قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2015-10-22
د. زياد عقل

خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

22/10/2015 قام برناردينو ليون، مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، في الثامن من أكتوبر بالإعلان عن التوصل لتشكيل حكومة الوفاق الوطني التي تمخض عنها الحوار السياسي الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ أكثر من عام.

وبالرغم من الحفاوة الشديدة التي قوبل هذا التشكيل بها من قبل المجتمع الدولي والدول الفاعلة في الشأن الليبي، إلا أنه يصعب في الوقت ذاته اعتبار أن الصراع السياسي في ليبيا وحالة الانقسام الممتدة منذ عام 2014 قد انتهت أو حتى قاربت على الانتهاء بعد هذا الإعلان.

فمن ناحية، لم يتعد التشكيل المُعلن كونه تشكيلاً مقترحاً من قبل البعثة الأممية والمشاركون في الحوار، وهو ما أكد عليه ليون خلال إعلانه للأسماء التي تضمنها التشكيل، ومن ناحية أخرى، ظل هذا التشكيل معلقاً لحين عودة الوفود المشاركة في الحوار لليبيا لعرض هذه النتيجة على الكيانات التي تمثلها للموافقة النهائية عليها، وهي الموافقة التي لم تر النور.

فقد أعلن كل من مجلس النواب بطبرق والمؤتمر الوطني العام بطرابلس رفضهما للتشكيل المعلن، وقرر مجلس النواب إقالة لجنة الحوار السياسي التي شاركت في اجتماعات الصخيرات وانتخاب لجنة جديدة.

وفي واقع الأمر، لم تكن حالة الرفض التي قوبلت بها حكومة الوفاق الوطني المُقترحة بمثابة مفاجأة لأي من المتابعين للشأن الليبي عن كثب.

فالحوار السياسي الليبي لايزال متجمدا عند نقاط محددة يرفض المشاركون فيه تقديم أية تنازلات بشأنها، كما أن حجم الترابط والتوافق داخل الكتل المتصارعة في ليبيا يتضاءل يوماً بعد الآخر، هذا بالإضافة لاستمرار غياب التنسيق الكافي بين الكيانات السياسية والأذرع العسكرية التي تمثلها داخل ليبيا، وعدم قيام القوى الإقليمية المختلفة بأي دور فاعل في سياق هذا الحوار.

وبالرغم من كون ما حدث من رفض للتشكيل المُقترح لا يُعد مفاجئاً، إلا أن هناك عدد من الدلالات لهذا الرفض تتعلق بتطور الصراع السياسي داخل ليبيا وبمستقبل عملية الحوار كآلية لإنهاء حالة الانقسام بين الشرق والغرب، وهي دلالات لا يمكن إغفالها في سياق تحليلنا للمشهد الليبي الحالي.

فقد كشف الإعلان عن تشكيل الحكومة التوافقية بادئ ذي بدء وسلسلة ردود الأفعال التي تلت هذا الإعلان عن حالة مستمرة من اتساع فجوة الخلاف داخل الكتل السياسية في ليبيا التي من المفترض أنها على وفاق.

فعلى سبيل المثال، أعلن المؤتمر الوطني العام بطرابلس عن رفضه للتشكيل المُقترح من قبل برناردينو ليون لحكومة الوفاق وهيكل الأجهزة السيادية كمجلس الدولة وهيئة الأمن القومي، ولكن في المقابل، أعلنت ميليشيات فجر ليبيا، وهي الذراع العسكري للمؤتمر الوطني العام، قبولها بالحكومة وتأييدها لفايز السراج رئيسها المُقترح.

كما أعلن مجلس بلدية مصراتة تأييده لفايز السراج والتشكيل المُقترح أيضاً، علماً أن مجلس بلدية مصراتة يُعد أحد أهم أطراف المعادلات السياسية والعسكرية داخل معسكر طرابلس.

علي الجانب الآخر، لم تتوقف العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، وهو الذراع العسكري الذي يمثل الدولة الليبية ومجلس النواب بطبرق، ضد ميليشيات فجر ليبيا سواء في مرحلة انعقاد جولات الحوار السياسي في الصخيرات بالمغرب أو خلال فترة التشاور التي تلت الإعلان عن التشكيل المُقترح لحكومة الوفاق.

وتُشير هذه الحقائق لاستمرار غياب التنسيق والترابط بين الكيانات السياسية والأذرع العسكرية داخل ليبيا، والانفصال بين الشقين السياسي والعسكري لدى الطرفين الرئيسيين في النزاع، وهو ما يضع العديد من علامات الاستفهام حول إمكانية استمرار الأطراف السياسية في الحوار في ظل غياب الربط بين الكيانات السياسية والعسكرية، ومن ثم حول قدرة الأطراف السياسية المتحاورة في إحداث تغيرات ملموسة على أرض الواقع في ظل غياب ممثلي الأذرع العسكرية عن فعاليات التفاوض السياسي.

ثاني الدلالات الهامة في هذا السياق هي تجمد الحوار السياسي عند نقاط محددة، وعدم قدرة الجهة الراعية للحوار للتوصل لآلية تسمح بتجاوز تلك النقاط أو تضغط على الأطراف المشاركة لتقديم تنازلات تُتيح التغلب على القضايا محل الخلاف، وبالتالي تُعيد إحياء عملية الحوار ككل.

ولعل هذه المسألة بالتحديد هي إحدى نتائج الإدارة المتخبطة للحوار السياسي من قبل الأمم المتحدة ومبعوثها برناردينو ليون، كما أنها تجسيد لحالة التباين الشديد بين الواقعين السياسي والعسكري وبين الجهود الديبلوماسية المبذولة في إطار الحوار السياسي.

فبالرغم من التوصل لمسودة للحل السياسي، والتوقيع على هذه المسودة بالأحرف الأولى من قبل الوفود المشاركة في الحوار، تظل هناك مجموعة من النقاط العالقة التي لم يبد أياً من طرفي الحوار الحد الأدنى من المرونة بشأنها، وتتلخص هذه النقاط في إدارة المؤسسات الأساسية في الدولة كالبنك المركزي ووزارة النفط، وتحقيق وقف إطلاق النار، ومنصب وزير الدفاع والقائد العام للجيش، وقضية حل الميليشيات، هذا بالطبع بخلاف الجدل حول الصلاحيات التشريعية.

فمجلس النواب بطبرق يرى أنه الجهة الشرعية المنتخبة والمُعترف بها دولياً، ومشاركته في الحوار لا تتعدى كونها إحدى محاولات التوصل لآلية لحقن الدماء ووقف العنف، ولكنها لا تعني تخليه عن أياً من اختصاصاته التي يتمتع بها الآن، أو تقاسم هذه الاختصاصات مع المؤتمر الوطني العام الذي يرى المجلس أنه لا يقوم على أي سند شرعي.

وعلى الجانب الآخر، يرى المؤتمر الوطني العام أن مجلس النواب لا يتمتع بأية شرعية بعد أن قضت المحكمة العليا بطرابلس بحله، وأن كل محاولات التصالح والتوافق لا يمكن أن تتم في ظل وجود خليفة حفتر وسيطرته على القوة العسكرية المنظمة بالبلاد.

وعلي الرغم من التوصل لبعض التوافق حول عدد من تفاصيل مسودة الحل السياسي، يظل صراع الشرعيات هو المسيطر على الإطار العام للحوار السياسي الليبي، وتظل الجهة الراعية للحوار والأطراف المشاركة به عاجزة عن حلحلة هذا الصراع.

وفي ظل استمرار هذا الخلاف الجذري، يكون الإعلان عن تشكيل حكومة الوفاق نوعاً من البحث عن نتائج نهائية دون التوصل لآليات أو خطط مُفصلة لتطبيق هذه النتائج.

ومن ضمن الدلالات التي لا يمكن إغفالها في سياق تحليل المستجدات في المشهد الليبي بعد إعلان التشكيل المُقترح لحكومة الوفاق تهديدات مجلس الأمن بفرض عقوبات على الأطراف التي تمثل عائقاً أمام التوصل لحل سياسي وإقرار الحكومة التوافقية.

وبالرغم من الصعوبة البالغة في تحديد مسئولية طرف بعينه عن إعاقة التوصل لحل سياسي، خاصة في ظل رفض الكيانان الرئيسيان للتشكيل المُقترح، يشير هذا التهديد من قبل مجلس الأمن إلى احتمال حدوث بعض التغيير في تعامل المجتمع الدولي مع القضية الليبية عموماً، ومع طرفي النزاع بوجه الخصوص.

ومن المهم وضع هذا البيان من قبل مجلس الأمن جنباً إلى جنب مع حقيقة انتهاء ولاية برناردينو ليون كمبعوث للأمين العام للأمم المتحدة يوم 20 أكتوبر الجاري، وهو ما يعني خروج مبعوث أممي آخر من ليبيا دون أن تتحقق أية نتائج ملموسة.

وفي ظل تزايد القلق الدولي من انتشار الإرهاب في ليبيا، وحرص الدول الأوروبية على التوصل لحل سياسي يحد من أزمة الهجرة غير الشرعية وتدفق اللاجئين لأوروبا عبر السواحل الليبية، والتباين في مواقف القوى الإقليمية من طرفي الصراع، قد يكون المجتمع الدولي على أبواب نهج جديد في التعامل مع الملف الليبي برمته ومع طرفي النزاع بوجه خاص.

وبالتالي يصبح السؤال الأهم الآن هو كيف ستخرج ليبيا من حالة الانقسام السياسي المستمرة منذ أكثر من عام، وهل من الممكن أن يكون هناك حل سياسي للخروج من هذه الأزمة بعد فشل محاولات برناردينو ليون في التوصل لإطار توافقي يجمع بين الأطراف المتنازعة؟ من غير الممكن الجزم بأن خيار التدخل العسكري في ليبيا لم يعد قائماً، وإن كانت احتمالات حدوثه قد تراجعت بعض الشيء، ولكن يظل الواقع داخل ليبيا يشير لإمكانية الربط بين الحسم العسكري والحل السياسي، بمعنى أن يكون الحل السياسي مرتبطاً بالتقدم العسكري والسيطرة الميدانية لطرف على حساب الآخر.

ولكن يظل الحل الأقل ضرراً والأقرب للحدوث هو البدء في عملية سياسية تفاوضية جديدة، في الأغلب تبني على ما قام به ليون خلال العام الماضي من محاولات.

فبالرغم من فشل ليون في التوصل لنتائج نهائية، إلا أنه خلق إطاراً عاما للتوافق يحتاج فقط لبعض الضوابط التي من شأنها أن تفعله وتضمن تجاوز الخلاف على تفاصيله المختلفة.

وفي هذا السياق، يجب أن تتسم هذه العملية السياسية بدور أكبر لدول الجوار الليبي، مصر والجزائر على وجه الخصوص، كما يجب أن تتضمن سُبل واضحة لدعم تنفيذ اتفاق التسوية السياسية، خاصة قضايا إعادة الإعمار وحل الميليشيات وإعادة تأهيل البنية النفطية.

وفي النهاية، يجب أن يتعامل المجتمع الدولي في المرحلة المقبلة مع الأطراف الليبية على قدم المساواة دون تغليب طرف علي حساب الآخر أو الإعلاء من شرعية طرف واحد، ففي ظل الخطر الذي باتت تشكله حالة الانقسام في ليبيا على المواطن الليبي أولاً، وعلى الأمن القومي لدول الجوار ثانياً، وعلى المجتمع الدولي ككل ثالثاً، من الصعب أن يدعي أياً من الأطراف أنه يحتكر الشرعية في البلاد.