مجدى صبحى

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تميل الكتابات الاقتصادية إلى التمييز بين دور السياسات النقدية والمالية في الدول المتقدمة والدول النامية.

إذ أن الدور المنوط بهذه السياسات في الدول المتقدمة يرتبط بما يمكن أن نطلق عليه محاولة ترويض الدورة الاقتصادية من حيث الانتعاش أو الركود.

وعلى النقيض، فإن دور السياسات النقدية والمالية في الدول النامية يرتبط بحفز النمو الاقتصادي والتنمية.

ويعكس مثل هذا الفصل في دور السياسات النقدية والمالية الاختلاف في طبيعة القضايا والمشكلات الاقتصادية وكذا الأولويات أمام صانعي السياسة في الدول المتقدمة والدول النامية.

مركزية الجنيه لدى المركزي مع بداية عام 2015 كان يجري وضع اللمسات النهائية للمؤتمر الاقتصادي، وهو المؤتمر الذي كانت تعول عليه مصر بشدة كوسيلة لجذب المعونات والاستثمارات الأجنبية المباشرة كي تعمل على رفع معدلات النمو.

وكانت واحدة من المشكلات التي واجهت المستثمرين الأجانب خلال الأعوام الأخيرة مشكلة التقلب في سعر صرف العملة المصرية، وصعوبة إجراء التحويلات بالعملات الصعبة لخارج البلاد.

وكان السبب وراء ذلك تدهور احتياطيات النقد الأجنبي لأسباب متعدة، ربما كان من أهمها ضعف معدلات النمو مع عدم الاستقرار السياسي والأمني مما قاد إلى ركود أو تباطؤ نمو الصادرات المصرية للخارج، إضافة إلى نزوح كميات كبيرة من الاستثمارات الأجنبية خاصة من استثمارات حافظة الأوراق المالية إلى خارج البلاد، والركود الشديد في بعض القطاعات الاقتصادية المهمة المولدة للعملات الأجنبية كالسياحة.

وإزاء هذا الموقف قرر البنك المركزي في شهر يناير 2015 (وفي أعقاب زيارة بعثة صندوق النقد الدولي لمصر) وقبل انعقاد المؤتمر الاقتصادي بأقل من شهرين بتكثيف جهوده من أجل العمل على تحقيق الاستقرار في سعر صرف الجنيه المصري.

وكانت أول القرارات المهمة في هذا الشأن اللجوء إلى خفض سعر صرف الجنيه المصري حيث انخفض سعر الصرف في المزادات التي يعقدها البنك المركزي لبيع العملة الأجنبية للبنوك بواقع 5% خلال أسبوعين، بعد أن ظل السعر ثابتا عند 7.18 جنيه للدولار لفترة طويلة.

وأعقب هذا إعلان البنك المركزي لضوابط جديدة لتنظيم سوق العمل في الدولار في بداية شهر فبراير 2015 بغرض ضبط إيقاع سوق الصرف ومواجهة المضاربات بالسوق الموازية.

حيث وضع البنك المركزي سقفًا للإيداع النقدي اليومي للأفراد والشركات يبلغ 10 آلاف دولار، و50 ألف دولار كحد أقصى للإيداع النقدي شهريًّا.

وحسب بعض آراء مسئولي البنوك في مصر آنذاك فإن هذه الإجراءات كان بوسعها القضاء على المضاربات والتخلص من السوق الموازية للدولار، وهو ما يتكامل مع ما تم اتخاذه من قرارات بتصحيح سعر الصرف، وتلبية الطلب الفعلي بالسوق من خلال توفير البنوك الدولار لعملائها لاستيراد السلع الأساسية ومدخلات الإنتاج، كما ستسهم في توجيه حصيلة تحويلات المصريين العاملين بالخارج إلى البنوك بعد أن تسرب غالبيتها إلى السوق الموازية.

وكان الأمل يحدو الجميع في أن تعمل قرارات البنك المركزي على زيادة حصيلة النقد الأجنبي لدى البنوك، والقضاء على السوق الموازية.

كما رأى بعض رجال النظام المصرفي أن هذه القرارات ستلقى ترحيبًا من المستثمرين الأجانب مع دخول مصر مرحلة جديدة وتنفيذ مشروعات ضخمة ستؤدي إلى طفرة اقتصادية، وأشاروا إلى أنه من حق المستثمر أن توفر له البنوك الدولارات بنفس الكمية التي أودعها في الجهاز المصرفي عند دخوله للاستثمار في السوق المصري وفي أى وقت.

ورغم ذلك فإن سعر صرف الجنيه المصري استمر في التدهور بمعدلات كبيرة في السوق الموازية، واشتدت أزمة النقد الأجنبي بمرور الوقت.

وبات البنك المركزي يحاول من حين لآخر ملاحقة السوق الموازية بالسماح بخفض سعر صرف الجنيه مرة بعد أخرى.

وكان آخرها هو الخفض الكبير في يوم واحد بقيمة تبلغ 14.3% وبنحو 112 قرشا في 14 مارس الماضي.

وقد استمر تدهور سعر الصرف نتيجة للتآكل السريع في احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري خلال عام 2015.

وقد ركزت السياسة النقدية طوال هذا العام على محاولة وقف هذا التآكل والتخفيف من حدة تدهور قيمة العملة المصرية مقابل العملات الأخرى وخاصة الدولار.

بحيث كان محور ارتكاز السياسة النقدية هو فعلا سعر الصرف.

وقد حاول البنك لوقت طويل وقف تدهور العملة مرة أخرى عن طريق ضبط وتنظيم التعامل في سوق النقد الأجنبي، وكان السبيل لذلك هذه المرة هو مجموعة كبيرة من القرارات الإدارية لتنظيم عملية الاستيراد.

فقد اشترط البنك المركزي أن يقوم المستورد بتوفير ضمان مالي يبلغ 100% من قيمة ما يزمع استيراده بدلا من 50%، ولم يستثن سوى بعض السلع الأساسية التي يحتاجها المواطنون.

وأصدر البنك المركزي تعليمات تتعلق بقواعد تمويل الواردات حيث حظر تداول مستندات التحصيل الجمركي إلا من خلال بنك المورد في الخارج وعدم قبول أية مستندات تأتي مباشرة عبر المستورد المحلي.

كما قام البنك أيضا بوضع سقف للإيداع النقدي بالعملة الأجنبية بحيث يكون 50 ألف دولار شهريا و10 آلاف دولار يوميا، لإجبار حائزي النقد الأجنبي والمستوردين على التعامل عبر الجهاز المصرفي ومحاولة القضاء على السوق الموازية.

وهو القرار الذي تراجع عنه في بداية عام 2016.

وقد تدخلت جهات أخرى لتدعيم قرارات المركزي مثل قرار وزارة الصناعة والتجارة بعدم الإفراج عن البضاعة المستوردة إلا إذا كان قد تم استيرادها من مصانع أجنبية مسجلة تنتج هذه البضاعة، ثم القرار الجمهوري الذي نشر بالجريدة الرسمية يوم 31 يناير 2016 والذي يقضي برفع الرسوم الجمركية على فئة واسعة من السلع تشمل نحو ستمائة سلعة معظمها صنفت باعتبارها سلع ترفيه بنسبة تتراوح بين 5% إلى 10%.

سعر الفائدة: هل هي أداة مناسبة لجأ البنك المركزي عند اجتماع لجنة السياسة النقدية في 24 ديسمبر الماضي إلى رفع سعر الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية.

وكان البنك قد أوعز قبل ذلك في منتصف شهر نوفمبر للبنوك الحكومية بتقديم شهادات إيداع جديدة لأجل ثلاث سنوات وبفائدة مميزة تزيد على السعر السائد وقتها بنحو 2.5%.

وبينما يرى البعض أن الهدف من وراء هذه السياسة هو لجم الضغوط التضخمية، فإن الواضح أن الهدف في الحقيقة هو محاولة نزع "الدولرة" بحفز المواطنين الذين يحتفظون بالعملات الأجنبية على بيعها من أجل الاستثمار في هذه الشهادات بما يؤدي إلى زيادة الإيرادات من العملات الأجنبية لدى البنوك.

ويبقى المسكوت عنه أن الأثر الجانبي لهذه السياسة هو أثر انكماشي قد يكلف الكثير.

وهنا فقد اتجهت السياسة إلى التضحية بهدف النمو رغم مرور مصر بفترة تباطؤ طويلة استمرت لنحو أربعة أعوام بلغ فيها معدل النمو السنوي في المتوسط نحو 2%، وهو ما يقل عن معدل الزيادة السنوية في السكان، وبما يؤدي إليه ذلك من مستويات المعيشة لأغلب فئات المجتمع خاصة الشباب الذين تفشت البطالة بينهم لمعدلات غير مسبوقة.

وكان معدل النمو لم يشهد نمو ملحوظا سوى خلال النصف الثاني من عام 2014 بتسجيله نحو 5.6%، بينما عاد المعدل للانخفاض خلال النصف الأول من عام 2015 ليبلغ نحو 2.7% فقط طبقا لبيانات البنك المركزي.

ومن هنا فقد اتخذ قرار سعر الفائدة وسط مؤشرات تدهور معدل النمو، وفي أعقاب حادثة الطائرة الروسية في نهاية أكتوبر 2015 بما يعنيه ذلك من توقع ركود النشاط السياحي.

هدف السياسة النقدية: هل تحقق وربما فعل البنك المركزي ذلك لأن الهدف الأسمى للسياسة النقدية المصرية هو استقرار الأسعار.

إذ يعهد قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003 للبنك المركزي المصري بوضع وتنفيذ السياسة النقدية.

وينص القانون على أن استقرار الأسعار هو الهدف الرئيسي للسياسة النقدية الذي يتقدم على غيره من الأهداف.

وبناءً عليه يلتزم البنك المركزي المصري-في المدى المتوسط-بتحقيق معدلات منخفضة للتضخم تساهم في بناء الثقة، وبالتالي خلق البيئة المناسبة لتحفيز الاستثمار والنمو الاقتصادي.

وبالطبع فلن يكون هناك أي معنى لسياسة نقدية تتوخى عند كل فشل في تحقيق هدفها مراجعة الهدف ذاته، بدلا من السعي نحو توضيح لماذا فشلت؟ وما هو السبيل للنجاح فعلا.

إذ أن لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي في اجتماعها الأخير في 17 مارس الماضي وبعد أن اتخذت قرارا جديدا برفع سعر الفائدة بمقدار 1.5% أشارت إلى أنها تستهدف معدل تضخم في الأجل المتوسط يبلغ 10%، بينما كان الهدف السابق كما أوضحته السلطات لبعثة صندوق النقد الدولي التي زارت مصر في يناير 2015 هو 7% فقط.

وعلى أية حال، فإن المهم أن اللجنة ذكرت رقما محددا تستهدفه بدلا من ترك الأمر للغموض.

فإعلان الهدف يعد مهما ليس فقط للحكم على مدى نجاح السياسة النقدية فيما تعده هدفا مركزيا بل وشبه وحيد لها، بل يفيد في تفعيل آليات السوق مع استجابة الفاعلين لما يطرأ من تغيرات على معدل التضخم.

إذ كلما اقترب معدل التضخم من المعدل المستهدف وكان في سبيله لتجاوزه يتوقع المتعاملون أن البنك المركزي سيتدخل بأدواته لمحاولة الحفاظ على تحقيق المستهدف بسياسة تقشفية للجم الطلب.

والعكس بالعكس ففي حالة انخفاض معدل التضخم عن المعدل المستهدف بشكل ملموس توقع المتعاملون تدخل البنك لمحاولة إنعاش الاقتصاد، وبناء على هذه التوقعات وما يترتب عليها من قرارات في الأسواق المختلفة (أسواق السلع والخدمات ورأس المال) يعمل المتعاملون على مساعدة البنك عبر قرارات تنبني على توقع تدخل البنك المركزي، وليس عبر تدخله الفعلي.

ولكن المشكلة أننا خلال فترة طويلة وخاصة في ظل ارتكاز السياسة النقدية على الدفاع عن سعر الصرف نجد أن البنك غالبا ما استخدم أدواته بشكل يتعارض مع التوقعات السليمة.

الدوران في الحلقة الخبيثة يصعب القول أن السياسة النقدية التي كان محور ارتكازها سعر الصرف على مدى يزيد عن عام الآن قد حققت أيا من أهدافها.

فقد ارتفع معدل التضخم ليسجل نحو 11% كمعدل سنوي، وهو ما يتجاوز بكل تأكيد المعدل المستهدف من قبل البنك المركزي، ويمكن القول أن هذا الارتفاع في معدل التضخم ناجم هو ذاته جزئيا عن الانخفاض المتواصل لسعر صرف الجنيه المصري، حيث تزيد أسعار السلع المستوردة في السوق المحلي مع كل خفض في قيمة الجنيه.

كما أن ارتفاع أسعار السلع الأجنبية يرفع من الانفاق في الموازنة العامة عما كان مقدرا بسبب زيادة مدفوعات الدعم للسلع الأساسية بالجنيه المصري، وهو ما يؤدي إلى زيادة العجز في الموازنة، ويدفع بالتالي نحو تسجيل معدلات تضخم أعلى.

كما أنه يصعب القول أن السياسة النقدية قد ساعدت على تهيئة بيئة مناسبة لتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة.

فعلاوة على التضخم، كانت سياسة البنك باللجؤ لرفع سعر الفائدة-إضافة إلى عدد من الإجراءات الإدارية الأخرى- في محاولة الدفاع عن سعر صرف العملة لها آثار انكماشية واضحة، وبالتالي فهي تشكل تهديدا بتقليص معدل النمو وهو معدل كان يعاني من الاتجاه نحو التباطؤ أصلا.

أضف إلى ذلك أن رفع سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة مدفوعات خدمة الدين العام عما كان مقدرا، مما يؤدي إلى زيادة العجز في الموازنة وتوليد المزيد من الضغوط التضخمية أيضا.

وفي النهاية فإن السياسة النقدية لم تنجح بالطبع في تحقيق هدفها المحوري طول العام ألا وهو الدفاع عن سعر صرف العملة، مما دعا البنك المركزي إلى التخفيض المتواصل لسعر صرف الجنيه.

ناهيك عن استمرار وجود فارق كبير بين سعر صرف الجنيه في وحدات النظام المصرفي وبين هذا السعر في السوق الموازية وشركات الصرافة، مما يشكل ضغطا مستمرا على السعر الرسمي لصرف الجنيه المحدد من قبل السلطات النقدية.

وتؤدي بذلك السياسة النقدية التي يتبعها البنك المركزي والتي يعد محورها الدفاع عن سعر صرف الجنيه إلى خلق دائرة خبيثة يظل يدور فيها الاقتصاد المصري دون مخرج.

حيث بضغط من انخفاض مستوى الاحتياطي من العملات الصعبة لدى البنك المركزي يتم اللجوء لخفض سعر العملة، وهو ما يبدو دائما أنه غير كاف، فيشتد التخفيض في السوق الموازية والنتيجة العملية لكل هذا هو ارتفاع أسعار السلع الأجنبية في سوق يعتمد على الواردات بشدة.

وتكون النتيجة العملية هي ارتفاع معدل التضخم لمستويات غير مرغوبة، فيلجأ البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة لمحاربة "الدولرة" من جهة، وللعمل على مكافحة ارتفاع معدلات التضخم من جهة أخرى.

ويترتب على ذلك انخفاض في معدلات النمو الاقتصادي فتزيد أزمات الاقتصاد المصري بارتفاع معدلات البطالة وتدهور مستويات المعيشة، علاوة على اللجؤ أكثر للواردات لتغطية الحاجات المحلية المتنامية.

وهكذا نتحرك من خفض سعر الصرف إلى زيادة أسعار الفائدة، إلى خفض معدلات النمو، إلى زيادة الواردات، إلى زيادة أزمة الميزان التجاري وميزان المدفوعات، إلى الضغط نحو خفض جديد في سعر صرف الجنيه في حلقة شريرة لا تنتهي.

وبعد: أين المخرج من الغريب أن يظل البنك المركزي يمارس سياسة نقدية للدفاع عن سعر صرف الجنيه ثبت بما لا يدع مجالا للشك فشلها سابقا، ومع ذلك فما زال يتوقع مرة بعد المرة الحصول على نتائج مختلفة هذه المرة، وهذه المرة تحديدا.

والواقع أن حل مشكلة سعر الصرف، بل وكافة مشكلات الاقتصاد المصري، لا يكمن بكل تأكيد في السياسة النقدية وحدها، ولن يتأتي إلا بالتركيز على الهدف الأهم للسياسة الاقتصادية الكلية وهو محاولة حفز معدلات النمو الاقتصادي في ظل بيئة تتسم بمعدلات تضخم معتدلة.

والسبيل الوحيد لذلك هو التشجيع على التصنيع.

ونقطة البداية تكمن في استراتيجية صناعية تشجع الإحلال محل الواردات، فعلاوة على أن هذه الاستراتيجية كانت نقطة البداية لكافة البلدان التي حققت نقلات تنموية واضحة خلال العقود الخمسة الماضية، فإنها أيضا نقطة البداية في محاولة خفض حجم الواردات المصرية ومعالجة أزمة الميزان التجاري الذي يشكل السبب الأكبر وراء العجز المحقق في ميزان المدفوعات المصري، ومن ثم السبب الأكبر وراء تخفيض سعر صرف الجنيه.

والواقع أن تطبيق هذه الاستراتيجية الصناعية يكتنفه العديد من الشروط الضرورية المطلوبة لنجاحها والتي تخرج عن نطاق هذا المقال.