قام عدد من مُمثلي الأطراف الليبية المتنازعة بالتوقيع علي اتفاق سياسي في الصخيرات في 17 ديسمبر الماضي.
واستقبل كل من المجتمع الدولي بشكل عام، وعدد من الفاعلين الإقليميين بشكل خاص هذا الاتفاق بحفاوة وترحاب كونه يُمثل مدخلاً لإنهاء صراع سياسي وعسكري استشرى في ليبيا خلال العامين الماضيين، ولوضع مجموعة من الضوابط لمواجهة حالة غياب الاستقرار السياسي الذي سيطر علي ليبيا منذ انتهاء ولاية المجلس الوطني الانتقالي.
ومما لا شك فيه يُعد الاتفاق في حد ذاته خطوة إيجابية في سياق الصراع السياسي الممتد في ليبيا وتكليلاً لجهود الأمم المتحدة في الحوار السياسي بين مجلس النواب في طبرق والمؤتمر الوطني العام في طرابلس، فالاتفاق في النهاية جاء بإطار لاحتواء الكيانين المتصارعين فيما يشبه هيكل انتقالي للدولة.
إلا أن الترحيب الدولي الذي صاحب توقيع الاتفاق والإطار المبدئي الذي جاء به الاتفاق لن يمثلا أية ضمانات لتطبيق الاتفاق علي أرض الواقع أو لتخطي حالة الانقسام السياسي من ناحية، ولن يكونا بمثابة حداً فاصلاً لإنهاء السجال العسكري بين الكيانات المُسلحة المتصارعة علي أرض ليبيا، سواء كانت هذه الكيانات مؤسسية كالجيش الوطني الليبي، أو غير مؤسسية كالميليشيات المسلحة بمختلف تشكيلاتها، أو كيانات إرهابية كتنظيم الدولة الإسلامية.
وبالتالي، من غير الممكن التقليل من أهمية البحث في التحديات التي تواجه اتفاق الصخيرات وحكومة الوحدة الوطنية التي من المفترض أن تنبثق عنه، ولكن في ذات الوقت، من غير الممكن فصل هذه التحديات عن البناء الكُلي للأزمة الليبية والتي يُعد اتفاق الصخيرات في حد ذاته أحد أبعادها.
ومن ثم، يصبح التساؤل حول كيفية خروج ليبيا من حالة الصراع السياسي والعسكري في ظل اتفاق الصخيرات وتبعاته أكثر أهمية من الإسهاب في سرد التحديات التي تواجه هذا الاتفاق.
لعل الأزمة الرئيسية في اتفاق الصخيرات كانت في الطريقة التي تم توقيع الاتفاق بها، فبعد محاولات مضنية من مبعوث الأمم المتحدة السابق برناردينو ليون للتوصل لإجماع حول بنود الاتفاق بين مجلس النواب في طبرق والمؤتمر الوطني العام في طرابلس، انتهت ولاية ليون دون التمكن من التوصل لهذا الإجماع.
وعندما جاء المبعوث الحالي مارتن كوبلر خلفاً لليون، انتهج نهجاً مختلفاً بعض الشيء، حيث لم يهتم بالتوصل لتوافق بين الكيانان المتصارعان، ولكنه توجه لصناعة هذا التوافق بين الأطراف التي وافقت علي التوقيع، دون الحاجة لانتظار موافقة أياً من الكيانين بصفتهما المؤسسية.
وبالطبع من غير الممكن فصل هذا التوجه عن حجم الضغوط الدولية التي احتدمت بعد هجمات باريس، والتي من الممكن النظر إليها كإعادة صياغة لدور المجتمع الدولي ونمط تدخله في أزمات الشرق الأوسط.
فالضغوط السياسية وإعادة صياغة التحالفات وأنماط التدخل بات من الممكن رصدها في كل من سوريا، وليبيا، اليمن.
وفي حين أنه من الممكن النظر لهذا النهج كحل عملي لأزمة غياب التوافق والإجماع في ظل الصراع السياسي، فمن الصعب في الوقت ذاته إغفال آثاره علي خريطة الصراع السياسي وتوازنات القوى داخل ليبيا.
فبالرغم من توقيع الاتفاق وتأييد المجتمع الدولي لبنوده من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2259 الصادر في 24 ديسمبر والذي أقر شرعية المجلس الرئاسي المنبثق عن الاتفاق، بالإضافة للتلويح المتكرر من دول مختلفة كألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا بالاستعداد للتدخل عسكرياً في ليبيا، من الصعب تجاهل أن الاتفاق صنع فصيلاً ثالثاً داخل ليبيا يحظى بالشرعية والاعتراف الدولي، ولن يأخذ هذا الفصيل مكانه في خريطة التفاعلات السياسية داخل ليبيا دون صراع.
وقد ظهرت بوادر هذا الصراع سريعاً من خلال تصريح كلاً من مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام بأن الأعضاء الموقعين علي الاتفاق لا يمثلون سوى أنفسهم، ثم تبلور أكثر من خلال رفض مجلس النواب تشكيل حكومة الوفاق الذي تقدم به فايز السراج رئيس مجلس الوزراء وفقاً لما جاء في بنود اتفاق الصخيرات، وقد برر مجلس النواب هذا الرفض بحجم الحكومة الكبير الذي تضمن 32 حقيبة وزارية من ناحية وغياب الكفاءة عن الأسماء المرشحة من ناحية أخرى، بالإضافة لرفض المادة الخاصة بإصدار قانونبشأن اختصاصات ونظام عمل مجلس الدفاع والأمن القومي، وهي المادة التي رأى كل من مجلس النواب والفريق خليفة حفتر أنها تُعد تدخلاً سافراً في عمل الجيش الليبي.
ولذا، يُعد نمط التفاعل بين الفصائل الرئيسية الثلاث هو المدخل الحقيقي لحل الأزمة الليبية، ففي حال استمرار صراع الشرعيات الذي اتسمت به الفترة الماضية بين مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام، أو تحول هذا الصراع إلى حالة من الشد والجذب حول الصلاحيات بين كل من مجلس النواب، والمؤتمر الوطني العام الذي من المفترض أن يتحول إلى مجلساً للدولة، وحكومة الوفاق الوطني، لن تتمكن ليبيا من الاستفادة من اتفاق الصخيرات، بل سيكون هذا الاتفاق بمثابة مرحلة جديدة من الصراع السياسي والتشرذم الوطني والسجال العسكري.
ومن المهم هنا ملاحظة أن العديد من البنود التي نص عليها اتفاق الصخيرات اتخذت من التشاور بين الكيانات الثلاثة آلية ضرورية لصناعة القرار، وطغت علي صياغة البنود ديبلوماسية توافقية من الصعب تفعيلها في سياق الخلافات السياسية المحتدمة.
ومن ثم، من غير الممكن أن يتوقف دور المجتمع الدولي عند الضغط لتوقيع الاتفاق، ولكن يجب أن يمتد إلى مرحلة تفعيله علي أرض الواقع.
فبغض النظر عن التقييم السياسي أو الأخلاقي لأسلوب توقيع الاتفاق، كان دور القوى الدولية في هذا التوقيع دوراً محورياً، وهو الدور الذي يُعد سبباً لتعرض المجلس الرئاسي للانتقادات المتكررة التي ترى أنه كيان سياسي تم فرضه علي الشعب الليبي بوصاية دولية.
وبعيداً عن الخوض في دقة هذه الانتقادات، تُشير كل الحقائق علي أرض الواقع إلى أن حكومة الوفاق الوطني واتفاق الصخيرات ككل لن تكون لهما قيمةأو دوراً سياسياً ملموساً دون دعم دولي وإقليمي مستمر.
ويذهب البعض لترجمة هذا الدعم إلى التدخل العسكري المباشر، سواء تحت لواء محاربة تنظيم الدولة الإسلامية أو تمكين حكومة الوحدة الوطنية من تأدية دورها المنصوص عليه في الاتفاق.
وبالرغم من انتشار العديد من التقارير في الفترة الأخيرة التي تُشير لاستعداد أوروبي للتدخل العسكري في ليبيا، تظل المواقف الرسمية مرهونة بتطورات التفاعلات السياسية علي أرض الواقع، ويظل التدخل العسكري خياراً كارثياً لن يأتي سوى بالمزيد من الدماء والتشرذم في ظل غياب الحد الأدنى من التوافق الداخلي حول هذا التدخل.
وبالتالي، من الضروري أن يستمر المجتمع الدولي في نهج التلويح بفرض العقوبات أو فرضها فعلياً على كل من يُعطل التنفيذ العملي لبنود الاتفاق، كما أنه من المهم أن يبدأ المجتمع الدولي بشكل عام، والفاعلين الإقليميين بشكل خاص وعلي رأسهم مصر، في إعادة بناء قدرات الجيش الليبي، وهو الدور الذي يجب أن يأخذ خطاً مستقلاً يسير بالتوازي مع محاولات صناعة التوافق السياسي.
بات من الضروري للخروج من الأزمة الليبية اللجوء لأساليب تختلف عن تلك التي لجأ إليها المجتمع الدولي خلال الفترة الماضية، سواء كانت التدخل الجزئي أو محاولة التقريب في وجهات النظر.
التعامل مع اتفاق الصخيرات كنقطة نهاية للصراع السياسي في ليبيا لن يكون سوى تكرار لنموذج الأخطاء التي وقع فيها المجتمع الدولي في سياق محاولاته للتسوية السياسية في ليبيا خلال العامين الماضيين.
فتوقيع الاتفاق وتشكيل حكومة الوفاق الوطني المنبثقة عنه ليس سوى حلقة أولى في سلسلة طويلة من الإجراءات التي تمتد لتشمل إعادة تمكين الجيش الليبي، والقضاء علي هيكل التفاعل غير الرسمي بين الكيانات المؤسسية والتشكيلات المسلحة، ورفع معدلات إنتاج القطاع النفطي، واحتكار الدولة لمنظومة الأمن.
فصل اتفاق الصخيرات عن أي عامل من هذه العوامل لن يؤدي سوى للمزيد من الانشقاق والتشرذم.
وفي النهاية، يظل المواطن الليبي هو من يدفع ثمن الإخفاق السياسي لكل من مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام، وإذا كانت حكومة الوفاق الوطني جاءت نتيجة لضغوط دولية من أجل الحفاظ علي مصالح استراتيجية وسياسية، فيجب أن تستمر هذه الضغوط إلى أن تتمكن حكومة الوفاق الوطني من بلورة اتفاق الصخيرات الذي من الممكن أن يكون مدخلاً للحفاظ علي مصالح الشعب الليبي في حال تفعيله.