يعد مشروع بناء العاصمة الإدارية الجديدة ضمن المشروعات القومية التى تتبناها الدولة، وقد حظي بأهمية كبرى عندما تم الإعلان عنه خلال فعاليات المؤتمر الاقتصادي "مستقبل مصر" في مارس 2015.
وتهدف الفكرة الأساسية للمشروع إلى إنشاء مدينة "بمواصفات عالمية" ، تساهم في تخفيف الازدحام في القاهرة وحل أزمة الكثافة السكانية ، هذا إلى جانب تأمين فرص اقتصادية متعددة ونوعية حياة مميزة.
وتبلغ مساحة العاصمة الجديدة المزمع إنشاءها حوالي 700 كيلو متر مربع، وتقع شرق القاهرة ما بين طريقي السويس والعين السخنة على بعد نحو 50 كيلومتراً من القاهرة، وتتسع لـ5 ملايين نسمة، وتضم المدينة كل الهيئات، والوزارات، ومقار البرلمان، والقصر الرئاسي ومنطقة للسفارات الأجنبية والمنظمات الدولية، ومركزاً تجارياً عالمياً، ومدينة طبية عالمية ومدارس وجامعات دولية، ومطارا دوليا...
هذا ويستغرق تنفيذ المشروع ما بين 5 – 7 سنوات بتكلفة مبدئية تصل إلى 45 مليار دولار.
شهدت خريطة مصر - خلال العشرين عاماً الماضية - تكاثر متعاقب للمدن الجديدة لتوسيع دائرة التنمية والعمران خارج المناطق التقليدية للتكدس السكاني والتركيز العمراني والكثافة الاقتصادية.
وهكذا تجمع رصيد من الإنشاءات للكيانات العمرانية الجديدة، تسارعت خطاه بفعل إشراف جهة مركزية عليه، وبفعل ضخ موارد بلغت عشرات المليارات من الجنيهات لإنشاء البنية الأساسية من طرق ومرافق لتكون عامل جذب للاستثمار الخاص ، ولكن هذه المدن لم تساهم في حل الأزمات وظل عدد سكانها لا يتجاوز الآلاف، وهو الأمر الذي أثار تساؤل رئيسي حول أولوية هذا المشروع في الوقت الحالي، في ظل المشاكل التي يعانى منها الاقتصاد المصري.
ويزيد هذا التساؤل إلحاحا في ضوء فشل المحاولات السابقة لبناء عاصمة إدارية لمصر خارج القاهرة ولكن دون أن تصل إلى النتيجة المتوقعة.
فهل إنشاء عاصمة جديدة يعد حلا مضمونا لمشاكل التكدس السكاني والمروري؟ وهل تمثل نظم الإدارة المطبقة في العاصمة الجديدة، نمطاً مختلفاً عن النمط السائد في المدن القديمة من حيث تدعيم المشاركة واللامركزية والتمكين؟ إن حركة إنشاء العواصم البديلة لم تقتصر على منطقة بعينها أو دولة بعينها بل انتشرت في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء وتناولتها كل دولة على اختلاف ظروفها الداخلية والسياسة العمرانية التي تتفق مع أهدافها ومشكلاتها.
تباينت الأسباب فى بناء العواصم الجديدة ما بين حل المشكلات العمرانية وتفادى تفاقمها- كوضع حد لحالة التمركز السكانى الشديدة بالمدن الكبرى، والاختناق المرورى وزيادة استهلاك الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وصرف صحى- ومحاولة جذب الاستثمارات إلى الأقاليم الداخلية بالدولة بهدف توفير فرص عمل ورفع المستوى الاقتصادي، وبالتالى كانت مهمة المخططين وصانعى القرار وضع تصور لحل تلك المشكلات من خلال إنشاء عواصم بديلة.
وهناك دولاً عديدة أقدمت علي خطوة تغيير عاصمتها ؛ حيث أنه فى عام 1960 قررت البرازيل نقل عاصمتها من ريودى جانيرو إلى برازيليا، وفى عام 1997 قامت كازاخستان بنقل عاصمتها من مدينة ألماتى إلى مدينة أستانا، بينما قامت باكستان بنقل عاصمتها من كراتشى إلى إسلام أباد عام 1963 ، أيضاً قامت دولاً أخرى بنقل عواصمها التاريخية العريقة إلى مدن أخرى حديثة ، فتركيا التي نقلت العاصمة من اسطنبول التاريخية إلى أنقرة عام 1923 ونيجيريا التي نقلت عاصمتها من لاجوس إلى أبوجا عام 1991.
وبينما حققت دول بعض النجاح مثل البرازيل، وكازاخستان وماليزيا ونيجيريا، كانت تجارب دول مثل تنزانيا وكوت ديفوار أقل نجاحاً لهيمنة المدينة الكبرى على مقدرات الحياة في البلدين.
ولتحقيق الاستفادة المرجوة لابد من اختيار التجارب التى تمتلك بعضاً من أوجه التشابه مع الواقع المصرى قدر المستطاع أو التجارب الرائدة فى إنشاء العواصم الجديدة أو الدول التى تتميز بوجود تشابه فى أحد أو بعض المشاكل العمرانية مع مصر أو بعض الظروف مثل الخلفية الثقافية أو الحالة الاقتصادية .
ويستند البعض إلى تجربة البرازيل فى نقل العاصمة حيث تعتبر من دول العالم الثالث التى عانت من التكدس العمرانى بالعاصمة وما يترتب عليه من مشكلات اجتماعية وخدمية وبشكل عام يمكن تقييم تجربة البرازيل فى نقل العاصمة بأنها نجحت فى تحقيق بعض أهدافها حيث قدمت نموذج جيد لفكرة توزيع الاختصاصات بين مدنها الكبرى وتحقيق اللامركزية، فضلاً عن نجاحها فى استقطاب عدد لا بأس به من السكان.
بيد أنها أخفقت من الناحية الاقتصادية مما أدى إلى تراكم الديون على الحكومة لتكاليف إنشاء المدينة.
وبالتالى كان الهدف الأساسى من إنشاء المدينة أكبر من حسابات الجدوى الاقتصادية .
كما أن الجدول الزمنى الذى تم وضعه لإنشاء المدينة لم يكن واقعياً مما أسفر عن تصدع عدة مبان بعد الانتهاء منها نتيجة الإسراع فى التنفيذ.
تشير التجارب الدولية إلى أن تحديد موقع العاصمة الجديدة يختلف قربًا أو بُعدًا عن العاصمة القديمة بتباين الفلسفة التي تقف خلف نقل العاصمة؛ فالتجربة البرازيلية في نقل العاصمة إلى وسط البلاد "برازيليا" والتى تبعد عن ريودى جانيرو بنحو 1200كم، يرجع إلى أن المنطقة الوسطى من البلاد كانت تعاني من فجوة تنموية عكس المناطق الساحلية .
وعلى النقيض الموقع الحالي للعاصمة الجديدة لمصر والذى يبعد عن العاصمة بنحو 50 كم، أثير حوله الكثير من الجدل لعدم وضع اعتبارات الأمن القومي في الحسبان، فضلاً عن القرب الكبير بينه وبين العاصمة القديمة مما يشكل عبئاً تخطيطياً.
وهناك من يرى أن أفضل مكان لإقامة تلك العاصمة يقع علي طريق الصعيد فى منطقة "سهل المنيا الغربي" على اعتبار أنها حلقة وصل بين الصعيد والدلتا مما سيفتح أفاقا جديدة للتنمية في منطقة واعدة ومتميزة.
وفى سياق متصل تعكس خطوات إنشاء العاصمة الجديدة فى التجارب الدولية أنه تم طرح عدة مسابقات لتخطيط وتصميم مبانى العاصمة الجديدة واشترك فيها كبار المعماريين الذين اهتموا بمراعاة أدق التفاصيل بدءاً من ارتفاعات المبانى وصولاً إلى وضع تصور لألوان الحافلات وسيارات الأجرة بالمدينة وفقاً لأحدث معايير التخطيط العمرانى.
بدا واضحاً أن معظم الدول المتقدمة والنامية اشتركت فى دوافع وأسباب إنشاء عواصم بديلة، وقد تناولت كل دولة التجربة بفكر يتلاءم مع الظروف العمرانية والاقتصادية والسكانية بها.
أما التجربة المصرية فقد امتازت بدرجة عالية من المركزية بدءا من اتخاذ القرارات مروراً برسم السياسات وانتهاءً بالمهام الإدارية للعاصمة الجديدة.
لم تستفد مصر من تجارب الدول الرائدة فى إنشاء عواصم بديلة والتي تميزت بأسلوب علمي في اختيار مواقع المدن الجديدة بحيث يتم توزيع المجتمعات العمرانية على كافة أنحاء الدولة بشكل متوازن ، ويكون الاختيار في الأماكن الأقل تنمية وبالتالي تصبح الاعتبارات التخطيطية والإقليمية مدخلاً أساسيا في عملية اختيار العاصمة الجديدة في هذه البلاد وليس الاجتهاد والاختيار العشوائي.
ويشير اختيار موقع العاصمة في مقابلة المدن القائمة على امتداد وادي النيل إلى سياسة تقوم على مبدأ توجيه الزحف العمراني تدريجيا من الداخل إلى الخارج باتجاه الصحراء وليس على أسلوب إنشاء عاصمة مستقلة في مناطق جديدة ذات إمكانيات بكر قابلة للاستغلال وهذا الأسلوب مناسب للتنمية في مصر طبقا لإمكاناتها المحدودة.
إن فرضية أن العاصمة الإدارية الجديدة، المقدر لها أن تستوعب 5 مليون شخص، ستنجح في تخفيف الكثافة السكانية بالقاهرة الكبرى؛ لا بد أن نأخذها بكثير من الحيطة والحذر.
فتحقق مثل هذا الهدف يتطلب تلاشي الإخفاقات الحكومية في جذب السكان إلى المدن الجديدة بمصر، حيث أن الأمر لا يتعلق بقضية معروض عقاري بقدر تعلقه بكيفية تحفيز الطلب على السكن بالعاصمة الجديدة، من خلال تيسير طرق تمويل الوحدات السكنية، ووجود بنية تحتية قوية وشبكات مواصلات تربطها بالمواقع المختلفة بالبلاد، كذلك فإن قضية توزيع التركز السكاني ترتبط أكثر بعملية التنمية الاقتصادية لمختلف المحافظات المصرية؛ ما يجعلها محافظات جاذبة لا طاردة، وهو ما يتطلب إعادة النظر مرةً أخرى في طريقة توزيع الموارد والاستثمارات والخدمات.
أيضاً مسألة مهمة ألا وهى نقل الأجهزة الإدارية إلى مواقع جديدة بالعاصمة الإدارية الجديدة، حيث يتطلب الأمر جهدًا أوسع في تغيير البنية التشريعية لنظام الخدمة المدنية بجانب تغيير الثقافة التنظيمية، ومزيدًا من رفع كفاءة مهارات الموظفين العموميين.
وحتى لا يتكرر تركز الخدمات الإدارية للدولة في العاصمة الجديدة؛ فمن الأولى الأخذ باللامركزية المالية والإدارية بمصر.
مما سبق يتضح أن العناصر المحورية فى نجاح العاصمة الجديدة تتمثل فيما يلى : الاختيار الأمثل للموقع والتخطيط الجيد ، والتوزيع القائم على دراسات علمية لمواقع المؤسسات الإدارية والاقتصادية والتجارية والترفيهية، وتطبيق مبدأ مركزية التخطيط ولا مركزية الإدارة والتنفيذ، هذا إلى جانب وضع جميع الضوابط القانونية للتحكم في العمران بما يضمن عدم حياد مخطط العاصمة الجديدة عن المسار المحدد له.
والعمل على توفير فرص العمل ومستوي الدخول والأجور لمعرفة مدى تأثيرها على جذب السكان إليها.، ومدى توافر الخدمات وتلبية احتياجات السكان منها.
مما لاشك فيه أن المشروع يحمل أمنيات وتطلعات كثيرة ولكن نجاحه يظل مرهونا بالإرادة والإمكانيات وبمدى الاستفادة من التجارب السابقة فى تجاوز التحديات والترويج لعناصر الجذب الواعدة.