قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2016-3-10
كرم سعيد

باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

غني عن البيان أن إعلاء دور القضاء وتعظيم شأنه، وليس فقط احترام أحكامه وتوقير رجاله، هو المدخل الأهم لتحقيق الديمقراطية في أي بلد تتوق إليها.

غير أن الوضع فى تركيا يبدو مختلفاً بعض الشئ.

فثمة احتقان لا تخطئه عين بين نظام الحكم والمؤسسة القضائية كشفتها تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عشية إطلاق المحكمة الدستورية سراح الإعلاميين في صحيفة "جمهورييت" المعارضة جان دوندار وأردام نهاية فبراير الماضي.

أردوغان الذي يتهم الصحافيين بالتجسس على خلفية نشرهما صوراً لشحنات أسلحة كان جهاز الاستخبارات يوصلها إلى مسلحين في سوريا، دان قرار المحكمة قائلاً "لا أوافق على هذا القرار، ولا أحترمه، هذه القضية لا ترتبط بحرية التعبير، إنها قضية تجسس أؤمن حتى النهاية بالدفاع عن حرية التعبير لكننى لا أؤمن باستغلالها لمهاجمة البلاد".

انتهاك دور القضاء

فتحت تصريحات أردوغان الباب واسعاً حول دور القضاء التركي ومدى استقلاليته، وهل ثمة حدود يصح أن تحرص الرئاسة والحكومة على أن يقف دورها عنده من أجل المحافظة على سمو دور القضاء وضمان الهيبة اللازمة له؟ الأرجح أن القضاء في تركيا مأزوم، ولكن من الممكن أن يكون وضعه أسوأ.

والمتابع للمشهد القضائي وللواقع الميداني يدرك أن الأزمة بين القضاء والسلطة السياسية وصلت إلى مرحلة تهدد ليس بانهيار النظام القضائي فحسب، وإنما تنذر بتداعيات سلبية على الدولة.

ما حدث بشأن الإفراج المؤقت عن الإعلاميين لم يكن الأول من نوعه الكاشف عن تدخل السلطة التنفيذية في أعمال القضاء، فبضغوطات حكومية فرض القضاء التركي وصايته على شبكة "آسيا بنك" المصرفية القريبة من فتح الله جولن المتهم بتشكيل "دولة موازية"، وتم تأميم شركة "كوزا- إيبك" القابضة التى تملك صحيفتين وشبكة تلفزة.

معاقبة القضاء وصلت ذروتها مطلع العام 2015 عندما تم اعتقال قاضيين –متين أوزشيليك ومصطفى يشار- في سابقة أولى ومثيرة بتهمة الانتماء إلى "تنظيم إرهابي" بعدما حكما بالإفراج عن 74 متهماً على ذمة قضية "تشكيل إرهابي" يتزعمة جولن المقيم في الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من أن الأسانيد القانونية واشتراطات الإفراج قامت على قاعدة عدم كفاية الأدلة، وإمكانية إكمال سير التحقيقات من دون استمرار احتجاز المتهمين، إلا أن حكومة أوغلو اعترضت على الحكم وعلقت تنفيذه، الأمر الذي أثار عاصفة من الجدل حول هيمنة السلطة التنفيذية.

وواصلت الحكومة مسلسل تعقب القضاة المناوئين لها، ففي 14 يناير أصدر المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، قرارا بفصل 5 مدعين من وظائفهم.

وجاء قرار فصل المدعين، على خلفية إصدارهم أوامر للشرطة بإيقاف شاحنات تحمل أسلحة، تابعة لجهاز المخابرات التركي، كانت في طريقها إلى جماعات مسلحة متشددة في سوريا، في يناير 2014.

تغذية الاحتقان

اتجاه الرئاسة في تركيا ومن خلفها الحكومة ناحية التضييق على القضاء، جعل الريبة بين القضاء وحكومة العدالة والتنمية هي العنوان الأبرز للمشهد التركي، وانزلقت الأمور إلى طريق زلق بعد تصعيد في التصريحات تحمل نبرة تحدي من كل الأطراف، ومن بينها تصريح أردوغان عقب نتائج انتخابات الهيئات القضائية في عام 2014 قائلاً إن "الحكومة التركية التي تمكنت من تطهير الدولة من العصابات، ستطهّر مؤسسة القضاء من تلك الشبكات"، في إشارة إلى "جماعة الخدمة" بقيادة الداعية فتح الله جولن.

والأرجح أن أردوغان الطامح إلى تغيير المشهد السياسي بإقرار نظام رئاسي يتيح له مشاركته الفعلية للحكومة في رسم السياسات العامة للدولة يجد حجر عثرة في القضاء الذي ما زال رغم تقييده يمثل شوكة في خاصرة النظام.

لذلك لم يكن غريباً بدء حكومة العدالة والتنمية في مطلع مارس الجاري صوغ مشروع قانون يمنع تقديم تظلمات شخصية إلى المحكمة الدستورية، لمنع ما حدث مع دوندار وغل اللذين تخلصا من التوقيف الاحتياطي بعد تقديمهما طلب تظلم شخصي للمحكمة التي رأت أنه لا حجة قانونية لسجنهما احتياطياً.

وإذا كان الصراع الخفي والمعلن بين العدالة والتنمية وجماعة جولن ألقى بظلاله على المؤسسة القضائية، فأن أحكام القضاء إزاء قضايا الفساد والحريات وغيرها من احتقانات الداخل ومناهضة القضاء لبعض سياسات الحكومة وإجراءاتها الاستثنائية شكلا عنصراً مهما في تغذية الاحتقان بين القضاء والسلطة التنفيذية.

وكان من اللافت حدوث حالة من الصدام الشديد بعد رفض الحكومة أحكام قضائية بإعادة بث تويتر على الشبكة العنكبوتية وكذلك موقع يوتيوب والتراجع عن غلقهما.

ووصل الاحتقان مبلغا عقب تمرير البرلمان التركي في العام 2014 قانون يعزز الرقابة التنفيذية على السلطة القضائية، ويمنح وزارة العدل سلطة تعيين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، وبالتالي يكون القضاة وأعضاء النيابة العامة تحت سيطرة النظام الحاكم، وهذا بكل وضوح ضد مبدأ الفصل بين السلطات.

سلوك حكومة العدالة والتنمية باتجاه أقلمة أظافر القضاء دفعتها إلى مخالفة القواعد القانونية، وتجلى ذلك في "المحاكم ذات الصلاحيات الخاصة" التي تأسست على خلفية منظمتي" جنكون" و"المطرقة"؛ اللتين كانتا تخططان للانقلاب على الشرعية الدستورية في تركيا عام 2003، والإطاحة بحكومة العدالة والتنمية.

انتفاضة المحكمة الدستورية

مع تصاعد احتمالات خروج القضاء عن القانون، حذر رئيس المحكمة الدستورية العليا زهدي أرسلان من "خطورة التحكم بالقضاء وجعله أداة لتحقيق أهداف سياسية"، وانتقد بشدة تصريحات أردوغان بحق المحكمة الدستورية، معتبراً أن "القرارات التي تتخذها المحكمة الدستورية ملزمة للجميع، ولكل المؤسسات" وأضاف "نحن نقوم بعملنا، ولسنا إلى جانب أي شخص أو ضد أي شخص"، ولفت إلى أن "دولة ديمقراطية دستوريا، هي دولة تُفرض فيها قرارات القضاء على القادة والمواطنين".

ولم يكن تحذير أرسلان هو الأول من نوعه، فقد سبق وأن وجه كبير القضاة السابق هاشم كيليش قبل استقالته في مارس 2014 انتقادات شديدة لأردوغان وحكومة العدالة والتنمية، وحذر من خطورة أن يتحول القضاء في البلاد إلى "أداة انتقام" على يد السلطات السياسية بعد أن عززت شخصيات مدعومة من الحكومة قبضتها على محاكم رئيسية.

وفي الذكرى الـ 52 للمحكمة الدستورية أتهم كيليش حكومة أردوغان آنذاك بممارسة سياسة إلقاء الرعب في قلوب موظفي القضاء بخصوص مصيرهم ومستقبلهم.

وأطلق على هذه الممارسات اسم “الفساد الأخلاقي.

وكانت انتخابات الهيئات القضائية الأخيرة قد عززت مساعي الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لكبح السلطة القضائية وتخليصها من نفوذ المحسوبين على غريمه السياسي فتح الله جولن زعيم حركة "خدمة" الذي يتهمه أردوغان بإقامة نظام مواز وكيان إرهابي يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد.

خلاصة:

في هذا السياق العام يمكن القول أن المعركة بين القضاء من جهة وأردوغان قد تستمر طويلا، خصوصا وأن المحكمة الدستورية في تركيا تمكنت من توجيه ضربة قوية لرئيس الوزراء الذي يسعى إلى الإمساك بأعصاب المؤسسة القضائية، عندما ألغت جملة من القوانين التي أقرتها الحكومة ووافق عليها البرلمان التركي، بما فيها توسيع صلاحيات وزارة العدل، وإخضاع المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين لرقابته.

وجاء قرار المحكمة الدستورية بالإفراج عن صحفيي جريدة "جمهورييت" ضربة قاصمة لمساعي أردوغان بتقييد حرية الصحافة المعارضة.

صحيح أن أردوغان نجح في الاستحقاقات التشريعية التي شهدتها البلاد في العاميين السابقيين وآخرها الانتخابات النيابية التي حصد فيها الحزب الحاكم نحو 49% من مجموع المقاعد، إلا أن قسما كبيراً من الأصوات التي حصدها العدالة والتنمية جاءه صاغراً ليس عن اقتناع وإنما لعدم وجود بديل سياسي مقنع أو أفضل، خصوصا وان أحزاب المعارضة الرئيسة لا تزال تصر على النهج الإيديولوجي الذي يغفل الاهتمام بالاقتصاد والسياسية الخارجية فضلا عن غياب التلاقي والتنسيق فيما بينها.

في هذا السياق العام فأن ثمة فصول لم تكتمل في المعركة حامية الوطيس بين أردوغان الطامح إلى تحويل مجرى النظام السياسي، والقضاء التركي الحصن الأخير للدفاع عن التجربة الديمقراطية التي كرستها البلاد على مدار ما يقرب من عقدين.

لذا يعد التطور الذي أحدثه القضاء التركي سواء في مواجهة سلسلة القوانين الاستثنائية أو أحكامه المحايدة إزاء القضايا التي تخص الصحافيين من جهة و جماعة جولن من جهة ثانية هو في جوهره إعلاء لقيم الديمقراطية فوق حكم الصناديق، خصوصا في ظل اتجاه النظام الحاكم إلى ممارسة نوع من استبداد الأغلبية، والذي كشفت عنه العصا الغليظة للنظام في مواجهه خصومه، وتزايد محاولات السيطرة على مفاصل الدولة، وفي مقدمتها القضاء الذي ربما يكون الإصرار على تسيسه البوابة الحقيقية للتغيير الجذري في تركيا.