قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2015-10-27
27/10/2015 ابتدع الشعب الفلسطيني في كفاحه الوطني أشكال وأساليب للنضال تكاد تخصه وفق واقعه ووفق موازين القوى التي يعيها جيدا وذلك عبر رحلته الطويلة منذ النكبة وحتى الآن.

ومن بين هذه الأشكال والأساليب النضالية الانتفاضات المتعاقبة التي يؤكد من خلالها رفضه لاستمرار الاحتلال ورفضه للانتهاكات اليومية لسلطات الاحتلال الإسرائيلي الماسة بالحق في الكرامة والحق في الحياة. منذ الانتفاضة الأولى في عام 1987 لم تجد اللغات اللاتينية مرادفا دقيقا لتعبير الانتفاضة، فاضطرت كبريات الصحف العالمية ومن بينها جريدة "لوموند" الفرنسية أن تكتبها بحروف لاتينية Intifadaوأكدت بذلك حق الشعب الفلسطيني الحصري في ابتكار هذا الشكل من النضال ضد الاحتلال. يواصل الشعب الفلسطيني استلهام الأشكال والأساليب التي ابتدعها عبر الانتفاضة الأم "انتفاضة 1987" والتي تسمى الآن إعلاميا انتفاضة السكاكين أو المدى ولكن في ظروف ومعطيات جديدة ومختلفة هذه المرة.

فالانتفاضة الحالية تجئ بعد وصول أوسلو إلى منتهاه وفشله في تحقيق الانسحاب والدولة الفلسطينية بعد ما يزيد على 22 عاما من المفاوضات التي ما أن تبدأ حتى تنتهي إلى لا شيء، وفي كل مرة تبدأ المفاوضات وكأنها المرة الأولى وتبدأ من الصفر رغم وضوح مبادئ وأهداف التفاوض المعلنة على الأقل للمجتمع الدولي وللشعب الفلسطيني. العامود الفقري للانتفاضة الحالية من الشباب الفلسطيني دون العشرين عاما أو من تجاوزها بقليل وهو جيل "ما بعد أوسلو" وشهد نهايتها، وهذا الجيل غير منطوي تحت أجنحة الفصائل الفلسطينية، ومن ثم فإن الطابع العام للعمليات في هذه الانتفاضة فردى وغير منظم وتتم بناء على قرارات صادرة عن الأفراد المنخرطين في الانتفاضة. وربما لهذا السبب يصعب السيطرة على هذه الانتفاضة لأنها تفتقد إلى قيادة منظمة تخطط لها وتوجهها، ولأنها ثانيا تتمثل دوافعها في اليأس وفقدان الأمل في وجود نهاية للاحتلال وفقدان الكرامة، أو إقامة الدولة الفلسطينية والحل السلمى، وهذه الدوافع لا يمكن التنبؤ بعواقبها ونتائجها فليس لدى هؤلاء الشباب المنخرطين في الانتفاضة ما يخسرونه، فهم يعانون من البطالة ولا يجدون عملا، وفقدوا الثقة في المنظمات والسلطة الفلسطينية على حد سواء إن في غزة أو الضفة الغربية، ذلك ان خيارات كل من حماس وفتح والسلطة قد انتهت إلى الحصيلة صفر، فلا المقاومة التي ترفع شعارها حماس قد حققت شيئا ملموسا للشعب الفلسطيني إذا ما استثنينا تثبيت سلطة حماس في غزة، ولا المفاوضات السلمية ونبذ العنف قد حقق شيئا ملموسا إزاء الاحتلال والكرامة والدولة والمحصلة هي أيضا صفر.

وجعلت إسرائيل من كل الخيارات طريقا مسدودا لانتزاع الحقوق الفلسطينية والحال أنه في مواجهة الوضع القائم المتردي اختار هذا الجيل طريق الانتفاضة عبر استخدام السكاكين والطعن والاحتجاج والتظاهر لزحزحة الأوضاع وفتح ثغرة في جدار هذا اليأس. تتميز الانتفاضة الحالية عن انتفاضتي 1987 و2000، فالأولى كانت لها قيادة وطنية سرية تشكلت من مختلف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، هذه القيادة هي التي حددت وجهة الانتفاضة وطبيعة عملياتها ومستوى العنف فيها، في حين أن الانتفاضة الثانية قادتها حماس وفتح والسلطة الفلسطينية وبعض أجهزتها الأمنية، أما الانتفاضة الحالية فليست لها قيادة معلنة حتى الآن ويسيطر على عملياتها الطابع الفردي والمبادرات الفردية والجماهيرية وتحظى بدعم القوى الوطنية والإسلامية ومختلف الفصائل. استوعبت القوى الوطنية والإسلامية مخاطر انزلاق الانتفاضة الحالية في العنف أو اللجوء إلى السلاح كما كان حال الانتفاضة الثانية، ذلك أن انزلاق هذه الانتفاضة نحو العنف كفيل بالقضاء عليها لأنها تواجه نظاما إسرائيليا وصهيونيا استيطانيا يتأسس على العنف، بل يتفوق فيه ليس فحسب على الفلسطينيين بل على العرب والمنطقة بأجمعها. ولهذا السبب تستبعد القوى الوطنية والإسلامية العسكرة والسلاح، وتؤيد بقاء المقاومة والانتفاضة عند المستوى الحالي أي استخدام المدى والسكاكين والمظاهرات والنبل والحجارة حتى تتجنب الانتفاضة ردة الفعل الانتقامية الإسرائيلية وإطلاق آلة العنف الإسرائيلية ضدها، وكذلك تشويه سمعة الانتفاضة وصورتها لدى الرأي العام. ولا شك أن تجنب عسكرة الانتفاضة الحالية يمنحها الأمل في الاستمرار وإحراج إسرائيل أمام الرأي العام العالمي وكشف تعنتها للعالم في الاستيطان واقتحام المسجد الأقصى المتكرر وخرق الأمر الواقع في المدينة المقدسة، ويكفل ذلك لهذه الانتفاضة الاستمرار والتأثير وتعزيز الموقف التفاوضي للسلطة. من ناحية أخرى فإن الانتفاضة الحالية تشترك مع ثورات الربيع العربي في اللجوء إلى وسائط التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية وهذا النمط من التواصل لا يمكن السيطرة عليه، وأن إسرائيل رغم تفوقها في عالم البرمجيات لم تستطع محاصرة تأثيره وهذا التواصل يكفل بثا حيا ومباشرا على مدار الساعة لطبيعة المواجهة ومراحلها وتحقيق التنسيق بين فلسطينيي الضفة وغزة وفلسطين 1948. تعول إسرائيل على العديد من العوامل التي ترى أنها ستكبح جماح هذه الانتفاضة ومحاصرة الاشتباكات التي تغذيها، العامل الأول أن المنطقة ومن ضمنها الدول العربية المجاورة لإسرائيل وغير المجاورة في غنى عن ذلك وليس لدى أي منها النية لصب الزيت على النار.

فسوريا مشغولة بمصيرها والأردن مشغولة باللاجئين المتدفقين من سوريا وتهديدات داعش كما أن مصر مشغولة بترتيب أوضاعها الداخلية ومحاربة الإرهاب في سيناء، أما العامل الثاني في تقدير إسرائيل فهو أن السلطة الفلسطينية لا مصلحة لها في تغيير الوضع القائم رغم أنهم تتفهم غضب الشعب الفلسطيني، وأنها من أجل ذلك قد تفعل ما في وسعها لكبح جماح الغضب.

من ناحية أخرى فإن حماس تبدو منهكة بعد العدوان ومعزولة، بعد فقد حلفائها من الإخوان في مصر وتحاول أن تلتقط أنفاسها بعد جولات الصراع مع إسرائيل. وإذا كانت هذه العوامل ذات مصداقية نسبية إلا أنها بالرغم من ذلك قد لا تحول دون تفاقم الوضع واستمرار الانتفاضة، فالسلطة قد لا تستطيع كبح جماح الانتفاضة لأن رصيدها قد لا يسمح بذلك لدى الفلسطينيين، كما أن الدول العربية وأيا كانت مشكلاتها خاصة مصر والأردن ليس بمقدورها الوقوف موقف المتفرج، أو حجب التأييد والدعم لمحاولات الفلسطينيين حماية الأقصى ورفض الانتهاكات اليومية لسلطات الاحتلال الإسرائيلية.

باختصار ليس ثمة ضمان بأن تحاصر هذه العوامل الانتفاضة وتحول دون استمرارها خاصة في ظل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية بهدف التصعيد ودعم المستوطنين وحمل السلاح المتوفر لديهم. الانتفاضة الحالية توجه رسائل للجميع أول هذه الرسائل للفلسطينيين الذين حالت فرقتهم دون الحصول على أمانيهم، وتؤكد هذه الرسالة على الوحدة وتجاوز الانقسام وإعادة اللحمة الوطنية للمشروع الوطني الفلسطيني، أما الرسالة الثانية فهي لإسرائيل أنها لن تهنأ بالوضع القائم فالنار تحت الرماد والتراكمات التي يخلفها بقاء الاحتلال وانتهاك الكرامة سوف ترتد على إسرائيل بأسوأ العواقب ويفقد مواطنوها الشعور بالأمن بأكثر مما هو مفقود، وهو ما يعنى ضرورة التوصل، بل والإسراع بالتوصل إلى حل سلمى يفضى إلى قيام الدولة الفلسطينية والجلاء والانسحاب، وهذه الرسالة أيضا موجهة لمؤيدي إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية وإلى بعض الدول الأوروبية بهدف التخلي عن مواقفهم المؤيدة على طول الخط والمنحازة إلى إسرائيل ظالمة أو ظالمة فهي لم تكن مظلومة دوما.

أما الرسالة الأخيرة فهي للعرب والمسلمين وهدفها التذكير بعروبة القضية الفلسطينية وطابعها الإسلامي المتمحور حول القدس والأماكن المقدسة وأن الفلسطينيين يدافعون عن هذين البعدين وبحاجة إلى دعم عربي وإسلامي تاه في غياهب الربيع العربي.