23/10/2015
مع ترشيح سفير جديد لمصر بإسرائيل ليحل محل السفير الذي تم سحبه في نوفمبر 2012، ومع افتتاح مقر جديد للسفارة الإسرائيلية بالقاهرة في التاسع من سبتمبر الماضي، تبدو العلاقات المصرية-الإسرائيلية وكأنها تمر بطفرة قد تنعكس ليس فقط على العلاقات بين البلدين، بل أيضا قد يكون لها انعكاسات على العلاقات الإسرائيلية العربية إجمالا.
خاصة أن ذلك يترافق مع توارد معلومات تنشرها الصحف الاسرائيلية عن اتصالات غير رسمية بين خبراء أمنيين وسياسيين إسرائيليين وبين نظراءهم العرب للتباحث حول سبل مواجهة زحف الجماعات المتشددة من أجل خلخلة الاستقرار في عدد من دول المنطقة.
وقد اكتسبت هذه الآمال زخما إضافيا في إسرائيل مع إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي -أثناء إلقاء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر الماضي- عن حرصه على توسيع العلاقات السلمية بين العرب وإسرائيل، وثمة اعتقاد في إسرائيل أن موجة المواجهات الحالية مع الفلسطينيين في القدس لن تؤثر على فرص تدعيم العلاقات مع النظم العربية، وهو استنتاج في حاجة إلى المراجعة والتقويم لأسباب جوهرية وعميقة .
إن الرهان الإسرائيلي على أن المأزق الأمني للبلدان العربية والمتمثل في تحول كافة فصائل الإسلام السياسي نحو العنف ومحاولة إسقاط النظم العربية بالقوة، وتلقي هذه الفصائل دعما سياسيا وتسليحيا وماليا من تركيا وقطر، قد يدفع الأنظمة العربية الأكثر عرضة للتهديدات إلى إقامة علاقات مع اسرائيل ولو في صورة اعادة افتتاح بعض الممثليات التجارية.
هذا الرهان قد يكون غير واقعي، ليس فقط لأن إقدام أي دولة عربية على اتخاذ مثل هذا الإجراء سيزيد من أزمة شرعيتها امام معارضيها وعلى رأسهم تيارات الاسلام السياسي، بل أيضا لأن حكومة نتنياهو الحالية لا تملك أية مبادرات لحلحلة عملية السلام المعطلة مع الفلسطينيين، ويعتبر إطلاق أي بادرة اسرائيلية من هذا النوع شرطا ضروريا لتحقيق أي تحسن في العلاقات العربية-الإسرائيلية حاليا .
بين معضلة السلام ومعضلة استمرار التطبيع:
ثمة فارق هائل بين عقد اتفاقات التسوية السلمية للصراعات العسكرية وبين فكرة إحلال السلام والعلاقات الطبيعية بين البلدان التي تحاربت فيما بينها لأسباب سياسية، أو اقتصادية، أو حضارية، فالتسويات السلمية للصراعات والتي تتم من خلال المفاوضات وتقديم التنازلات المتبادلة تستهدف في جوهرها إنهاء الخيار العسكري كأداة لحل النزاعات، أما صناعة السلام، أو تحويل العلاقات العدائية التي قادت لحروب بين طرفين أو أكثر إلى علاقات صداقة وسلام فأنها تستدعي أكثر من مجرد اتفاقات وبروتوكولات يتم صياغتها وفقا لموازين القوي بين الأطراف المتنازعة في لحظة توقيعها.
ويميل البعض إلى القول إن نتائج الحرب العالمية الأولى وما ترتب عليها من استسلام ألمانيا والدول الحليفة لها وفرض المنتصرون (إنجلترا وفرنسا) شروطا مذلة وتعويضات هائلة على المهزومين، كان هو الدافع الأساسي لنشوب الحرب العالمية الثانية.
أيضا لم تترجم اتفاقية 1975 بين إيران والعراق لتقسيم الحدود البحرية في الخليج، إلى استقرار وسلام بين البلدين، بل قادت ضمن عناصر جيوسياسية أخرى إلى نشوب الحرب بينهما في سبتمبر 1980.
وبالتالي يمكن القول إن السلام والصداقة يعتمدان في جوهرهما على القبول المتبادل والنابع من اقتناع حقيقي للطرفين الذين كانا في حالة عداء وحرب وقتال بأن السلام والصداقة ليستا فقط خيارا نافعا يجنب الطرفين آلام المواجهة بالسلاح، بل إنه خيار حضاري قائم على الإقرار - النهائي غير القابل للنقض- بحقوق كلا الطرفين السياسية والاقتصادية وحتي العسكرية.
تبدو هذه المقدمة ضرورية عندما نناقش مدى إمكانية تحول اتفاقات التسوية بين إسرائيل والعالم العربي إلى اتفاقات سلام، وكما يصدق الأمر على اتفاقيتي التسوية التي وقعتهما إسرائيل مع مصر عام 1979، والأردن عام 1994، يصدق بالضرورة على أي اتفاق مماثل توقعه دوله عربية أو أكثر مع إسرائيل في المستقبل.
إشكالية تناقض الروايتان العربية والإسرائيلية للصراع:
يتبدى الحائل الأساسي أمام إنجاز السلام الحقيقي بين العرب وإسرائيل في تناقض الروايتين العربية والإسرائيلية للصراع الممتد بينهما منذ ما قبل حرب 1948 وعلى الأخص مع نشؤ الدولة العبرية.
فعلى حين يعتبر اليهود أن لهم حق تاريخي في فلسطين نتيجة تواجدهم فيها دون انقطاع على مدى أكثر من ألفي سنة، بينما لا يقر العرب بهذا الحق على اعتبار أن اليهود لا يشكلون شعبا بالمعني القومي، بل طائفة دينية عاشت في أنحاء متفرقة من العالم بما في ذلك المنطقة العربية التي شكلتها الهوية الاسلامية-العربية على مدي ما يزيد على خمسة عشر قرنا ولم يظهر خلالها أي ادعاء لليهود بحقهم في إقامة دولة خاصة بهم، كما ان الخلفيات الدينية التي يقدمها اليهود كدليل على حقهم المدعوم بالتوراة يقابله من الجهة الأخرى مقولات دينية إسلامية تنكر هذا الحق، مما يحول الصراع إلى صراع ديني يستحيل إنهائه حتى باتفاقيات سياسية.
على الجانب الآخر يرى اليهود أن تعرضهم للترحيل والإبادة على مدى التاريخ، وكذلك اعتبارهم أن العداء لليهود كيهود (معاداة السامية) مرض متأصل في التاريخ البشري وغير قابل للشفاء، لا يترك حلا سوي إعطاء اليهود وطنا ليعيشوا فيه بعيدا عن خطر الإبادة والترحيل.
في مقابل ذلك يحاج العرب بأنهم لم يساهموا تاريخيا في مأساة اليهود وبالتالي فإنهم لن يدفعوا ثمن أخطاء غيرهم وأن على الغرب الذي أقام المجازر لليهود في القرن العشرين أن يبحث لهم عن حل لا يأتي على حساب العرب والشعب الفلسطيني.
إشكالية التسوية الثنائية والتسوية الجماعية:
مع إطلاق العاهل السعودي الراحل الملك فهد لمبادرته لتسوية الصراع العربي الاسرائيلي عام 1981، أطلت إشكالية تتمحور حول هل ينبغي حل الصراع بصيغة جماعية كما تطرح المبادرة التي تنص على انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو 1967 مقابل السلام والتطبيع الكامل مع العالم العربي، أم ينبغي أن تمر التسويات عبر اتفاقات ثنائية على غرار الاتفاقيتين المصرية والأردنية؟
لقد تطورت مبادرة الملك فهد لتصل إلى ما صار يعرف الآن بالمبادرة العربية والتي تبنتها الجامعة العربية كأساس للتسوية التي يمكن الدفاع عنها والحفاظ عليها، إذ انطلقت المبادرة في الواقع من إدراك أنصار التسوية لحقيقة إشكالية تناقض روايتي الصراع - كما أشرنا في السابق- وهذا التناقض وضع أنصار التسوية السلمية سواء في سوريا، أو لبنان، أو الأراضي الفلسطينية في مأزق شديد نتيجة المواجهة حامية الوطيس مع جبهة المعارضة التي ترفض التسوية بالتفاوض وتصر على إنهاء وجود الدولة العبرية كحل وحيد للصراع.
وكان ذلك يعني أنه بدون موقف عربي موحد يتبنى مشروعا للسلام لا يتناقض مع الحقوق الفلسطينية ولا بتصادم مع المجتمع الدولي فلن تصمد جبهة التسوية السلمية في كل بلد من هذه البلدان في مواجهة جبهة المعارضة.
ورغم ذلك وجدت إسرائيل في المبادرة العربية خطرا داهما عليها، إذ أن المبادرة تتحدث عن تسوية سياسية تعترف بإسرائيل وفقا لأعراف القانون الدولي اعترافا سياسيا وليس اعترافا بالحق التاريخي لليهود في فلسطين أو حتى جزء منها، كما أن اتفاق جماعي يستند إلى المبادرة سيخل بالمعني الحقيقي للاعتراف العربي بإسرائيل إذ يحوله من اعتراف دول عربية بدولة أخرى إلى اعتراف مؤسس على قرار جماعي اتخذ في منظمة إقليمية (الجامعة العربية) بما يجعله ليس فقط مستندا لإطار حاكم غير معني من الناحية القانونية بالعلاقات بين الدول، بل أيضا مصدرا لتهديد أمني شديد لإسرائيل مستقبلا في حالة دخولها في نزاع مع أي دولة عربية منفردة.
إذ سيترتب على أي نزاع مع لبنان، أو سوريا، أو الدولة الفلسطينية المنتظرة تدخل الدول العربية التي تبنت المبادرة العربية كأساس للسلام مع إسرائيل طرفا في الأزمة، بما يضعها (أي إسرائيل) أمام خطر الدخول في صدام جماعي مع العالم العربي يعيد الأمور مجددا إلى المربع الأول في الصراع.
إشكالية الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية:
تدرك إسرائيل أن نظرة العرب لإسرائيل لن تتغير عبر توقيع اتفاقات تسوية يصاحبها تطبيع بارد كما هو حادث مع مصر والأردن، وأنه بدون اعتراف صريح من العرب بالحق التاريخي لليهود في فلسطين لن يكون هناك سلام حقيقي بينهما.
ويعتبر تمسك الدولة العبرية بشرط الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية قبل الحديث عن تقديم أية تنازلات من جانبها في الأرض والحدود وحقوق اللاجئين، هو الترجمة الفعلية لقناعة اسرائيل بأن السلام الحقيقي يساوي الاعتراف العربي بها كدولة " للشعب اليهودي!!"
ويبدو من المستحيل -على الأقل في المدى المنظور- أن يوافق العرب على تقديم مثل هذا الاعتراف لإسرائيل، وهو ما يوفر لها الذريعة للتنصل من استحقاقات السلام ويجنبها أيضا الضغوط الواقعة عليها للتعامل بشكل إيجابي مع المبادرة العربية.
خلاصة ونتائج:
عندما ذكر الرئيس المصري الراحل أنور السادات في خطبته التاريخية أمام الكنيست في نوفمبر عام 1977 "أن مبادرته للسلام تهدف لوقف نزيف الدماء بين العرب واليهود، أما السلام والتطبيع فأنه مسئولية الأجيال المقبلة".
عندما ذكر السادات ذلك كان مدركا للصعوبات التي تحدثنا عنها آنفا، لذلك فقد اتخذ للسلام معنى لا يزيد عن اتفاقات تسوية سياسية لا تغير من قناعات الأطراف التي وقعت عليها فيما يتعلق بجذور الصراع.
هذا بينما كانت اسرائيل تحلم بسلام من نوع آخر يعطيها اعترافا بالحق التاريخي لليهود في فلسطين ويعدها بعلاقات طبيعية مع مصر والعالم العربي، وعلى مدى نحو 35 عاما لم تتحول اتفاقية السلام مع مصر إلى جواز لتطبيع العلاقات بين البلدين، بل إن السلام حتى بمعناه المختزل في اتفاق تسوية لم يتسع ليشمل دول عربية أخرى سوي الأردن التي وقعت اتفاق شبيه في شكله ومحتواه بعد مصر بنحو 15 عاما، لأجل ذلك كله وبسبب تناقض الروايات التاريخية للصراع جنبا إلى جنب مع حقيقة كون مخاوف إسرائيل الأمنية لن تجعلها تنسحب إلى حدود الرابع من يونيو بما يفرغ المبادرة العربية من محتواها، فأقصى ما يمكن تحقيقه بين العرب وإسرائيل هو الحفاظ على اتفاقات التسوية مع مصر والأردن مع الإبقاء على الأمل في توقيع اتفاقات مماثلة مع دول عربية أخرى مستقبلا، أما السلام والصداقة بين العرب وإسرائيل فسيبقى حلما بعيد المنال.