فى الدراسات التى تعنى بتحليل العلاقة بين دولة (أو جماعة) وبين سياقها الجغرافى الإقليمى (أو الدولى) يندر أن نجد أنفسنا إزاء وضع يكون فيه الطرفان معًا فى حالة حراك سياسى، وهذا حال هذه الدراسة لأنه منذ انطلقت موجة التغيير السياسى فى خمس من الدول العربية اعتبارًا من عام 2010 وأعيد معها تشكيل خريطة التحالفات الإقليمية وامتداداتها خارج حدود الوطن العربى كانت جماعة الإخوان المسلمين نفسها فى حالة تطور مستمر: من تشكيل الحكومة والأغلبية البرلمانية فى تونس إلى المشاركة فى حكومة وفاق وطنى ثم فقدان الأغلبية البرلمانية ثم استعادتها مجددًا بعد انشقاقات مهمة فى حزب الأغلبية، ومن ترؤس الدولة والحكومة والبرلمان فى مصر إلى إطاحة الجماعة من كافة هذه المواقع بإرادة شعبية واضحة دعمتها المؤسسة العسكرية وصولًا إلى تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية، ومن المشاركة فى حكومة وفاق وطنى فى اليمن كجزء من مبادرة إقليمية خليجية إلى الانخراط ضمن تحالف أكبر فى مواجهة عسكرية مع الرئيس السابق وجماعة الحوثيين لأسباب ليس هنا محل تفصيلها، ومن أقلية فى المؤتمر الوطنى العام بليبيا إلى الانخراط فى صراع سياسى أدى لازدواجية على مستويات البرلمان والحكومة والجيش ثم إلى احتمال إعادة التموضع السياسى على ضوء اتفاق الصخيرات الذى أنجز بضغط دولى، ومن العمل فى الأطر السياسية التى تشكلت مع بدايات الثورة السورية إلى حمل السلاح بعد عسكرة الثورة ودون تأثير ملموس على خريطة الصراع فى الحالتين.

بالتوازى مع تلك التطورات فى علاقة الإخوان بدولهم طرحت قضية وحدة الجماعة الأم فى مصر على خلفية الاختلاف حول أسلوب إدارة الصراع مع النظام المصرى والعلاقة بين إخوان الداخل وإخوان الخارج، واختلفت درجة انغماس تنظيمات الإخوان بالدول العربية فى أزمة إخوان مصر تبعًا لمتغيرات شتى منها درجة انعكاس هذه الأزمة عليها وحدود قدرتها على التأثير، ومن هنا فإن حركة حماس كانت الأكثر انغماسًا فى الأزمة بحكم علاقتها العضوية بإخوان مصر وكذلك بحكم امتلاكها السلاح ووسائل النفاذ للداخل المصرى، كذلك أسفرت تعقيدات الوضع الإقليمى عن مفارقات فى مواقف بعض التنظيمات الإخوانية من قبيل أن التجمع اليمنى للإصلاح الذى عارض عزل محمد مرسى وجماعته وجد نفسه فى خندق واحد مع الرئيس عبد الفتاح السيسى فى إطار عملية عاصفة الحزم، يضاف إلى هذا كله أن الفترة التى توالت فيها مفاعيل الثورات العربية شهدت تسوية الملف النووى الإيرانى مع مجموعة 5+1 وهذا يؤذن ببداية مرحلة جديدة فى تاريخ الشرق الأوسط كله، سواء لجهة النفوذ الإيرانى المترامى فى العديد من الملفات العربية والذى لا شك سوف يتعزز بعد انفتاح إيران على المجتمع الدولى، أو لجهة تغذية تنافس إيران مع تركيا فى ساحتين عربيتين ( سوريا والعراق) وإن يكن هذا التنافس منضبطًا بما لا يفجر مواجهة بين الدولتين، أو لجهة تأثيراته المُحتملة على العلاقة الوطيدة لإيران مع روسيا فى ظل تضخم الدور العسكرى الروسى فى سوريا بينما لم تعد روسيا هى منفذ إيران الوحيد للعالم .

وجميع تلك التطورات تمس إخوان مصر مباشرة بحكم علاقتهم الوثيقة بتركيا ولكونهم معنيين بالاستقطاب المذهبى المتصاعد فى المنطقة فضلًا عن أنهم مستهدفون من روسيا مثلهم فى ذلك مثل كل جماعات الإسلام السياسى.

أولًا: التفاعلات العربية لإخوان مصر

كقاعدة عامة يمكن القول إن علاقة إخوان مصر (وامتداداتهم التنظيمية) بمعظم الدول العربية هى علاقة يغلب عليها التوتر نتيجة سببين رئيسيين، السبب الأول أن دعوة الجماعة هى دعوة عالمية تبدأ من الاهتمام بتنشئة الفرد على قيمها وتتدرج صعودًا لتنتهى إلى تأسيس "خلافة إسلامية" تتحقق فى ظلها "أستاذية العالم"، وبهذا المعنى فإن الدعوة الإخوانية من حيث الجوهر هى دعوة عابرة للحدود السياسية ونافية لوجود الدول القومية.

والسبب الثانى أنه لما كان تحقيق هدف "الخلافة الإسلامية" يتطلب الوصول إلى مراكز صنع القرار، فإننا يندر أن نجد جماعة أنشأها الإخوان ظلت بعيدة عن العمل السياسى حتى وإن كانت نشأتها الأولى ذات طبيعة اجتماعية صرفة كالاهتمام بالتعليم مثلًا أو بالعمل الخيرى أو الدعوى...

إلخ، وهذا يعنى أن تصبح السياسة ساحة للتنافس بين الإخوان وبين القائمين على السلطة.

وبطبيعة الحال تتحكم مجموعة من العوامل فى تحديد شكل التفاعل بين الطرفين وما إذا كان منتجًا للأزمات أم لا فضلًا عن تحديدها درجة هذا التأزم، ومن تلك العوامل التكوين الديموجرافى للدولة وإلى أى مدى يعد المكون السنى (بما فيه المكون الإخوانى) عنصرًا من عناصر التوازن والاستقرار، ومصدر شرعية النظام ومدى ما يولده من صراع أو تعايش مع جماعة الإخوان على أساس أن الأيديولوجيات الدينية والعلمانية والليبرالية ترتب أشكالًا مختلفة من التفاعلات، ودرجة تغلغل الجماعة فى الجهاز البيروقراطى للدولة بما يرفع تكلفة الدخول معها فى مواجهة، وكثافة التفاعل بين الجماعة وبين التنظيم الدولى للإخوان المسلمين بكل ما يرتبط بذلك من إشكاليات تتعلق بسيادة الدولة.

كذلك لا يمكن إغفال أثر المتغيرات الإقليمية والدولية فى تشكيل طبيعة التفاعل بين إخوان مصر (وامتداداتهم التنظيمية) وبين الدول العربية، ويمكن أن نقارن هنا بين تأثير ظرفين إقليميين مختلفين على هذا التفاعل تأزمًا وانفراجًا، الظرف الأول هو احتلال العراق للكويت وتكوين تحالف دولى عارضه الإخوان كما عارضوا مخرجاته (عاصفة الصحراء)، والظرف الثانى هو توسع النفوذ الإيرانى فى المنطقة والحاجة لمواجهته من خلال تحالف يجمع بين دول وتنظيمات سنية يدخل فيها الإخوان.

بالتطبيق على دول مجلس التعاون الخليجى (بحكم أنها كانت الأكثر اشتباكًا مع التطورات المصرية منذ 2011)، نجد أن التحليل السابق يكتسب مصداقية.

ومن المعلوم أن أفكار الشيخ حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان فى مصر قد انتقلت إلى دول الخليج عن طريق أبنائها الذين تعلموا فى مصر فى مرحلة الأربعينيات من القرن الماضى، ثم فتحت تلك الدول أبوابها على مصراعيها لإخوان مصر فى الخمسينيات بعد دخولهم فى صراع مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر، حتى إذا بدأت الحقبة النفطية وزاد الطلب على العمالة المصرية كان طبيعيًّا أن يكون بين هذه العمالة منتمون للجماعة كونهم يمثلون جزءًا من مكونات الشعب المصرى.

وكما سلف القول بدأ الإخوان بتنظيم أنفسهم اجتماعيًّا ثم اتخذوا لأنفسهم واجهة سياسية، حدث ذلك فى الكويت حين انبثقت الحركة الدستورية عن جمعية الإصلاح ودخلت معترك السياسة ومنه إلى مجلس الأمة وكانت لها مطالبات سياسية ، كما حدث هذا فى البحرين حين اتخذت جمعية الإصلاح لنفسها ذراعًا سياسيًّا هو المنبر الوطنى الإسلامى الذى مثل بدوره فى مجلس النواب، وجمعت جمعية الإصلاح فى الإمارات بين العملين الدعوى والسياسى وشارك أعضاؤها فى كتابة عريضة فى 2011 تدعو لتغييرات فى النظام السياسى لدولة الإمارات.

وتمخض عن اشتغال الإخوان بالسياسة بعض الأزمات فى علاقتهم بالنظم الخليجية كما حدث فى التسعينيات من القرن الماضى فى كل من السعودية وسلطنة عمان وبدرجة أقل فى البحرين، كذلك اندلعت أزمة فى الإمارات هى الأخطر عام 2011 بعد اتهام أعضاء فى جمعية الإصلاح بينهم مصريون بتهديد استقرار الدولة بالتنسيق مع التنظيم الأم فى مصر، وفى الكويت أثيرت عام 2014 قضية خلط جمعية الإصلاح الأنشطة الخيرية بالأنشطة السياسية.

أما فى قطر فقد تم حل فرع الإخوان بها فى عام 2000 مما حصن دعمها لإخوان مصر من انعكاسات هذا الدعم عليها فى الداخل.

فاجأ الربيع العربى دول الخليج التى وجدت نفسها إزاء واقع جديد يلعب فيه الإخوان دور الفاعل الرئيس بحكم قدراتهم التنظيمية العالية، وبات عليها أن تتعامل مع هذا الواقع الجديد ففعلت ذلك متأثرة بمعطياتها الداخلية التى سبق شرحها.

وهكذا نجد أنه فى حين رحبت السعودية والكويت على سبيل المثال ترحيبًا متحفظًا بوصول محمد مرسى رئيس حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسى لجماعة الإخوان) إلى سدة الحكم فى مصر، أعلنت قطر عن إيداع 3 مليار دولار كوديعة بنكية دعمًا للاقتصاد المصرى فضلًا عن دعمها الإعلامى القوى لحكم الإخوان عبر قناة الجزيرة، ولما كان وصول محمد مرسى للحكم قد جاء فى ذروة تأزم العلاقة بين الإمارات وإخوان الداخل احتفظت الدولة لنفسها بمسافة.

ومع أن محمد مرسى سعى إلى التقارب مع السعودية فكانت أول دولة يقصدها بعد نحو أسبوعين من توليه الحكم إلا أن عوامل مختلفة لم تسهم فى تحقيق التقارب مع المملكة، أحد هذه العوامل الزخم الشديد الذى تلقته جماعات الإخوان فى العديد من الدول العربية بنجاح إخوان مصر ما نكأ مجددًا قضية العلاقة بين الداخل والخارج.

عامل آخر يتعلق بالسياسة الخارجية لإخوان مصر والتى شرعت الباب أمام الانفتاح على إيران رغم تعقيدات العلاقة السعودية - الإيرانية على خلفية ملفات شتى.

حتى إذا خرج ملايين المصريين فى 30 يونيو 2013 ضد حكم الإخوان تبادلت الدول الخليجية المواقف من مجريات الأوضاع فى مصر.

قدمت السعودية والإمارات والكويت والبحرين أشكالًا مختلفة من الدعم الدبلوماسى والاقتصادى والإعلامى القوى للرئيس المؤقت عدلى منصور ثم للرئيس عبد الفتاح السيسى فى مواجهة الحرب الضارية التى شنتها ضدهما الجماعة وصولًا إلى تصنيف كل من السعودية والإمارات الإخوان تنظيمًا إرهابيًّا.

وفى المقابل تعاملت قناة الجزيرة مع العزل الشعبى لمحمد مرسى بوصفه انقلابًا عليه واستضافت قطر عددًا من أبرز قيادات إخوان مصر الذين غادروها بعد 30 يونيو، وكانت هذه السياسة القطرية من الأسباب المباشرة لتوتير العلاقات بين قطر وبين دول المجلس وصولًا إلى قيام كل من السعودية والكويت والإمارات ولأول مرة بسحب سفرائهم من الدوحة فى مارس 2014.

ومع أن قطر طلبت لاحقًا من بعض القيادات الإخوانية مغادرة أراضيها وأغلقت قناة الجزيرة مباشر مصر إلا أن موقفها السلبى من العزل الشعبى للإخوان لم يتغير.

مع مطلع 2015 جرت مياه كثيرة من تحت الجسور، وكان الحدثان الأهم هما وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل السعودية وهو ما كان يعنى ضرورة التغيير فى بعض التوجهات الخارجية للمملكة، والاقتراب من تسوية الملف النووى الإيرانى وهو ما كان يعنى تطبيع علاقات إيران الدولية وبالتالى إعادة تشكيل توازنات القوة فى الشرق الأوسط.

اتجهت سياسة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى التهدئة مع الإخوان فى إطار إعطاء الأولوية لملفى الإرهاب (داعش بالأساس) وتمدد النفوذ الإيرانى، وانعكس ذلك على خفوت حدة الحملات الإعلامية ضد الإخوان من دون رفع الجماعة من قائمة التنظيمات الإرهابية، كما اتضح من استقبال رئيس المكتب السياسى لحماس خالد مشعل بهدف استرداد ملف العلاقة مع حماس من إيران.

وعلى حين شهدت العلاقات السعودية - القطرية انفراجة، وتوثقت العلاقات السعودية - التركية وأيضًا القطرية - التركية خصوصًا على المستوى العسكرى، شهدت العلاقات السعودية - المصرية بعض التوتر، وفى فبراير 2015 صدر بيان مجلس التعاون الخليجى ناقدًا اتهام مندوب مصر الدائم بالجامعة العربية دولة قطر بالإرهاب لتحفظها على قصف مصر مواقع داعش فى ليبيا بعد ذبح 21 مصريًّا، وذكر أمين عام المجلس أن الاتهام المذكور تجاهل الجهود المخلصة لقطر فى مكافحة الإرهاب.

ثانيًا: التفاعلات الإقليمية لإخوان مصر

عندما هبت رياح التغيير على دول الوطن العربى فى ديسمبر 2010 كانت خريطة التحالفات فى منطقة الشرق الأوسط تتخذ الشكل التالى: على جانب كان يوجد ما أطلق عليه معسكر الاعتدال الذى ضم بالأساس دول مجلس التعاون الخليجى (عدا قطر) بالإضافة إلى كل من مصر والأردن والمغرب، وعلى جانب آخر كان يوجد ما وصف بمعسكر الممانعة الذى ضم بشكل رئيس كلًا من قطر وحزب الله اللبنانى وحركة حماس فضلًا عن كل من إيران وتركيا.

ولئن كان إخوان مصر أقرب لمعسكر الممانعة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التى كانت تجمعهم بكافة مكونات هذا المعسكر، إلا أن مزيجًا من الرواسب التاريخية والخلافات السياسية والاختلافات المذهبية كانت تباعد بينهم وبين تلك المكونات (مذبحة حماة لإخوان سوريا، الدور الإيرانى فى العراق وفى دول الخليج، العلاقة التركية - الإسرائيلية، أما مسألة الاختلاف المذهبى فغنية عن البيان مع كل من إيران وحزب الله ونظام الأسد فى سوريا).

وعمومًا فإن التماهى فى السياسات الخارجية للدول والحركات غير وارد.

بدأ التغيير من تونس فتغيرت معه أشياء كثيرة خصوصًا بعد أن راحت كرة الثلج تتدحرج من دولة إلى أخرى، فتأزمت العلاقات التركية - السورية الوثيقة على خلفية تطورات الثورة السورية، واكتسبت العلاقات الإيرانية - السورية أبعادًا جديدة مع الانغماس المباشر لإيران فى أحداث الثورة السورية وحدث التطور نفسه فى علاقة سوريا بحزب الله، وغادر رئيس المكتب السياسى لحماس دمشق ليستقر فى الدوحة، ومثلت قناة الجزيرة المنبر الإعلامى الأهم لمهاجمة نظام الرئيس بشار الأسد.

وهكذا أعيد تشكيل خريطة التحالفات السياسية فى الشرق الأوسط ليس وفق نهج التعامل مع الكيان الإسرائيلى كما كان معلنًا قبل 2010، ولكن على أساس الموقف من ثورات الربيع العربى: بمعنى الموقف من تكييف حركة الجماهير على أنها ثورة أم مؤامرة والموقف من أسلوب التغيير وما إذا كان التسوية السياسية أم الحل العسكرى، وهنا حدثت مفارقات، فإيران التى ساندت اضطرابات البحرين وعدتها ثورة مما يضع إيران فى معسكر التغيير وقفت بكل قوة فى وجه الثورة السورية بحسبانها مؤامرة دولية على نظام مقاوم.

وظهرت فجأة دعوة لتشكيل تكتل من الدول الملكية بما فيها الأردن والمغرب، لكن الدعوة لم تستمر طويلًا بحكم اختلاف النظام المغربى بالذات عن النظم الخليجية هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأن قطر بحكم دورها الذى سبقت الإشارة إليه كانت خارج فكرة تكتل الملكيات فى مواجهة الجمهوريات.

وبشكل عام صارت الصورة كالتالى: دول الخليج (عدا قطر ) والأردن والمغرب واليمن فى جانب، وتركيا وقطر وحماس وتونس ومصر فى جانب آخر، وتأرجح موقف إيران وحزب الله بين الجانبين حسب طبيعة الحال.

بدأ الرهان الإيرانى - التركى على مصر فور تنحى محمد حسنى مبارك تحت ضغط إرادة شعبية عارمة وخروج جماهيرى عابر للجهات والطبقات والاتجاهات، وبعد يومين فقط على هذا الحدث الجلل خاطب المرشد الإيرانى الشعب المصرى معتبرًا أن الثورة المصرية استلهمت الثورة الإسلامية فى إيران، وكأن اثنين وثلاثين عامًا كان لابد أن ينقضوا حتى يستوعب المصريون ما حدث فى إيران ويأتون مثله، على أية حال أصبح مصطلح "الصحوة الإسلامية" المصطلح المعتمد إيرانيًّا لوصف الثورة المصرية وكافة الثورات العربية الأخرى، فاستقبل خامنئى وفدًا من شباب دول الربيع العربى فى إطار ندوة عن "الصحوة الإسلامية"، وقصد وفد مصرى كبير طهران لتدارس نتائج هذه الصحوة.

ومع أن إخوان مصر كانوا فى صدارة المشهد السياسى فى أثناء حكم المجلس العسكرى، وحاولوا مبكرًا جدًا تنصيب الشيخ يوسف القرضاوى إمامًا للثورة حين جاء ليخطب من قلب ميدان التحرير، إلا أن الاختبار الأهم لعلاقتهم مع إيران ارتبط بانتخاب محمد مرسى رئيسًا للجمهورية وتحمله رسميًّا مسئولية الحكم.

أرادت إيران أن يطوى الرئيس المصرى الجديد صفحة الخلاف الطويل معها، فمصر هى أكبر دولة عربية وتطبيع العلاقة معها له قيمة لا تنكر، ثم إن فى مصر العتبات الدينية المقدسة التى هى مقصد آل البيت، هذا فضلًا عن فرص التصدير الكبيرة للسوق المصرية.

وبالمثل كان للإخوان ما يطلبونه من إيران وبالتحديد نقل تجربة الحرس الثورى الذى يمثل القوة الموازية للمؤسسة العسكرية النظامية، كما أن إيران أعربت عن استعدادها لنقل تكنولوجيتها النووية لمصر وأكدت على تشوق مواطنيها لزيارة أضرحة سِبْط رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لكن فى مقابل تلك الفرص لتطبيع العلاقات المصرية - الإيرانية كانت هناك مجموعة من الكوابح والقيود، أهمها القيد الداخلى النابع من التيار السلفى الذى تحالف مع الإخوان فى بداية صعودهم والذى يتخذ موقفًا شديد العداء من الشيعة، ثم هناك القيد الإقليمى النابع من التحفظ الخليجى على انفتاح مصر على إيران، وأخيرًا القيد الأمريكى خاصة فى ظل تعثر المفاوضات مع إيران حول ملفها النووى.

ومن حصيلة التفاعل بين هذه الفرص والقيود تولدت مجموعة من التناقضات فى علاقة إخوان مصر مع إيران: حضور محمد مرسى فى أغسطس 2012 القمة رقم 12 لمنظمة المؤتمر الإسلامى لأول مرة فى طهران ثم الغمز من قناة فى المذهب الشيعى إبراء لساحته أمام السلفيين والهجوم على بشار الأسد تقربًا من دول الخليج، استقبال فوج من السائحين الإيرانيين فى أبريل 2013 ثم تجميد السياحة الإيرانية بعد غضب السلفيين ثم استقبال وفد ثان بعد ذلك بشهرين، زيارة سرية لوفد برئاسة عصام الحداد العاصمة الإيرانية فى أبريل 2013 والاجتماع مع مسئولين أمنيين ومع وزير النفط خرقًا للعقوبات الدولية ثم الادعاء بعد الكشف عن الزيارة أنها كانت لأمر يخص القضية السورية.

وفى المحصلة الختامية انتهى حكم الإخوان دون تغيير ملموس فى علاقة مصر بإيران، ومع أن إيران لم تكن لها مصلحة خاصة فى عزل مرسى إلا أنها لم تتورط فى الصراع بين الإخوان وبين النظام الجديد سواء لأنها تبينت أن حكم الإخوان لم يملك إرادة إحداث نقلة نوعية فى العلاقة معها، أو لأن جبهات إيران المفتوحة فى اليمن وسوريا أخذت جل اهتمامها.

مع تركيا كان الوضع مختلفًا فعلاقتها بإخوان مصر كانت أكثر اتساقًا وصلابة واستمرارًا، وهكذا سرعان ما انقشعت سحابة الصيف التى سببتها نصيحة أردوغان للمصريين بضرورة التمييز بين العلمانية واللادينية منتهيًّا للقول "لست علمانيًّا لكننى رئيس وزراء دولة علمانية"، وبعد أن أدانت قيادات إخوانية كمحمود غزلان وسعد الكتاتنى ما صرح به أردوغان فى القاهرة فى سبتمبر 2011 واعتبرته تدخلًا فى شئون مصر لا يلزمها، إذا بإسطنبول تصبح المقر المختار لقيادات الجماعة وفيها يلتئم "برلمان الإخوان!".

دعم أردوغان نظام الإخوان منذ البداية، ففى زيارة محمد مرسى لتركيا فى سبتمبر 2012 تعهد أردوغان بتقديم مليارى دولار دعمًا للاقتصاد المصرى بحيث يودع نصف هذا المبلغ كوديعة لمدة خمس سنوات بفائدة زهيدة مع فترة سماح مدتها ثلاث سنوات، أما النصف الآخر فيكون على شكل استثمارات تركية فى مصر، وفى هذه الزيارة تكلم مرسى من على منبر حزب العدالة والتنمية.

ولم يوفر أردوغان جهدًا فى إظهار تعاطفه مع الإخوان بعد عزل مرسى بتصرفات رمزية عديدة كوضع تمثال للأصابع الأربعة على مكتبه أو إطلاق اسم أسماء البلتاجى على حديقة تركية أو البكاء أمام العدسات "لمعاناتهم" ، لكن الأمر تجاوز التعاطف الرمزى إلى ما هو أبعد بكثير فلقد استقبل أردوغان قيادات الإخوان واستضاف فضائياتهم و" برلمانهم " واجتماعات تنظيمهم الدولى، بل وصل به الأمر إلى تحريض مجلس الأمن على معاقبة نظام الرئيس عبد الفتاح السيسى.

مثل هذا الموقف بتجلياته المختلفة لا يمكن تفسيره بالانتصار للديمقراطية فلقد كان أردوغان صديقًا شخصيًّا لبشار الأسد قبل مارس 2011 كما أن سياساته معروفة تجاه حرية الصحافة وحقوق الأكراد والعلاقة بين السلطات، إذن خلف هذا السبب المعلن توجد أسباب حقيقية كامنة منها: الخبرة التركية مع الدور السياسى للمؤسسة العسكرية، وتباين مواقف الدولتين من قضايا جوهرية، هذا فضلًا عن التوافق الأيديولوجى بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحرية والعدالة، ليس بالضرورة إلى حد اعتبار الحزب التركى واجهة الإخوان كما نسب إلى مرشد الإخوان السابق مهدى عاكف لكن بمعنى التوجه الإسلامى المشترك.

وهكذا تحول أردوغان إلى أيقونة إخوان مصر، وفى وجود مرشد الجماعة داخل السجن أصبح لا بأس من اتخاذ الرئيس التركى رمزًا لدولة الخلافة وتأجيل الصراع مع تركيا على الدور لحين امتلاك الإخوان أدواته.

هل تنجح الوساطة السعودية للتقريب بين تركيا ومصر فى تغيير موقف أردوغان من الإخوان؟ احتمال غير مرجح لأن هذا يقوض مصداقية الخطاب السياسى لأردوغان، ولأن الإخوان جزء من إدارة تركيا صراعها فى سوريا وتنافسها مع إيران، ولأن مصر قطعت شوطًا فى الانفتاح على روسيا والتقارب مع اليونان وقبرص، حتى وإن فرضت متغيرات مختلفة مشاركة مصر مع تركيا فى تحالف إسلامى بقيادة السعودية لمكافحة الإرهاب.

خاتمة

كشف التحليل السابق عن أنه اعتبارًا من عام 2010 (أو بالأحرى من عام 2011) تغير شكل خريطة التحالفات الإقليمية أكثر من مرة، وهو أمر أثر فيه الإخوان وتأثروا به.

ومع بدء عام 2016 تبرز عدة متغيرات أهمها: تزايد التصدع الداخلى لإخوان مصر وخروجه إلى العلن، تغير معادلة الصراع فى سوريا واقتراب الجيش السورى(المدعوم روسيًّا وإيرانيًّا ومن حزب الله) من الحدود مع تركيا والحديث عن تدخل برى محتمل بواسطة السعودية وتركيا، انحسار مناطق نفوذ داعش فى العراق والاستعداد لمعركة الموصل، تأكيد ثم نفى الاستعداد للتدخل الدولى ضد داعش ليبيا، انتخابات كل من مجلس الخبراء ومجلس الشورى الإيرانيين ومحاولة تحجيم شعبية ما يعرف بالتيار الإصلاحى لصالح تيار المحافظين، وأخيرًا غموض المشهد الانتخابى الأمريكى وانعكاساته المؤكدة على المنطقة برمتها.

وهذا يعنى أنه بينما قد تتقلص مساحات المواجهة مع جماعات التكفير فى دول بعينها فإنها قد تتوسع فى دول أخرى إحداها لها حدود مباشرة وطويلة مع مصر ، كما يعنى أن نقل التهديد إلى داخل تركيا مباشرة قد يقيد قدرتها على التأثير الإقليمى والتلاعب بقضية الإخوان، ثم إنه فى حالة انتقال السلطة للجمهوريين فى أمريكا فإن هذا سيعقد على الأرجح العلاقة مع إيران وكذلك مع روسيا، وهكذا تبدو المنطقة على مشارف تطورات محتملة متشابكة بأكثر مما يظهر للعيان وليس الإخوان بعيدًا عن انعكاساتها وتعقيداتها.

* نُشرت هذه الدراسة في عدد مارس 2016 من "الملف المصري" ، احد إصدارات مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية