قبل سنوات قليلة، لم تكن المملكة العربية السعودية مشغولة كثيرا باحتلال موقع القيادة في الإقليم العربي، وعلى الرغم من اقتراب المملكة من موقع القيادة الفعلية واكتسابها أغلب مؤهلاتها لم يتردد مصطلح القيادة السعودية للمنطقة أو المنافسة السعودية على القيادة الإقليمية، بل لم تعر المملكة اهتماما لبروز أدوار إقليمية لدول أخرى منافسة، بما فيها دولة قطر، التي نشطت بشكل ملموس في ساحات متعددة بينها ساحة الخليج التي تمثل الساحة الأولى للمملكة.
وظلت المملكة أقرب إلى القوة المتثاقلة البطيئة التي لا تتحرك بسرعة ولا تتأثر بمشاغبات القوى الصغيرة، ونأت بنفسها عن التدخل في الصراعات والمعارك والحروب الدائرة بالإقليم، وسعت إلى التطوير الداخلي وتعظيم الاستفادة بنعمة الثراء المالي.
ولكن ما أن تولى الملك سلمان زمام القيادة في يناير 2015 حتى بدت المملكة في صورة جديدة مختلفة عن السابق، فقد شرع الملك في إعادة ترتيب البيت الداخلي سواء بيت الحكم أو الدولة السعودية من الداخل بشكل عام، ولأجل ذلك صدرت عشرات القرارات الملكية تتناول مختلف شؤون الحياة السياسية والاقتصادية.
ولم يمض غير ثلاثة أشهر حتى أطلقت "عاصفة الحزم" في اليمن في سابقة غير معهودة في السياسية السعودية؛ فلم تدخل المملكة في حرب عسكرية مباشرة إلا حينما تعرضت هي أو إحدى شقيقاتها في الخليج لعدوان عسكري مباشر، وكانت تدخل هذه الحروب مستندة إلى تحالف دولي واسع بقيادة الولايات المتحدة.
أما في "عاصفة الحزم" فقد دخلتها بقرار مستقل ضمنت له الشرعية من المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، وبنت المملكة تحالفا عربيا خاصا بها عمل خلفها وبقيادتها، وفضلا عن الحرب على جبهة اليمن تبنت المملكة سياسات أكثر تشددا إزاء القضية السورية في 2015 فأعلنت استعدادها لإرسال قوات عسكرية إلى سوريا، وتبنت سياسات أكثر صرامة إزاء الحليف الأمريكي والرئيس أوباما بعد أن تأكدت من أن سياساته التراجعية غير عابئة بأمن الخليج، فسعت إلى توسيع دوائر الشركاء العالميين والإقليميين مع روسيا والصين وفرنسا ومصر وباكستان وتركيا، ولم تتردد في تبني أقصى السياسات الراديكالية حتى مع أقرب حلفائها مثل لبنان حين قررت في فبراير 2016 وقف مساعداتها للجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية، على خلفبة مواقف حزب الله.
ومضت سياسة الحزم السعودية لتطال مختلف القضايا، فعقب تولي الملك سلمان تعاظم الحديث عن تبديل السعودية لتحالفاتها الإقليمية، وعن أنها لا تنوي الدخول في مواجهة إقليمية مع الإخوان وأنها تتجه للتقارب مع قطر وتركيا على حساب تحالفها مع مصر والإمارات، واتخذت المملكة بعض الخطوات التي كرست من هذه الانطباعات في البداية، فقد برزت مظاهر الود بينها وقطر ولم يعد الحديث عن إدرج الإخوان ضمن قائمة الإرهاب أمرا دارجا في الإعلام السعودي، وعاود بعض المتعاطفين مع الإخوان تصدر المشهد الإعلامي في المملكة، وإلى حد كبير اختفى من الخطاب السياسي السعودي تلك النزعة الحادة في المواجهة مع الإخوان، وحدث قدر من الفتور في علاقة المملكة بمصر مع هجوم كتاب سعوديين على الدور المصري، والانحياز لعلاقة المملكة بتركيا على نحو برز في الإعلان عن إنشاء مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين في ديسمبر 2015.
وفي الداخل السعودي ظهرت بعض الانتقادات لسياسة الملك الراحل (عبدالله بن عبدالعزيز) التي اعتبرها البعض أنها كانت ضعيفة وافتقدت إلى الحسم، وهو الأمر الذي كان محل جدال عميق، حيث دافع آخرون عن تلك السياسة التي اعتبروا أنها بلغت منتهى الحزم والقوة مع الولايات المتحدة قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي وضع خلالها الملك الراحل علاقات بلاده مع الولايات المتحدة على المحك بسبب القضية الفلسطينية، كما ذكر البعض بموقفه الحاسم من النظام السوري بعد اغتيال رفيق الحريري 2005، وكان الاستشهاد الأساسي بعضوية المملكة في مجموعة العشرين الاقتصادية الدولية منذ 2008 للإشارة إلى ما حققته السعودية في عهد الملك الراحل من اعتراف دولي بمكانتها كقوة اقتصادية دولية ذات تأثير كبير في الاقتصاد العالمي، كما ذكر البعض بموقف الملك خلال الثورات العربية منذ 2011 ووقوفه الحاسم مع مصر وبالتضاد مع الموقف الأمريكي وإدارة الرئيس أوباما، وبياناته المساندة للجيش والشعب في مصر بعد ثورة يونيو 2013، على نحو كان له أكبر الأثر في تثبيت أركان الدولة المصرية ونزع الشرعية عن تيار الإخوان المسلمين.
وليس الهدف مما سبق تأكيد موازاة حزم سياسة الملك عبدالله بحزم سياسة الملك سلمان، وإنما تحديد عناصر الاستمرارية والثبات في تلك السياسة برغم تغير الملوك، والتأكيد على أن كل تحدي أو تهديد تعرضت له المملكة كان له مقداره المناسب من الاستجابة التي لم تختلف كثيرا في عهد الملك الراحل عن عهد الملك الحالي، فالسياسات لم تكن ضعيفة، ولكن مواقف وتوجهات الملك عبدالله هي فقط التي لم تكن تروق لأنصار هذا الفريق من الناقدين، وهو ما جعلهم يعتبرون السياسات التي اختلفوا فيها معه مؤشرا على الضعف، وهو ما لم يكن صائبا على الإطلاق.
في ضوء ذلك، يمكن القول بأن هناك ملامح جديدة في سياسات المملكة برز بعضها في السنتين الأخيرتين لحكم الملك عبدالله، واتضحت بجلاء مع تولي الملك سلمان، وتشير جميعها إلى اتجاه المملكة إلى إعادة صياغة دورها الإقليمي على النحو التالي:
الاتجاه إلى القيادة المباشرة للإقليم:
فعلى الرغم من أن المملكة لم تدع قيادة الإقليم في العقود السابقة واكتفت باعتبارها واحدة ضمن مثلث القيادة العربي (مصر والسعودية وسوريا) على مدى عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعلى الرغم من أن نبرة الخطاب الإعلامي للمملكة وخطابها السياسي لم يركزا على ذلك، واعتكفت إلى حد كبير على دائرة محيطها الخليجي ممثلا في مجلس التعاون، إلا أنها اعتمدت في العالم العربي على أسلوب ونمط قيادة الموقف، وكانت بارعة فيه بشكل أساسي، فكانت تتدخل في الشأن الإقليمي بحسب ما تستدعيه ضرورات الموقف والظرف، كان ذلك واضحا في طرحها المبادرة العربية للسلام في مؤتمر القمة العربي في بيروت 2002، وبرز واضحا في موقفها خلال الثورات العربية 2011، ثم في 2013 على أثر ثورة 30 يونيو 2013 في مصر.
خلال تلك الفترة اكتفت السعودية بالقيادة غير المباشرة، وتركت قوى إقليمية أخرى تتصدر المشهد، بل لم يغرها التنافس القطري أو يدفعها للدخول في مواجهة لم ترها ضرورية.
وفي خلال السنتين الأخيرتين من حكم الملك عبدالله اقتربت السعودية من ممارسة القيادة المباشرة للإقليم، وتبنت سياسات استقلالية معبرة عن الاتجاه للإمساك بزمام الموقف والمبادرة وليس انتظار رد الفعل، وهو ما استكملته سياسات وتوجهات إدارة الملك سلمان والتي أبرزت التوجهات القيادية الاستقلالية للمملكة، بعد أن حسمت أمرها بيدها واتخذت قرار عاصفة الحزم الذي جعل المملكة تمسك بزمام المشهد الإقليمي، وأصبح هناك ما يشبه تصنيفا عربيا بين من هم مع المملكة ومن هم ليسوا معها، ولقد فرض هذا القرار على كافة القوى تكييف ذاتها مع القرار السعودي، وعلاوة على ذلك تمكنت المملكة من اختطاف وجذب الأنظار الإقليمية عبر قراراتها الجريئة والمبادرة في الداخل، وطرحها رؤية المملكة 2030 في إبريل 2016، والتي اجتذبت الانتباه الدولي بحديثها عن اعتزام إنشاء صندوق سيادي هو الأكبر في تاريخ البشرية بقيمة 2 تريليون دولار، وبتوجهاتها نحو تقليص الاعتماد على النفط.
وباختصار أصبحت السعودية قائدة إقليمية بتوجهاتها العسكرية الراديكالية في الخارج، وبقدرتها على جذب الانتباه إلى أفكارها التطويرية الجديدة والجرئية في الداخل وعلى الصعيد الإٌقليمي.
حدود العسكرة في السياسة السعودية: على الرغم من تبني المملكة لتوجهات راديكالية وتوظيفها للأدوات العسكرية في سياساتها الخارجية، إلا أن هناك توجها سعوديا لتبني مفهوم القيادة بالقوة الناعمة واكتساب مكانة إقليمية تجعلها تدير سياسات الإقليم من دون حاجة إلى عسكرة سياستها الخارجية، فلقد أدت عسكرة السياسة السعودية أهدافها الرئيسية في إبداء مظاهر الحسم والحزم خلال السنة الأولى من حكم الملك سلمان، ولكن بلوغ هذه السياسة أقصى مدى لها في اليمن وسوريا كان له تبعاته الإيجابية والسلبية، الذي من المرجح أن تستفيد منه المملكة خلال السنوات المقبلة على الجانب الإيجابي وأن تتراجع عن بعض جوانبه على الجانب السلبي، فلا تستطيع السعودية مواصلة سياسة الحزم بالأدوات العسكرية فقط، وهو ما يتعارض مع مكانتها الإسلامية، حيث أن من شأن العسكرة المتزايدة أن تنال من المكانة الروحية والدينية لها في العالم الإسلامي، وهناك حرص على التركيز على هذا الجانب في المستقبل، مع تركيز "رؤية 2030" على مفهوم أن مكانة المملكة لا تقتصر على قوة الاقتصاد والنفط، وإنما على مكانتها الدينية والحضارية وقيامها على رعاية وخدمة الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وفي هذا إعادة تعريف واكتشاف لدور المملكة الإسلامي والعالمي.
وهنا على الأرجح سوف تتركز قدرة المملكة على قيادة تحالف سياسي وعسكري إسلامي وعربي يكتفي بالردع ولا يمارس القوة بأدواتها العسكرية المباشرة إلا في الحالات النادرة وفي أضيق الحدود؛ فمكانة المملكة تفرض عليها إظهار القوة دون استعمالها، وذلك حتى تحتفظ بالتحالف القائم خلفها، وهو التحالف المبني بالأساس على مكانتها الدينية والروحية.
وتمكن الظروف والأوضاع الراهنة المملكة من لعب هذا الدور القيادي الخاص، بالنظر إلى الافتقاد إلى مشروع إسلامي وعربي متماسك تقوم عليه قوة أخرى، حيث أن مختلف الدول العربية والإسلامية ليست في الوضع المناسب، أو لا تستطيع تشكيل تحالف من هذه النوعية يشكل القاطرة التي تجمع الكل حولها على نحو ما فعلت المملكة.
تحالفات القوة الناعمة أساسية لقوة المملكة:
لا تستطيع المملكة منفردة الاضطلاع بدور عسكري إقليمي، ومن ثم فإن فهم دورها ومكانتها بالأساس يجعلها واسطة العقد بين قوى العالم العربي والإسلامي، وعلى خلاف الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، التي لم تكن تمكن المملكة من تبني فكرة القيادة في العالمين العربي والإسلامي، بسبب الصراع الدولي الثنائي القطبية وعلى مناطق النفوذ، فمع بروز فراغات القوة الإقليمية حاليا، ومع الترحيب الدولي بمثل هذه الأدوار للقوى المقتدرة في مناطقها تعد الأوضاع مناسبة لتحالف إقليمي تقوده المملكة يسد خانة في العالم الإسلامي والمحيط العربي، اللذين تتناهشهما التهديدات والصراعات على الأدوار والأيديولوجيا، ويتوقع أن يدخلا في صراعات ممتدة مع قوى الإرهاب والجماعات الإسلامية، وهو تحالف يشكل في الوقت نفسه قوة ردع أساسية ضد الاستفراد الإيراني بمنطقة الخليج.
وفي النهاية لن يقدر على محاربة الإرهاب إلا العالم الإسلامي نفسه، ولن يقدر على نزع وتصفية الأفكار المتطرفة إلا رؤى إصلاحية متطورة من داخل دار الإسلام، وهو ما لن ينجح فقط بالتحالفات العسكرية العربية الإسلامية أو الإسلامية الدولية، وإنما من خلال تطوير اجتهادات جديدة وتجديد النظام التعليمي وتطوير النظريات الدينية القديمة لإنتاج رؤى فقهية تناسب العصر.
ضمن هذا السياق، فإن الدور الإقليمي للمملكة يقوم بالأساس على مسؤوليتها تجاه تطوير وترقية أوضاع المسلمين، واستنبات رؤى اجتهادية عصرية تكرس تعايش العالم الإسلامي مع العالم غير الإسلامي، وتعيد طرح الإسلام بشكل حضاري باعتباره دينا قابلا للتفاهم والتصالح مع الأديان الأخرى، ويمكن للرؤى التجديدية التي تخرج منها أن تكون بالغة التأثير، خصوصا وأن هذه الرؤى تتبعها حركة المنظمات الخيرية الإسلامية.
وهذا الجهد السعودي يحتاج لعقود طويلة لأجل أن يحدث أثره، وليعيد تعريف المسلمين بالإسلام الحقيقي، ويعيد تقديم الإسلام إلى غير المسلمين.
وهنا يتحول دور المملكة الإسلامي من دور تقليدي إلى دور حركي مندفع برؤية وأيديولوجيا على الأرجح أن تشكل بديلا تنويريا إسلاميا للأيديولوجيات المتطرفة التي خرجت من رحم العالم الإسلامي وتربت عليها أجيال انتهت بالظاهرة الإسلامية إلى أن أصبحت أشكالا مستنسخة من الحركات الإرهابية، وخرجت تماما عن دائرة الإسلام العظيم.