سقط ما اسمته حكومة العدالة والتنمية طوال السنوات الخمس التي خلت "سياسة تصفير المشاكل" التي تعتمد في جوهرها على بناء وترسيخ علاقات مصلحيه مع دول الجوار، وتضمن حضور تركي في السوق الإقليمية المعقدة والمتشابكة.
غير أن سلوك تركيا تجاه أحداث المنطقة، وبالذات الربيع العربي ساهم في تشويه الصورة النمطية للسياسة الخارجية التركية بعد التدخل في الشأن الداخلي لدول الجوار، وكشف عن ذلك توتر العلاقة مع القاهرة بعد إقصاء جماعة "الإخوان" عن الحكم، والتدخل المكثف في سوريا فضلا عن المراوحة مع طهران، وأيضا دخول المناخ مرحلة الشحن مع الغرب وواشنطن في ظل دعمهما لقوات حماية الشعب الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا.
والأرجح أن ضعف مناعة السياسة الخارجية التركية انعكس سلبياً على الداخل، وبرز ذلك في تصاعد أعمال العنف في تركيا، وأخرها الهجوم على مطار اسطنبول في يونيو الماضي، وتوسيع حزب العمال الكردستاني دائرة هجماته، وهو ما لا يعد وثيق الصلة فحسب بضعف الأمن في الداخل التركي، بل هو مرتبط كذلك بانحسار قدرات أنقرة على التحكم بقواعد اللعب مع تنظيم "داعش" الذي انقلب على أنقرة التي بدأت التضييق على طرق إمداده ونشاطاته.
في هذا السياق العام ثمة انعطافة لا تخطئها عين في السياسة الخارجية التركية، بدأت بتطبيع العلاقة مع تل أبيب، وإصلاح العلاقة مع موسكو بتقديم اعتذار رسمي عن إسقاط الطائرة "سوخوي" نهاية نوفمبر الماضي فضلا عن انعطافة سياسية جديدة باتجاه الأزمة السورية تتمثل في تقليل اندفاعات نخب الحكم التركية في المطالبة بضرورة إسقاط الأسد.
تأسيساً على ذلك يتوقع حدوث تغيير في السياسة الخارجية التركية، وما ظهر في العلاقة مع موسكو وإسرائيل يشير إلى انعطاف كبير، بعض منها يفهم بمنطق المصلحة القومية بما فيها من سياسة واقتصاد، وبعض آخر بضرورة الحفاظ على تركيا في المعادلة الإقليمية.
أيضا تفتح تصريحات المسئولين الأتراك إزاء قضايا الخارج الباب واسعاً حول حدود الثبات والتغير المحتمل في السياسة الخارجية التركية.
ملامح إعادة عقلنة السياسة الخارجية التركية كشفتها تصريحات رئيس الوزراء بن على يلدريم الذي أكد مطلع يونيو الماضي "إن السياسة الخارجية لحكومته ستعتمد على كسب مزيد من الأصدقاء وتقليل الأعداء".
تهدئة التوتر مع أوروبا
ملامح التغيير السياسي المتوقع تجاه الاتحاد الأوروبي كشفها تعيين عمر جيليك الناطق باسم العدالة والتنمية وزيراً للشئون الأوروبية بدلا من فولكان بوزكير مهندس الاتفاق الموقع مع أوروبا في 18 مارس الماضي بشأن وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا.
الرتق مع أوروبا كان قد اتسع سريعاً مع الأيام الأولى لحكومة يلدريم، فعشية حضورها القمة الإنسانية في اسطنبول في 22 مايو الماضي، أشارت المستشارة الألمانية إلى "بعض التطورات في تركيا التي تشكل مصدر قلق شديد"، وأكدت امتعاض دول الاتحاد من رفع الحصانة عن نواب معارضين في البرلمان التركي.
في سياق متصل كان السلوك الأوروبي باتجاه تأجيل منح المواطنين الأتراك تأشيرة شينجن، قد دفع حكومة أنقرة على لسان وزير الخارجية مولود تشاووش إلى التهديد في 25 مايو 2016 بإلغاء أنقرة اتفاقياتها مع الاتحاد، بما فيها اتفاق استعادة المهاجرين.
وكان التوتر بين أنقرة والاتحاد الأوروبي قد وصل إلى الذروة في 12 مايو 2016 بعدما شن عدد كبير من النواب ورؤساء الكتل النيابية في البرلمان الأوروبي هجوماً شديداً على مشروع إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة دخول "شينجن" إلى الأراضي الأوروبية، واصفين إياه بأنه "خضوع من الاتحاد الأوروبي لديكتاتور يمارس الابتزاز" في إشارة إلى فرض أردوغان عددا من الشروط على أوروبا مقابل تنفيذ تعهداته بمنع تدفق اللاجئين من حدود بلاده إلى شواطئ أوروبا.
غير أن أنقرة سعت مؤخراً إلى معالجة الاحتقان مع الاتحاد الأوروبي عشية منح المفوضية الأوروبية في يونيو الماضي تأييدها المشروط لإعفاء الأتراك من تأشيرات دخول الاتحاد.
وفي تطور لافت أيضا أعلن الاتحاد الأوروبي عن فتح فصل جديد من فصول التفاوض في شأن عضوية تركيا المحتملة فيه، وهو الفصل رقم 33 الخاص بالميزانية، ليصبح بذلك عدد الفصول المفتوحة مع تركيا في مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي ستة عشر فصلا من إجمالي 35 فصلا، الأمر الذي من شأنه أن يجدد آمال تركيا في اللحاق بالنادي الأوروبي.
المراوحة مع واشنطن
على صعيد العلاقة مع واشنطن، هبط منحنى العلاقة في ظل تصاعد التوجهات السلطوية لأردوغان.
وكشف التقرير السنوي حول حقوق الإنسان الصادر عن الخارجية الأمريكية في أبريل الماضي، عن أن نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقمع الصحافة وحرية التعبير، وكان بارزاً، هنا، رفض أردوغان قرار القضاء التركي بالإفراج عن رئيس تحرير صحيفة "جمهوريت" جان دوندار ومساعده عشية اتهامهم بنشر صور لشحنة أسلحة خلال تهريبها إلى سوريا وأوقفتها قوات الدرك قبل عامين ناهيك عن مصادرة شركة "كايناك" التي تضم 19 مؤسسة صحيفة وإعلامية، ووضع يد الحكومة في نوفمبر 2015 على شركة "كوزإيبك" ومؤسساتها الإعلامية بتهمة الدعاية وتمويلها من جماعة "جولن" المتهمة ببناء كيان موازى لقلب نظام الحكم.
وبينما كان أحمد داوود أوغلو وجها مقبولاً لواشنطن، خاصة وأنه أحد الأطراف الداعمة لعملية التسوية السياسية مع الأكراد فضلا عن انتقاده احتجاز صحفيين وممثلين عن المجتمع المدني، فلا تثق واشنطن بدرجة كافية في يلدريم الذي أعلن عن قناعاته بكل خيارات الرئيس، وحماسته للنظام الرئاسي.
ما سبق لا يثير حفيظة العلاقة مع واشنطن، أو يرشحها للتوتر، فثمة خيبة أمل تعتري أنقرة إزاء الدعم الأمريكي المتزايد لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب الكردية، اللذين تعتبرهما أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني الانفصالي داخل أراضيها.
والأرجح أن ثمة شعور عام سائد في أنقرة أن واشنطن فضلت "إرهابيي كوباني" ما خلق حالة من فقدان الثقة، وربما انعدامها في المستقبل القريب، خصوصا بعد بث وكالة الأنباء الفرنسية صورا لقوات أمريكية خاصة تحارب إلى جوار القوات الكردية، ناهيك عن مد الولايات المتحدة مقاتلي الفصائل الكردية بالسلاح، وغض الطرف عن تحركاتها في المناطق الحدودية مع تركيا، الأمر الذي يسمح لها بربط المناطق ذات الطابع الكردي بعضها ببعض، وبالتالي تسهيل عملية الانفصال عن سوريا أو على الأقل تكوين إقليم فيدرالي.
في المقابل هناك غضب تركي من غياب دعم أمريكي واضح كانت تنتظره أنقرة في أزمتها مع موسكو، إذ لم يتعد دور واشنطن حدود الموقف الأخلاقي.
وهناك أيضا خلاف على طلب تركي بإقامة منطقة آمنة شمال سورية على شريط حدودي بطول 80 كيلو متر وبعمق 40 كيلو متر.
إذ لا تثق واشنطن بنيات أنقرة في محاربة تنظيم داعش وفي وقف تدفق الجماعات الراديكالية.
الانقلاب التركي تجاه سوريا لم تعد نغمة "رحيل الأسد" ضمن المقطوعات التي اعتادت تركيا عزفها منذ بدايات الأزمة في سوريا،وكشف عن ذلك حديث يلدريم الذي قال مطلع يونيو الجاري "في سوريا يُقتل إخواننا منذ خمس سنوات من دون سبب" دون الإشارة إلى رحيل الأسد، وهو ما كرره وزير الخارجية التركي خلال مؤتمر دولي في أنطاليا نهاية مايو الماضي دون الإشارة إلى ضرورة إقصاء الأسد.
انطلاقاً من هذا الطرح، حرصت أنقرة على توجيه بوصلتها السياسية إزاء الأزمة السورية عبر فرملة اندفاعات أردوغان تجاه الأسد وترميم الصورة واستعادة المشهد السابق مع سوريا.
التغير التركي تجاه سوريا جاء مع عجز أردوغان عن تفكيك التحالف الأمريكي-الكردي السوري، وغض واشنطن الطرف عن تهديدات أنقرة غير المجدية بالاختيار ما بين تحالفها التاريخي مع أنقرة وتحالفها الجديد مع أكراد سوريا فضلا عن إدراك تركيا محورية الدور الروسي في سوريا.
ولذلك باتت تركيا تدرك اليوم وصول سياستها الخارجية تجاه الأزمة السورية إلى طريق مسدود، كما أصبح موقفها أكثر تعقيداً في ظل التفاهم الأمريكي–الروسي على الحل السياسي للأزمة.
في هذا السياق لم يعد من الممكن لتركيا البقاء على استراتيجيتها السابقة في إسقاط الأسد أو حتى الرهان على المجموعات المسلحة لتحقيق أهدافها.
كما لوحت أنقرة مؤخراً بإشارات جادة تكشف عن تحولات جذرية في التعاطي مع الأزمة السورية، من بينها التنسيق مع موسكو بالتزامن مع تغيير الطاقم المسئول عن إدارة الملف السوري داخل وزارة الخارجية التركية فضلا عن دائرة الاستخبارات والأجهزة الأمنية المنوط بها متابعة الملف السوري.
بجوار ما سبق كُشف النقاب عن طلب تركي من الجزائر فتح ورعاية خط اتصال مع دمشق بهدف التنسيق المشترك لمواجهة إعلان أكراد سوريا فيدراليتهم مع اقتراب نجاحاتهم في ربط المدن الكردية شرقاً وغرباً للمرة الأولي بما يساعد على استكمال بناء مقومات الإقليم الكردي السوري جيواسترتيجيا وسياسيا.
المحيط الإقليمي التطورات الإقليمية وحالة السيولة السياسية في المنطقة، ودخول روسيا على خط الأزمة السورية، قد تدفع أنقرة للحفاظ على وتوثيق علاقاتها مع محيطها الإقليمي.
فبعد الشروع في تطبيع العلاقة مع روسيا، وإنهاء الخلاف مع إسرائيل، وقبل ذلك وقف تدهور العلاقة مع إيران التي رغم اتساع البون بينهما سياسيا، فثمة ما يجمعهما في الملف السوري، أهمها منع تأسيس دولة كردية.
كما تسعى تركيا إلى توثيق روابطها مع الرياض والدوحة، خاصة أن ثمة رغبة مشتركة لبناء تحالف سنُي واسع لمواجهة المد الإيراني في منطقة الخليج، لاسيما بعد تصاعد دور طهران في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
ولذا يتوقع مواصلة أنقرة نهجها بشأن التعامل مع الدائرة الخليجية وإيران، فتحافظ على إقامة حوار استراتيجي على مستوى عال معهما بالنظر إلى حجم التفاعلات والمصالح المتزايدة معهما، والتي يصعب ضبطها بالآليات التقليدية.
ولذا تبلور أنقرة هذه الآلية بوصفها الأكثر فعالية لتأمين حوار متواصل يشمل جميع القضايا التعاونية والخلافية.
ويندرج ضمن هذا السياق الزيارات المتبادلة وتبادل وجهات النظر إزاء القضايا الحساسة في المنطقة، وفي الصدارة منها الأزمة السورية.
القاهرة: خطوة لم تعد مستحيلة في المقابل لم يبق أمام أنقرة سوى نقلة واحدة: الاتصال بالقاهرة.
قد تبدو هذه المبادرة صعبة على أردوغان لكنها لم تعد مستحيلة، فالمصلحة باتت تحتم التقارب.
ويتعالى الحديث اليوم عن مصالحة تركية- مصرية، وكشف عن ذلك ما صدر عن رئيس الوزراء التركي في 29 يونيو الفائت بشأن إعادة ترتيب العلاقة مع القاهرة، حيث قال " إنه لا مانع من تطوير العلاقات الاقتصادية بين تركيا ومصر وعقد لقاءات بين مسؤولي البلدين".
وأضاف رئيس الوزراء التركي في حوار مع قناة TRT التركية بشأن عزل مرسي "إننا لا يمكن أن نوافق على التغيير بهذه الطريقة..
هذا جانب من المسألة، إلا أن الحياة تستمر على الجانب الآخر، ونحتاج لبعضنا بعضا، لذلك لا يمكننا قطع كل شيء فجأة حتى لو أردنا ذلك".
تصريحات يلدريم التي تعبر عن تحول نوعي وهادئ، لاقت ترحيباً مشروطاً من القاهرة، التي ما زالت ترى أن ثمة تناقض في التصريحات والمواقف التركية و"التأرجح" ما بين إظهار الرغبة في تطوير العلاقات الاقتصادية مع مصر وبين استمرار "حالة عدم الاعتراف بشرعية ثورة 30 يونيو".
على أية حال فثمة دوافع عدة تعزز التوجه للمصالحة بين البلدين أولها السيولة السياسية في الإقليم، وهو ما قد يدفع البلدين إلى مراجعات وتراجعات في سياستهما الخارجية بالنظر إلى تراجعهما مقابل تعزيز إيران لمواقعها في المنطقة، ثم تحولها شريكاً للغرب بعد أن قطعت شوطاً معتبراً على صعيد تسوية أزمة برنامجها النووي.
وثانيها يرتبط بالنهج البراجماتي لحزب العدالة والتنمية، الذي أدرك أن صلاحية الاستثمار في البعد الأيديولوجي في السياسة الخارجية من خلال دعم جماعات الإسلام السياسي، وفي الصدارة منها ورقة "إخوان القاهرة" لم تعد ذات جدوى، إذ إن توجهات أنقرة حيال القاهرة طوال السنوات الثلاث الماضية ألحقت بها خسائر اقتصادية ودبلوماسية.
وثالثها رغبة تركيا في أن تكون القاهرة نافذة بديلة عن سوريا إلى العالم العربي وأفريقيا، بعد أن أصبحت موسكو وطهران لهما القول الفصل في قرارات دمشق وتحركات الأسد.
حماس: ضمان دعم معنوي فيما يخص العلاقة مع حماس، فقد تحافظ تركيا على دعمها المعنوي للقضية الفلسطينية، لكن دون أن يثير ذلك حساسية إسرائيل، خاصة بعد توقيع المصالحة، والتي تضمنت التزام إسرائيل بدفع 21 مليون دولار تعويضات لأسر ضحايا السفينة مرمرة، وتخفيف الحصار عن غزة وليس كسره أو رفعه تماماً مقابل السماح لأنقرة باستكمال مشروعات بنية تحتية في قطاع غزة – محطة لمعالجة المياه ومحطة لتوليد الكهرباء وبناء مستشفى-.
وإذا كان اتفاق المصالحة بين أنقرة وتل أبيب ضمن استمرار مقرات حركة حماس وبقاء بعض قادتها في أنقرة، فقد ألزم حماس بالتعهد بعدم تنفيذ أي عمليات للحركة ضد إسرائيل من داخل أراضيها.
في هذا السياق العام تبدو السياسة الخارجية التركية مرشحة للتغير، وبخاصة ما يتعلق بالأزمة في سوريا والعلاقة مع القاهرة فضلا عن إعادة قراءة طبيعة العلاقة المصلحية والتاريخية مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، بعد خذلانهما أنقرة، والذي ظهر في دعم الأولي لأكراد سوريا، واعتراف ألمانيا بالإبادة الأرمينية وتمرير البرلمان الفرنسي مقترح قانون يعاقب من ينكر هذه الإبادة.
في المقابل تسعى أنقرة إلى توظيف تصالحها مع موسكو وتل أبيب لاستعادة التبادل التجاري المميز مع البلدين وضخ النشاط في قطاع السياحة فضلا عن إدراك أنقرة أهمية التعاون مع موسكو لحل الأزمة في سوريا والتلاقي مع إسرائيل لترميم العلاقة مع واشنطن.