل الأحزاب السياسية وعدم السماح بعمل المنظمات الحقوقية.
وقد تشكلت في البداية من أربعة عشر سيدة من أمهات الشباب اليسارى المعارض المعتقل من قبل النظام ثم زادت اعدادهم ليصلوا الى عشرات الالاف من الأمهات والجدات ثم الأبناء والاحفاد.
وقاموا بالإعلان عن قضيتهم في صمت من خلال التجول وهم يحملون أسماء ابناءهن على رؤوسهن في ميدان مايو امام القصر الرئاسي اسبوعيا طوال أكثر من ثلاثين عاما.
بالإضافة الى ذلك الأهمية المحورية لأداة كتابة الحقيقة، فكما سبقت الإشارة كان للمجتمع المدنى وأهالي الضحايا دور مهم في جمع المعلومات والبدء في توثيق الحقيقة في اثناء الحكم السلطوى، لكن النقلة الكبرى في هذا المسار حدث عندما أصدر اول رئيس منتخب بعد نهاية العهد السلطوى "راؤول الفونسين" قرارا بتشكيل اللجنة الوطنية للحقيقة "CONADEP".
وانتهت اللجنة بإصدار تقرير رسمي تم تسليمه لرئيس الجمهورية واعلانه للمواطنين.
حيث توثيق الحقيقة وحفظ ذاكرة جماعية للامة فضلا عن كونه مستند قوى يمكن على أساسه محاكمة رموز النظام السابق.
وتشخيص لمواطن العلة في مؤسسات الدولة وقوانينها والتي كانت السبب في حدوث تلك التجاوزات وعدم التمكن من ايقافها الا بعد سقوط النظام.
وهذا ما يفسر ان تقرير لجنة الحقيقة جاء تحت عنوان "Nunca Mas " او "ابدا لن يحدث مرة اخرى".
وقد شهدت التجربة الأرجنتينية حالات من التراجع في الإرادة السياسية وعدم الرغبة في تفعيل مسار المحاكمات وتفضيل فكرة العفو العام كما كان طوال فترة التسعينيات في عهد الرئيس الأسبق كارلوس منعم.
الا ان الحقيقة المكتوبة والموثقة ظلت أساسا يمكن الرجوع اليه والاستناد عليه لبدء مسار المحاكمات إذا ما تغيرت الإرادة السياسية في وقت لاحق.
وهو ما حدث بالفعل منذ 2003 عندما وصل الى الرئاسة نستور كريشنر الذى شهد عهده الغاء قوانين العفو وبداية فتح المحاكمات وإصدار احكام فعلية بحق مرتكبى التجاوزات.
• شركاء الانتهاكات
ومن الحقائق التي اشارت اليها الباحثة هي ان الأجهزة الأمنية التي ارتكبت التجاوزات بصورة مباشرة في حق المعارضين اليسارين طوال السبع سنوات فترة الحكم السلطوى، لم تكن هي وحدها المسئولة عن تلك التجاوزات.
حيث اثبتت الحقائق وقاعات المحاكم وساعات التحقيقات انه لا يمكن وقوع هذا الحجم من التجاوزات والانتهاكات بحق المعارضة دون وجود شركاء.
وقد كانوا في الحالة الأرجنتينية رجال الدين والاعلام ورجال الأعمال وأخيرا الدور الخارجي المتمثل في هذه الحالة في الولايات المتحدة الامريكية.
فعلى سبيل المثال اباحت الكنيسة قتل اليساريين تحت شعار فصل الغث عن الثمين، وانه امر مشروع لحماية المسيحية من خطر الشيوعية.
وعلى الرغم من ظهور شريحة رفيعة من القساوسة الرافضين لهذا النهج وعرفوا باسم "Left wing" الا انهم كانوا اقلية وسط اغلبية كاسحة تؤيد بل تبارك تجاوزات النظام.
من جانب اخر اثبتت الاعترافات والتحقيقات ان بعض ملاك الشركات الكبرى ساهموا بشكل مباشر في التخطيط والتمويل بل والتنفيذ أحيانا لعمليات خطف المعارضين اليساريين من بين الطلبة والعمال.
وقد كان هناك وزراء من أصحاب الشركات في حكومات النظام السلطوى.
اما الاعلام فقد قام بدور كبير في تزييف وعى المواطنين، حيث كان الاعلام ينفى مسئولية النظام عن اى انتهاكات لحقوق الانسان.
الى جانب الدعم الفني والتأييد السياسى من قبل الولايات المتحدة والذى كان في واقع الامر موجها ليس فقط للنظام السلطوى في الارجنتين ولكنه وجه لكافة الأنظمة الديكتاتورية في الدول اللاتينية طوال فترة الحرب الباردة في اطار حالة التنافس والصراع بين القطبين.
فقد ظهر منذ 1975 عملية "Plan Condor" وهى عملية مخابراتية مشتركة بين ال CIA وديكتاتوريات أمريكا اللاتينية بهدف القضاء على الشيوعية فكرا واحزابا وجماعات.
وقد تم وفقا لهذه الخطة قمع حركات المعارضة اليسارية بقسوة في دول القارة حتى وصل عدد ضحاياها الى نحو 60 الفا اغلبهم من الشباب والمثقفين اليساريين.
وما زال الى الان القضاء الارجنتينى ونظيره في دول لاتينية أخرى ينظر قضايا متهم فيها افراد من جنسيات مختلفة ضمن هذه الخطة.
• العلاقة بين احترام حقوق الانسان والامن القومى ليست علاقة عكسية
أوضحت الباحثة خلال الورشة جانب اخر مهم في نتائج البحث الميدانى، وهو ان اهم ما تعلمه الارجنتينيون بعد سنوات الحكم السلطوى ثم سقوطه ثم كتابة الحقيقة واعلانها، هو ان ما كان يروجه النظام السلطوى بأن انتهاك حقوق المعارضين بل وانتهاك حقوق الانسان بشكل عام هو امر ضرورى لتحقيق الهدف الاسمى الا وهو الحفاظ على الامن القومى امر غير صحيح على الاطلاق.
وقد قبل غالبية الشعب فكرة تعرض فصيل من الشعب "اليساريين" لهذه التجاوزات في سبيل الحصول على الاستقرار وحماية البلاد من المخططات السوفيتية لتحويل الارجنتين الى كوبا أخرى.
وانه يمكن الحفاظ على الامن القومى في ظل نظام يحترم حقوق الانسان وقوانين تجرم ارتكاب في حق المعارضة.
بل والأكثر ان النمو الاقتصادى والتقدم الاجتماعى قد تحقق مؤخرا في ظل أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الانسان.
• دور الفن في اصلاح المستقبل
اختتمت الباحثة ملاحظاتها على مسار العدالة في الارجنتين بالإشارة الى الأهمية التي يلعبها الفن أولا كأداة لحفظ ذاكرة الامة وتوثيق حقيقة ما حدث في الارجنتين من تجاوزات خلال فترة الحكم السلطوى.
ثانيا باعتباره وسيلة لتعليم الأجيال الحالية والقادمة انه لا يمكن قبول تكرار أخطاء الماضى.
وقد حضر الورشة مجموعة من الخبراء والباحثين، وممثلين عن منظمات مجتمع مدنى مصرية وسودانية، وفنانين، وصحفيين واعلاميين.
وشارك الحضور بمداخلات هامة اثرت الحوار بشكل مفيد وتنوعت التعليقات بين ثناء على فكرة اجراء البحوث الميدانية وبين محاولة التركيز على الحالة المصرية وطرح أفكار عن مسار العدالة الانتقالية فيها بين اختيار المحاكمات او العفو او التركيز على اصلاح المؤسسات.
بالإضافة الى ذلك طرح بعض المشاركون بعض الأسئلة حول جدوى واهمية طرح قضية العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسات في الوقت الراهن في مصر على الرغم من ان التوجهات الرسمية للنظام المصرى الحالي لا تضع هذه القضية في أولوياتها في حين تبرز قضيتى التنمية الاقتصادية وتوفير الامن ومحاربة الإرهاب على قمة سلم أولويات الحكومة.