سعى الرئيس أردوغان بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أغسطس 2014، ثم تمكن حزبه–العدالة والتنمية–من استعادة صدارة المشهد بعد انتخابات نيابية كانت المعارضة والتيار الكردي حاضرة فيها بقوة، إلى تمرير تعديل الدستور، وتحويل مجرى النظام السياسي من نظام برلماني إلى رئاسي.
ويتوقف تحقيق الرئيس أردوغان لطموحاته السياسية في جزء معتبر منها على العلاقة مع المؤسسة العسكرية التي عادت إلى صدارة المشهد، وأصبحت طرفاً فاعلاً في المشهد العام بعد نحو عقد من الخفوت والانزواء.
والأرجح أن العلاقات المدنية العسكرية في تركيا قد شهدت نوعاً من التأزم مع انزلاق السياسية الخارجية لحزب العدالة والتنمية في الصراع السوري، بينما ظلت المؤسسة العسكرية تفضل اعتماد الحياد.
فمنذ بداية الأزمة السورية، وهناك شرخ كبير بين وجهات نظر الطرفين.
فبينما اعتبرت حكومة العدالة والتنمية النّظام السوري فاقد للشّرعية بعد تصاعد موجة الاحتجاجات ضد نظام الأسد في نهاية العام 2011، طالبت المؤسسة العسكرية بالتزام الحياد.
قضايا أكثر تعقيداً من بينها القضية الكردية، وجماعة "جولن"، جعلت العلاقات المدنية العسكرية في تركيا مثار جدل وترقب.
وجاء مقال مايكل روبن- مسئول سابق في وزارة الدفاع الأمريكية-، والمعنون "هل سيحدث انقلاب على أردوغان في تركيا؟"، والمنشور في مجلة "نيوزويك" عشية سفر الرئيس التركي أردوغان لحضور قمة الأمن النووي في الولايات المتحدة مطلع أبريل الجاري، ليفتح الباب واسعاً حول مسارات العلاقات المدنية العسكرية في تركيا، والسيناريوهات المحتملة للعلاقة.
مسارات العلاقة
حظيت المؤسسة العسكرية في تركيا بوضع استثنائي وخاص منذ تأسيس الدولة التركية في العام 1923على يد الجنرال مصطفى كمال أتاتورك الذي برز على مسرح الأحداث مع تداعي الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسمى رجل أوروبا المريض.
وتطور دور الجيش في الحياة السياسية، وسيطر على كل مقاليد الدولة التركية، وأصبح حامي العلمانية، وبرز ذلك في الإطاحة بعدد واسع من الحكومات المنتخبة في الأعوام 1960 و1971 و1980 وأخيراً الإطاحة بحزب الرفاه ذو التوجه الإسلامي، وزعيمه نجم الدين أربكان فى العام 1997.
غير أن طبيعة العلاقات المدنية العسكرية شهدت تغيراً جذرياً مع قدوم العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في العام 2002، وفوزه في العامين 2007 و2011 بأغلبية برلمانية مريحة، وبقائه في الصدارة رغم تراجع شعبيته في العام 2015.
وحافظ الحزب على جاذبيته وجزء معتبر من قاعدته الشعبية مع تضاعف حجم الاقتصاد وتصاعد معدل النمو وتراجع مؤشر البطالة.
وظلت العلاقة بين أردوغان والجيش منذ توليه السلطة عام 2002 متوترة بسبب نظرة الجيش للحزب علي أنه حزب إسلامي يهدد علمانية تركيا ويهدد الأتاتوركية التي يتعهد الجيش بحمايتها، وزاد من توتر هذه العلاقات سعي أردوغان لإنهاء سيطرة الجيش على الحكم عبر سلسلة من التعديلات الدستورية.
الإنجاز الاقتصادي للعدالة والتنمية وعدم وجود بديل سياسي مقنع أو أفضل مع إصرار الحزبين الرئيسيين–الشعب الجمهوري والحركة القومية-على النهج الإيديولوجي الذي غلب البنية الفوقية التي تتعلق بالإيديولوجيات والقيم على حساب البنية التحتية التي ترتبط بالاقتصاد ومصالح الناس، ساهم أيضا في تراجع الصورة الذهنية للمؤسسة العسكرية أو على الأقل جعلها في مرتبة لاحقة.
أقلمة الأظافر
استطاع أردوغان أقلمة أظافر الجيش، وأنهى تدخله في السياسة بعد أن حرك قضية "أرجينيكون" "المطرقة" في يونيو 2007، وهي قضية تم2011،ها إحالة مئات من القيادات العسكرية إلى القضاء بتهمة الانتماء لجماعة يمينية هدفت إلى قلب نظام الحكم، وانتهت بوضع 40% من أدميرالات الجيش التركي خلف القضبان في 2008 قبل تبرئتهم لاحقا.
كما حكم على أكثر من 300 ضابط بالسجن في سبتمبر 2012 بتهمة التآمر للإطاحة بأردوغان في عام 2003، وفي يونيو 2014 صدر حكم قضائي بالحبس مدى الحياة ضد الجنرال كنعان أفرين البالغ من العمر 97 سنة والمسئول عن انقلاب 1980.
ولم تكن تلك هي الإجراءات الوحيدة في محاصرة الجيش التركي، ففي العام 2013 وافق البرلمان التركي على تغيير المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة التركية، والتي كانت تضفى شرعية على كل الانقلابات التي قام بها الجيش ضد الحكومات المنتخبة.
وكانت هذه المادة من قانون المؤسسة العسكرية الذي صدر في أعقاب انقلاب 1960 تنص على أن "وظيفة القوات المسلحة التركية هي حماية الوطن التركي ومبادئ الجمهورية التركية كما هي محددة في الدستور".
لكن الصيغة الجديدة التي جرى التصويت عليها بأغلبية قبل نحو ثلاث سنوات، أصبحت "مهمة القوات المسلحة تتمثّل في الدفاع عن الوطن والجمهورية التركية تجاه التهديدات والأخطار الخارجية، والسعي إلى الحفاظ على القوة العسكرية وتعزيزها، بحيث تشكل قوة رادعة للأعداء، والقيام بالمهمات الخارجية التي تسند إليها من قبل البرلمان التركي، والمساعدة على تأمين السلام العالمي".
ودخل المناخ مرحلة الشحن بين الجيش التركي والسلطة المدنية عشية قرار الحكومة بفصل قوات الدرك عن الجيش ونقل تبعيتها إلى وزارة الداخلية، وهي القوات المنوط بها مراقبة الحدود.
وأنشئت قوات الدرك في عام 1846، وتضم حوالي 276 ألف عنصر، ولديها نحو 1500 عربة وتجهيزات مصفحة وحوالي ستين طائرة هليكوبتر.
الجنرالات العودة للواجهة رغم التدابير القانونية والدستورية والسياسية التي مررتها حكومات العدالة والتنمية منذ وصولها للسلطة في العام 2002 إلا أنها لم تنجح في إضعاف الجيش أو حلحلة صورته الذهنية عند الأتراك.
ونجح الجيش التركي في استعادة رصيده التقليدي لدي المجتمع التركي عشية تبرئة محكمة التمييز في اسطنبول في أبريل 2015 لنحو 236 عسكرياً، وإعادة محاكمتهم في قضية "أرجينيكون" أو "المطرقة" بتهمة التآمر عام 2003 لإسقاط حكومة العدالة والتنمية.
ونسف المدعي العام التركي قضية الجنرالات التي شغلت الرأي العام طوال السنوات الخمس الماضية، وكشفت حيثيات الحكم عن أن "الأدلة واهية وليس لها علاقة سواء بمخطط انقلابي حقيقي أو بالمتهمين".
سلوك أردوغان السياسي الذي زاد من عزلة تركيا أدى إلى توتر غير معلن مع المؤسسة العسكرية، وبرز هذا القلق فيما يتعلق بتسوية الأزمة الكردية، حيث يصر الجيش على لجم الأكراد ورفض خيار التسوية السلمية.
والأرجح أن القضية الكردية لم تكن وحدها محل الخلاف بين أردوغان والجنرالات، فقد مثلت الأزمة السورية والانخراط التركي في النزاع السوري عاملاً ضاغطا، ناهيك عن قلق المؤسسة العسكرية من تصاعد الاحتقان السياسي في الداخل مع المعارضة من جهة وجماعة فتح الله جولن من جهة ثانية، وأيضا حالة القلق من محاولات تعديل الدستور وتحويل النظام السياسي إلى رئاسي.
وكشفت الأزمة السورية عن عمق الهوة بين الجيش التركي ونخب العدالة والتنمية، ففي الوقت الذي ألمح فيه أردوغان إلى سيناريو الاشتباك أو الصدام المباشر بين الجيشين التركي والسوري في المنطقة الحدودية، رفض قادة القوات المسلحة التدخل في أي عملية برية محتملة داخل الأراضي السورية، باستثناء قيام المدفعية التركية نهاية مارس الماضي الرد بإطلاق النار على سوريا بعد سقوط قذيفتين على بلدة كلس التركية قرب الحدود السورية.
والواقع أنه منذ بداية الأزمة السورية، وهناك شرخ كبير بين وجهات نظر الطرفين.
فبينما اعتبرت حكومة العدالة والتنمية النّظام السوري فاقد للشّرعية بعد تصاعد موجة الاحتجاجات ضد نظام الأسد في نهاية العام 2011 ، طالبت المؤسسة العسكرية بالتزام الحياد.
ويخشى الجيش التركي دخول المستنقع السوري لعدة أسباب:
أولها تأزم الوضع في سوريا وتصاعد الجماعات الراديكالية واختلاط الأوراق وكثرة اللاعبين الدوليين والإقليميين المشتبكين مع النزاع السوري، خاصة بعد دخول روسيا على خط الأزمة، وتصدع علاقاتها بتركيا عشية إسقاط الطائرة الروسية "سوخوى 24" في نوفمبر الماضي.
والواقع أن حدة الخلافات بين الجيش والحكومة التركية بدأت تظهر على الملأ حيث بدأ رئيس هيئة الأركان العامة في التطرق إلى مواضيع اعتراضات المؤسسة العسكرية أمام وسائل الإعلام والرأي العام التركي، منها رفض المؤسسة العسكرية قانون "البدل النقدي" للإعفاء من الخدمة العسكرية، ورفض رئيس الأركان محاولات أردوغان تسريح بعض ضباط سلاح الجو التركي، وبخاصة طياري طائرات f16، في ظل اتهام أردوغان لهم بالانتماء لجماعة فتح الله جولن ومسئولية أحدهم عن عملية إسقاط الطائرة الروسية لتوتير العلاقات مع موسكو.
في سياق متصل رفض رئيس الأركان الجنرال أكار أوامر الرئيس التركي بتصفية كل من يُشتبه في انتمائه إلى جماعة جولن، خشية خروج الأمر عن السيطرة، إذ يعتبر أن الجيش لم يتعاف بعد أزمة طرد مئات من ضباطه، بتهم ملفقة، ما أحدث فراغاً وظيفياً في قيادة سلاح البحرية.
والواقع أن قادة الجيش التركي يجاهدون اليوم لاستعادة الثقة بالنفس وبالجيش، ولذا رفضوا تعليمات حكومية خشية من أن تؤثر على معنويات الجنود في الحرب المستعرة ضد الأكراد فى الجنوب من جهة، ولجم جماح أردوغان من جهة ثانية.
الجيش وحديث الانقلاب
وكان مقال روبن المشار إليه سابقا قد أثار جدلا غير مسبوق داخل تركيا حول العلاقات المدنية العسكرية، ومبعث القلق حالة السجال بين الطرفين، خاصة مع تدخل أردوغان في عمل المؤسسة العسكرية فضلا عن اتساع الرتق حول الكثير من القضايا، وبخاصة الأزمة السورية والموقف من حركة "خدمة" التي يتزعمها جولن.
ويشير البعض إلى أنه هناك توتر لا تخطئه عين بين الجنرالات ومؤسسة الرئاسة، ورفض المؤسسة العسكرية سلوكيات حكومة العدالة والتنمية التي أدخلت البلاد في سلسلة من الأزمات السياسية.
ناهيك عن تصاعد المعضلة الأمنية بفعل التفجيرات المنسوبة لتنظيم "داعش" الذي يرى البعض أن الحكم قد وفر له حاضنة لإسقاط الأسد.
صحيح أن الجيش التركي ردا على مقال روبن المذكور رفض في بيان له حديث الانقلاب، واعتبره بلا أساس، ونفى وجود "حركة تمرد داخل الجيش أو أي احتمال لخروج مجموعة عن آلية السمع والطاعة التي تحكم جميع أفراده" وأضاف "لا يمكن الحديث عن خطوة غير شرعية تأتى من خارج هيكلة القيادة، أو تعرضها لخطر".
غير أن بيان الجيش حمل في طياته رسائل مهمة لأطراف عدة منها واشنطن، التي ربما سعت إلى جس نبض الجيش من خلال مقال روبن.
وكانت العلاقة بين الجيش التركي وواشنطن قد تأزمت بعد تخلي الأخيرة عن الجيش أثناء محاكمة جنرالاته في العام 2007.
كما وجه المقال بين سطوره تحذيراً قاسيا للرئيس التركي ومستشاريه الذين طالبوا رئيس الأركان الجنرال خلوصي أكار بالاستقالة إذ لم يستجب لطلب الرئيس بـ "تطهير الجيش من مئات من الضباط الموالين للداعية جولن".
سيناريوهات العلاقة أدى السلوك السياسي لحكومات العدالة والتنمية طوال السنوات الخمس الماضية إلى تصاعد وتيرة الاحتقان المجتمعي، واتساع رقعة الاستقطاب السياسي.
والأهم أن سلوك أردوغان لإسقاط نظام الأسد أدخل البلاد في دوامة العنف، وكان بارزاً، هنا، صعود الجماعات الجهادية في تركيا، وفي الصدارة منها "داعش" التي نفذت عددا من التفجيرات التي راح ضحيتها المئات، منها تفجير 20 يوليو 2015 في منطقة سروج الحدودية مع سوريا وأوقع 27 قتيلا وأكثر من 100 جريح وتفجير 10 أكتوبر الماضي الأكثر دموية في أنقرة وراح ضحيته نحو 103 قتيلاً.
في هذا السياق العام عادت إلى الواجهة المؤسسة العسكرية بوصفها حامي العلمانية، والذراع الأمنية للبلاد، وزاد الدور المعتبر لها مع تبرئة القضاء للجنرالات في أبريل 2015، وتصاعد الانتقادات الدولية لأردوغان بفعل الممارسات السياسية القمعية فى الداخل، والاشتباك مع قضايا الإقليم بما يتعارض مع توجهات قطاع معتبر من القوى الدولية والإقليمية.
والأرجح أن هذا المشهد يفتح الباب واسعا أمام سيناريوهات عدة حول مستقبل العلاقة بين الجيش التركي والنظام المدني أولها المواجهة المباشرة، لاسيما أن المؤسسة العسكرية ضاقت ذرعا بتصرفات الرئيس "أردوغان" الذي يقوم مشروعه "تركيا الجديدة" بالأساس على نقل كامل السلطة التي تمارسها الحكومة إلى رئاسة الجمهورية.
ويرتبط السيناريو الثاني بالتهدئة وتسكين أردوغان لأوجاع العلاقة مع الجيش التركي، خاصة في ظل تصاعد المواجهة ضد الأكراد جنوب البلاد، وتوتر العلاقة مع موسكو التى فرضت عقوبات قاسية على أنقرة ناهيك عن انتقاد الرئيس الأمريكي في تصريحات له عشية قمة الأمن النووي لسلوك أردوغان وحكومته في الداخل، وبخاصة تقييد حرية الصحافة.
أما السيناريو الثالث فهو مراوحة المؤسسة العسكرية واشتباكها على مضض مع العدالة والتنمية الذي ما زال يحافظ على معدلات إنجاز معقولة في المجال الاقتصادي بفعل المعونات المقررة من الاتحاد الأوروبي لاستيعاب اللاجئين السوريين البالغ عددهم نحو 2.7 مليون لاجئ في تركيا إضافة إلى استثمارات رجال الأعمال السوريين الذين نقلوا أنشطتهم إلى تركيا مع تصاعد الحرب السورية، وتقدر بنحو 10 مليارات دولار.
السيناريو الرابع هو إمعان أردوغان إذا ما نجح في تحويل مجرى النظام السياسي إلى رئاسي في تحويل المؤسسة العسكرية إلى منظمة روتينية تتلقى الأوامر والتعليمات، حيث نجح أردوغان بشكل أو بآخر في السيطرة على مجلس الأمن القومي الذي تم إنشائه في مطلع ستينيات القرن الماضي.
القصد أن العلاقات المدنية العسكرية في تركيا تبدو مرشحة لإعادة التشكيل مجدداً في ظل تصاعد زخم العسكريين من جهة، وهبوط الأداء السياسي لأردوغان وحزبه.
لذلك ربما يصبح الجيش التركي رقماً مهمة في المعادلة السياسية التركية، لاسيما مع محدودية نجاحات أردوغان في معالجة احتقانات الداخل وتراجع مناعة أنقرة دولياً بعد توتر علاقاتها مع قطاع واسع من محيطها الإقليمي.