بعيدً عن الجدل حول "الصوت الاستراتيجي" سعت نظرية المباريات The Game Theory إلى تطوير منظور "الاختيار الرشيد" مع تبني الفرضية الرئيسية الخاصة بأن قانون المنفعة هو الحاكم في التصويت.

فقد اعتبرت نظرية المباريات أن تطبيق قانون المنفعة بشكل صارم قد ينتهي بالباحث إلى افتراض تصويت جميع الناخبين لصالح مرشح أو حزب واحد، ففي حال أن حزب (أ) تبنى قضية الرفاهة بينما طرح الحزب المنافس (ب) قضية الأمن فوفقاً لمدرسة المنفعة فإن دولة الرفاهة تعد أكثر منفعة من الأمن وبالتالي فإن جميع الناخبين سيمنحون أصواتهم للحزب (أ) بينما سيحصد منافسه (ب) "صفرا" من الأصوات في مباراة صفرية تحسم بذهاب ناخب واحد للتصويت.

ووفقاً لنظرية المباريات فإن هناك معامل آخر يتدخل في اتجاهات التصويت إلى جانب المنفعة وهو معامل "التكلفة"، حيث إن الناخب أو "العميل" (agent) يأخذ في حساباته إلى جانب المنفعة تكلفة اختيار حزب بعينه، حيث إن اختيار حزب (أ) الذي يطرح القضية الأكثر نفعية قد يقود إلى مخاطر على مستوى الأمن تقود الناخب إلى دفع تكلفة باهظة تصل إلى حياته في حال انتخابه مما يجعله يميل للتصويت إلى الحزب "ب".

إلى جانب طرح معامل "التكلفة" في التصويت، أعطت مدرسة "المباريات" حيزاً لدراسة نسب المشاركة، حيث اعتبرت أن مفهوم "المنفعة" لا يمكنه تفسير نسب المشاركة للأغلبية والأقلية.

فقد افترض الباحثان تيموثيفيديرسون والفارو ساندروني أن نسب المشاركة للأقلية تكون في الأغلب أعلى من نسب مشاركة الأغلبية حيث تسعى دائماً الأقلية إلى تعظيم دورها برفع نسب مرشحها في النتائج النهائية مما يمنحها نفوذاً وتأثيراً في اتخاذ الأغلبية للقرارات، فهنا الأقلية تقوم بالإدلاء بأصواتها بشكل مكثف رغم إدراكها مسبقاً أن مرشحها لن يفوز لأنها تأخذ في اعتبارها المكاسب غير المباشرة لهذا التصويت .

وفي مصر نجد أن المؤشرات الانتخابية تدل على ارتفاع نسب مشاركة المسيحيين في الانتخابات، وهو ما يظهر في ارتفاع نسب المشاركة في مدينة أسيوط مقارنة بباقي الصعيد وكذلك ترتفع نسب المشاركة في الأحياء القاهرية التي يتواجد بها أعداد كبيرة من المسيحيين مثل شبرا والساحل وروض الفرج.

بالتوازي، فإن فيديرسون طرح فرضية آخري وهي أنه كلما تراجعت نسب الأقلية كلما انخفضت نسب المشاركة في الانتخابات، حيث إنه في هذه الحالة تكون الأغلبية ضامنة لفوز مرشحها بغض النظر عن نسب المشاركة وبالتوازي، ترتفع نسب المشاركة العامة كلما ارتفعت نسب الأقلية.

وربما كانت أحد الانتقادات التي وجهها الباحثون السياسيون لنظرية "الاختيار الرشيد" أنها لا تمنح تفسيراً واضحاً لنسب المشاركة المرتفعة في انتخابات محسومة (مثلما حدث في مصر في انتخابات الرئاسة 2014 التي كانت محسومة لصالح عبد الفتاح السيسي)، مما دفع أوهلان(uhlan) للقول إن "الخبر السيء لنظرية الاختيار الرشيد أن الناخبين يصوتون!".

وفي هذا السياق أعاد الباحثون الاعتبار لقيمة الواجب، حيث يعتبر الكثير من الأشخاص أن التصويت ليس حقاً فقط بل هو واجب، وهو ما حاول عدد من اتباع نظرية "الاختيار الرشيد" تداركه وخاصة هارساني(harsanyi) الذي اعتبر أن الدوافع العاطفية للأفراد والشعور بالأهمية تمثل أحد مكونات المنفعة التي يبحث عن تحقيقها عند التصويت لحزب أو مرشح بعينه.

وفي هذا السياق طرح اندريه بلايز وكريستوفر اشين محاولة للإجابة عن سؤال: لماذا يصوت الناخبون؟ باستخدام افتراضية الواجب واستدلا في دراستهما على استطلاعات للرأي أظهرت أن نحو 50% من الذين يمتنعون عن التصويت في الانتخابات الأمريكية يشعرون بالذنب لعدم التصويت إلى جانب استطلاعات أظهرت أن نحو 90% من الأشخاص يجاوبون بنعم على سؤال: هل تعتقد أن التصويت واجب؟ والواقع أن فكرة "التصويت كواجب" لم تكن جديدة حيث سبق أن أشارت إليها مدرسة متشجن، حيث أكد كامبل في دراسته للعوامل السيكولوجية للتصويت في كتابه "الناخب الأمريكي" أن شعور الناخب بأن التصويت واجب يمثل أحد الأسباب وراء المشاركة.

ولكن عدم اهتمام كامبل بأهمية هذا المعامل جعله يسقط السؤال حول التصويت كواجب من الاستطلاعات التي قام بها، وبالتالي من أسئلة استطلاعات المركز الوطني للدراسات الانتخابية الأمريكي.

ويبدو افتراض التصويت كواجب حلاً مناسباً للبعض للإجابة عن أسئلة تتعلق بارتفاع نسب المشاركة في انتخابات محسومة مسبقاً لصالح حزب أو مرشح.

وكما أشرنا في مثال انتخابات الرئاسة المصرية 2014، فإن المشاهدة على أرض الواقع أظهرت بوضوح أن أعداداً كبيرة من الناخبين المصريين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع في استفتاء 2014 والانتخابات الرئاسية في إطار شعورهم بأن التصويت واجب وطني.

وربما تدلل عمليتا التصويت المصرية في 2014 على عامل آخر لم تشير له الدراسات الغربية وهو "التصويت الاحتفالي".

فظاهرة "التصويت الاحتفالي" هو تعامل الناخب مع عملية التصويت على أنها شكل من أشكال الاحتفال بانتصار سياسي، ففي هذه اللحظة فإن التصويت لا يكون على أساس المنفعة أو لتعظيم مكاسب محددة بل يمثل مشاركة احتفالية فهذا التصويت يشبه لحد كبير توافد الألاف من مشجعي كرة القدم في مباراة تسليم درع بطولة محسومة مسبقاً لأحد الفرق من أجل الاحتفال مع فريقها بالانتصار.

فحالة الرقص والغناء والمظاهر الاحتفالية في التصويت على الدستور وفي الانتخابات الرئاسية المصرية لم تعكس فقط حالة حشد من قبل السلطة والإعلام، بل تضمنت فعلياً حالة احتفالية.

? الشخصية السلطوية: من يصوت للأحزاب غير الديمقراطية هل يمكن لناخب أن يصوت لصالح حزب سلطوي يرفض الديمقراطية؟ هذا السؤال طرحته مجموعة من الدارسين الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية في محاولة لتفسير أسباب صعود أدولف هتلر والنازية عبر آلية الانتخابات خلال الثلاثينيات، وقاد هذا النقاش إلى نحت ثيودور أدورنو أحد مؤسسي مدرسة "فرانكفورت" لمصطلح "الشخصية السلطوية (Authoritarian Personality) في عام 1950 عبر تطوير اسهامات أريك فروم حول "النازية" و"الفاشية".

وفي دراساته للشخصية السلطوية اعتبر أدورنو أن الأسرة تمثل اللبنة الأولى للشخصية السلطوية وأن العلاقات الأسرية تتأثر بدورها بالمحيط الاجتماعي والثقافي والديني، فهناك أشخاص ينشأون في بيئة تقوم على "الإذعان" وهي شخصية لديها استعداد كبير للخضوع والتبعية.

وتتميز هذه الشخصية السلطوية بالولاء الأعمى والخضوع الكامل للقيادة والميل للإجابات البسيطة على الأسئلة المعقدة ورفض أي أفكار مختلفة أو جدية، كما أن هذه الشخصية تفضل أخذ الأوامر والتكيف مع الظروف بحثاً عن الأمن الشخصي بالأساس، وفي القلب من هذه الشخصية سعي دائم لترسيخ نظام واضح يوفر الأمن والسيطرة.

ووضع أدورنو في دراسته للشخصية السلطوية ما عرف بمقياس الفاشية (F-scale) الذي يمكن أن تقاس على أساسه هذه النزعات إلا أن هذا المقياس فشل امبريقياً وواجه أدورنو انتقادات حادة لاعتباره السلطوية ظاهرة يمينية فحسب.

وبعيداً عن الجدل النظري ضمن مدرسة فرانكفورت وفي مدراس علم النفس السياسي بشأن الشخصية السلطوية والانتقادات التي وجهت لهذه النظرية، فإن العديد من دارسي السلوك التصويتي تبنوا هذا المفهوم في تفسيرهم لتوجهات الناخبين.

ووضع هؤلاء الدارسون عدة افتراضات أهمها أن البرجوازية الصغيرة الأقل تعليماً وخاصة من الفلاحين الذين يقيمون في تجمعات صغيرة يميلون للتصويت لصالح اليمين المتشدد.

ودخل مارتن ليبست (Seymour Martin Lipest)عالم الاجتماع السياسي الأمريكي المرموق في جدل مع هذه الفرضية في كتاباته بشأن العلاقة الطردية بين الحالة الاقتصادية وإمكانية الوصول إلى الديمقراطية، باعتبار أن وضعية العقد الاجتماعي تعتمد على التنمية الاقتصادية وتحسين مستلزمات الحياة للناس لكي يصبحوا أطرافا في هذا العقد.

وفي هذا السياق وضع ليبست عدة فرضيات محل الاختبار من أهمها أن الطبقة العاملة والمجموعات الأكثر فقراً والمهمشين أكثر ميلاً للتصويت لصالح الأحزاب السلطوية وتبني مواقف أقل ليبرالية من الحقوق والديمقراطية البرلمانية.

وكان الافتراض الثاني هو أن الأقل تعليماً هم الأكثر ميلاً للتصويت لصالح الأحزاب غير الديمقراطية.

وهذه الفرضيات التي لم يبحثها ليبست بشكل مفصل ومنفصل مثلت فرضيات رئيسية للعديد من الباحثين للسلوك الانتخابي، حيث أظهرت العديد من الدراسات أن الأقل تعليماً يميلون للتصويت لصالح اليمين السياسي والأحزاب التي تتبنى موقفاً محافظاً من الآخر "دينياً وإثنياً.." وقد استخدم الباحث هذه الفرضية في دراسته للسلوك التصويتي للمصرين، حيث استنتج أن سكان ريف الصعيد غير المتعلمين هم الأكثر ميلاً للتصويت للأحزاب الدينية عقب ثورة 25 يناير، مشيراً إلى أن نفوذ التيار الإسلامي يتعاظم في المحافظات التي يرتفع فيها معدلات الأمية والفقر .

ولكن في الوقت نفسه فإن الدراسة اعتبرت أن هذه الفرضية لا توفر تفسيراً وحدها لتصويت غير المتعلمين لصالح التيارات الإسلامية في ظل ارتباطها بعامل آخر وهو ارتفاع حدة الطائفية ووجود المعامل الطائفي الحاكم في صعيد مصر.

في المقابل، اعتبر سامر سليمان في دراسته حول المشاركة السياسية التي أجراها عام 2005 أن عوامل الفقر والأمية وتراجع مؤشر التنمية البشرية هي معاملات حاكمة للمشاركة السياسية في مصر كنظام سلطوي، حيث ترتفع نسب المشاركة في المحافظات الأفقر والأعلى في معدلات الأمية.

? العلاقات الزبائنية: دور "السمسار" اهتمت الكتابات السياسية منذ منتصف السبعينيات ومع انتشار الديمقراطية والعملية الانتخابية في دول العالم الثالث وخاصة في أفريقيا وآسيا بالعلاقات الزبائنية ((Clientelism، وهي العلاقة التي تقوم في تعريفها المبسط على مقايضة الدعم السياسي بتوفير السلع والخدمات حيث تتحول العلاقة السياسية إلى علاقة بين المعلم - الراعي - الوكيل ( (patronوزبائن (clients) هم الجمهور السياسي.

فالعلاقة الزبائنية هي تصويت الناخب للحصول على منفعة مباشرة، وهي علاقة لا تقوم على الصالح العام، بل على المكاسب الخاصة التي يتوقع كل من الطرفين (المرشح والناخب) أن يجنيها من الآخر.

وعرف هانتينجتون العلاقة الزبونية بأنها "علاقة تنتشر في المجتمعات التقليدية حيث توفر أدوات لتعبئة النخبة للأشخاص الأقل مكانة (فقراء وغير متعلمين) حيث يقوم الشخص بالتصويت مقابل منافع مادية مختلفة" ، فالعلاقة الزبائنية تقوم على الاستفادة المتبادلة لعلاقات القوة والنفوذ والمالي.

فنحن أمام علاقة يقوم فيها الناخب ببيع صوته مقابل مصالح مادية مباشرة أو منفعة على الأجلين المتوسط والبعيد من خلال توفير الخدمات.

وبحسب التعريف الكلاسيكي لريتشارد جراهام (Richard Graham) فإن الزبائنية علاقة تقوم على "خذ من هناك واعط هنا".

ويشير العديد من الباحثين الغربيين ومنهم Avinash DixitوJohn Londregan إلى أن المرشح السياسي يستهدف بالأساس في العلاقة الزبونية الأصوات المتأرجحة (Swing Vote)أي الذين لا ينتمون لتوجه سياسي بعينه حيث تعد تلك هي الأصوات الأرخص التي يمكن شراءها .

واهتمت مدرسة الزبائنية باستخدام الدولة السلطوية ومرشحيها للمال العام (الموارد العامة) في وقت الانتخابات بحيث يتم حشد موارد الدولة لصالح مرشحين بعينهم أو حزب السلطة وذلك عبر تقديم الوظائف للناخبين أو مد خدمات أساسية لمناطق بعينها لضمان تصويتها لصالح حزب السلطة، ففي الدولة السلطوية، تقوم التعبئة والحشد في الانتخابات على استخدام "المال العام".

وهي وضعية شهدتها الحياة السياسية في مصر خلال الستينيات حيث كان المرشح يعتمد على قربه من الدولة والقدرة على تعبئة مواردها للحصول على تأييد الناخبين في انتخابات الاتحاد الاشتراكي أو مجلس النواب.

وشهد منظور "العلاقات الزبائنية" موجتين رئيسيتين الأولى كانت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات التي ركزت على دراسات الحالة وقادها بالأساس رينيهليماركانت و لويجيجرازيانو وجيمس سكوت (مؤلف كتاب المقاومة بالحيلة ) وركزت الموجة الأولى على أن العلاقات الزبائنية تختفي مع المقرطة والنمو الاقتصادي، حيث لا يصبح هناك مجالاً لشراء أصوات الناخبين.

وافترضت هذه الدراسات أن العلاقات بين "الراعي" و"الزبائن" تكون مهيمنة في المجتمعات الريفية ووسط تجمعات الريفيين الذين انتقلوا إلى الحضر.

فيما اهتمت الموجة الثانية في التسعينيات بالدور المؤسسي في العلاقات الزبائنية ودراسة الأبعاد التاريخية لظاهرة الزبائنية وتعميمها على عدد من المجتمعات الديمقراطية التي تظهر فيها أشكال من العلاقات القائمة على "الراعي" و"الزبائن" ودراستها في سياق العلاقة بين "المركز" و"الأطراف".

ففي هذا السياق تتضمن الزبائنية شبكة معقدة من العلاقات تتضمن سمسارا ومجموعات مختلفة، بل تدخل في العلاقات الحزبية عبر تشكيل مجموعات مصالح تفرض هيمنتها على الحزب السياسي، فهذه العلاقة التي تفترض تبادل الموارد المؤسسية والاقتصادية والسياسية مقابل الولاء والدعم تصبح وفقاً لهذا المنظور قادرة على تفسير التفاعلات داخل الأحزاب السياسية الديمقراطية .

ومن بين الاسهامات النظرية لهذه المدرسة التي لم يلق الضوء عليها كثيراً هي "العقاب"، حيث افترض عدد من الدارسين أن الناخبين يصوتون لصالح الأحزاب السلطوية ليس فقط طمعاً في المكاسب المباشرة، بل أيضاً تجنباً للعقاب من السلطة في حال عدم تصويتهم للحزب القائد.

ويبدو واضحاً من افتراضات وأطروحات نظرية "العلاقات الزبائنية" تأثرها بمدرسة الاختيار الرشيد، حيث تعتمد بالأساس على أن الناخب هو شخص رشيد يبحث عن تعظيم المنفعة، وبالنسبة لناخب لا يهتم بالسياسية فإن المنفعة اللحظية المتمثلة في الرشوة هي التي تحدد سلوكه.

ورغم أن منظري "العلاقات الزبائنية" لم يهتموا بتوثيق فرضياتهم بأطروحات "الاختيار الرشيد" بحثاً عن تدشين نظرية جديدة في السلوك التصويتي والاجتماع السياسي، ومن اللافت للنظر أن أحد الانتقادات التي وجهت لهذه المدرسة أنها "نظرية المهزومين"، حيث اعتبر عدد من الباحثين أن قراءة التصويت وفقاً لهذه النظرية هي قراءة من وجهة نظر الخاسرين في الانتخابات والذين يروجون لفوز الفريق المنافس بسبب رشوة الناخبين، وأنها لم تطور أدوات لتفسير تحولات السلوك الانتخابي وانقلاب الناخبين على "الراعي" في عدد من الدول الأفريقية والآسيوية وتصويتهم لصالح أحزاب المعارضة.

وتنعكس “العلاقة الزبونية” في الانتخابات المصرية بوضوح بوجود ظاهرة ما يطلق عليهم “سماسرة الانتخابات” في مصر وهي وظيفة يباشرها أشخاص دورهم الرئيسي هو شراء أصوات كتلة من الناخبين وبيعها لمن يدفع الثمن الأكبر من المرشحين.

وتصبح “العلاقة الزبونية” هي المهيمنة على المشاركة في الانتخابات في النظم السلطوية وفي حال تراجع المنافسة السياسية والاستقطاب الانتخابي..

إن حجم الأصوات التي يمكن شراؤها لا يتغير بشكل كبير بين انتخابات وأخرى، ولكن الفرق هو نسبة هذه الأصوات من إجمالي الناخبين وبالضرورة تنخفض نسبة الأصوات المدفوعة في حال ارتفاع نسب المشاركة واحتدام الصراع والاستقطاب السياسي.

واعتبرت د.

سارة بن نفيسة ود.

علاء الدين عرفات في دراستهما عن العلاقات الزبائنية في انتخابات عام 2000 أن "عملية التصويت في مصر تعتبر – لمحدودية الهيئة الناخبة– عملية انتخابية قائمة على الزبائنية" .

وانتهى الباحث في دراسة سابقة إلى أن "العلاقة الزبونية في مصر تصبح مهيمنة في المناطق الأكثر فقراً والأقل تعليماً وتستهدف بالأساس السيدات حيث يكون الصوت الذي يتم شراءه أرخص بالنسبة لسمسار الانتخابات وبالتالي للمرشح الساعي لشراء الأصوات أو عبر تقديم خدمات لأهالي المنطقة لخلق علاقة زبونية ممتدة.

وفي مصر قبل 2011 كانت هذه العلاقة هي المسيطرة في ظل انعدام المنافسة السياسية والتصويت على أسس أيديولوجية حيث كان الناخب يجد نفسه بين مرشحين يتنافسوا بالأساس على تقديم الخدمات أو الأموال بصورة مباشرة أي يتنافسوا على صياغة علاقة زبونية توفر لهم النجاح في صناديق الانتخابات" .

? الديموجرافيا السياسية: الطفرة الشبابية والطائفية يقوم نموذج الديموجرافيا السياسية الحديث على افتراض رئيسي هو أن التغيرات السكانية تقود إلى تحولات في نمط التفاعلات السياسية على صعيد نظم الدول والنظام الدولي.

وشهدت دراسة الديموجرافيا السياسية -خلال السنوات الخمس الماضية- تحولات كيفية بانتقالها من دراسة الأرقام إلى محاولة فهم آليات الصراع على الموارد والسلطة السياسية.

واتجهت المدرسة الحديثة إلى دراسة الثورات والتحولات وصعود وانهيار المجتمعات والصراعات الأثنية والسياسات المالية للحكومات وصولاً لتحليل نمط التصويت في الديمقراطيات الحديثة.

ومثلت دراسات أريك كوفمان(Eric Kaufman) وجاك جولدستون(Jack A .Goldstone)ومونيك دوفي توف (Monic Duffy Toff) في كتاب "الديموجرافيا السياسية: كيف تعيد التغيرات السكانية تشكيل الأمن العالمي والسياسات الوطنية" أبرز مساهمات مدرسة الديموجرافيا السياسة الحديثة التي تخطت مساهمات المدرسة التقليدية.

ووضع مؤسس نظرية الديموجرافيا السياسية مايرون وينر (MayronWiner) تعريفاً كلاسيكياً للمدخل على أنه منظور يدرس "علاقة حجم وتكوين وتوزيع السكان بكل من الحكومات والسياسات..

يركز على التداعيات السياسية للتغيرات السكانية خاصة المتعلقة بمطالب السكان من الحكومات وأداء السلطة السياسية وتوزيع القوى السياسية داخل الدولة وتوجهات السكان تجاه الحكومات، ودراسة علاقة المتغيرات الديموجرافية من الحجم والنمو والهيكل والهجرة والكثافة والحضرية والخصوبة والنشاط الإنتاجي والصحة بالصراع السياسي، مما يتيح فهم الانتخابات والأمن الاجتماعي والتطور السياسي" .

فقد وضع مايرون وينر - من خلال دراساته عبر 30 عاماً– نصب عينيه تحليل تداعيات التوازن السكاني على الأمن الدولي وتوازنات القوى العالمية.

في المقابل، ركزت دراسات جولدستونوكوفمانودوف على تأثير التغيرات الديموجرافية الخاصة بالانتقال من الريف إلى الحضر (ظاهرة التحضر أو التمدين) والهجرة والتحول في الهيكل العمري وتركيبة المجموعات السكانية الفرعية (دينية – اجتماعية – طبقية) على النظم السياسية المعاصرة واتجاهات التصويت وصولاً للتحولات الراديكالية والثورات.

وفي هذا السياق، طور جولدستون مفهوم "الهيراركية المتداخلة" (Nested Hierarchy) والذي يقسم المجتمع السياسي إلى دوائر رئيسية في قلبها المجموعات الاجتماعية والمؤسسات والدولة والنخب التي تدخل في علاقات جدلية تحكمها بالأساس التحولات الديموجرافية للمجموعات السكانية.

واعتبر أريك كوفمان، في دراسته حول صعود المجموعات الدينية في العالم، أن النظم السياسية تشهد حالياً تغيرات راديكالية لا يمكن فهمها دون إدراك التحولات الديموجرافية وضرب أمثلة بالسيطرة السياسية للطائفة الشيعية بالعراق والصراع بين الهوتووالتوتسي في رواندا.

ورأي كوفمان أن الانتخابات تحولت في عدد من الدول إلى عملية إحصاء سكاني، مشدداً على "إننا لم نعد في عالم يقبل أن تحكم الأقلية الأغلبية كما حدث للشيعة في العراق..

في عالم نجد فيه أن الانتخابات ببعض الدول مثل كينيا أو أوغندا عبارة عن مرآة للتركيبة القبلية والإثنية، بل تحولت لأداة للإحصاء السكاني" .

ووضع جولدستونوكوفمان تعريفاً جديداً لمنظور الديموجرافيا السياسية هو "محاولة الإجابة على سؤال رئيسي: كيف تؤثر التغيرات السكانية المختلفة على النظم السياسية؟ ..

عبر فهم التوقعات الخاصة بالمجموعات الفرعية سكانياً لنصيبها من الثروة والسلطة والنمو السكاني والهيكل العمري للمجتمع والانتقال من الريف للحضر" .

وبحسب جولدستون فإن المجموعة الفرعية (Subgroup) هي كل مجموعة سكانية متشابهة من حيث الدين أو العرق أو اللغة أو الوضع الطبقي والاجتماعي..

الخ.

وهي المجموعات التي تدخل في تفاعلات متبادلة معا ومع النخب ومؤسسات الدولة لتشكل في النهاية النظام السياسي.

ويركز المنظور الحديث للديموجرافيا السياسية على تأثيرات الهيكل العمري والانتقال من الريف للحضر والهجرة على النظم السياسية وإمكانية التحولات الراديكالية واندلاع الثورات وإمكانية سيطرة تيارات بعينها على الحكم.

وفي هذا السياق، نجد مفهوم "التحول الديموجرافي" يستخدم بكثافة في كتابات مدرسة الديموجرافيا السياسية.

والتحول الديموجرافي(Demographic Transition)مصطلح لبحث العلاقة بين المواليد والوفيات.

وتمر المجتمعات بأربع مراحل رئيسية للتحول الديموجرافي: الأولى قبل الثورة الصناعية، حيث يرتفع كل من معدل المواليد والوفيات.

والمرحلة الثانية التي تشهد فيها المجتمعات ارتفاع معدلات المواليد مع تراجع معدل الوفيات مع التقدم الصناعي وتوافر الخدمات الصحية.

يبدأ معدل المواليد في المرحلة الثالثة في التراجع مع استمرار منحنى معدل الوفيات في الانخفاض.

وهي مرحلة تشهد فيها المجتمعات نمو الطبقة الوسطى وارتفاع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل وانتقال التوازن لصالح الحضر على حساب الريف.

يبدأ النمو السكاني في المرحلة الرابعة في الانخفاض بسبب ارتفاع نسبة الوفيات عن معدل المواليد.

ويعتمد منظور الديموجرافيا السياسية على دراسة التحولات الديموجرافية لفهم التغيرات السياسية في المجتمعات، حيث إن المجتمعات الديموقراطية الحديثة – في الأغلب - انجزت بشكل نهائي عملية التحول للمرحلة الثالثة من التحول الديموجرافي، بينما تشهد المجتمعات التي تقترب من نهاية المرحلة الثانية اضطرابات سياسية واسعة وتكون هي الأكثر استعداداً لتغيير النظام السياسي عبر ثورات عنيفة أو سلمية.

ففي نهاية المرحلة الثانية من التحول الديموجرافي يرتفع نسبة الشباب (ما بين 15 و24 عاماً) مما يجعله مجتمعاً فتياً.

ومع توازي ارتفاع نسبة الشباب وتضخم الطبقة الوسطى الشابة فإن نمو الوظائف والاقتصاد يكون غير قادر على استيعاب مخرجات النظام التعليمي الواسع والمتطور نسبياً مما يقود إلى اصطدام التوقعات الخاصة بالمجموعة الفرعية الواسعة من الشباب بعدم قدرة الاقتصاد على استيعاب توقعاتها وطموحاتها.

وفي ظل انسداد أفق التغيير السياسي – في الدول غير الديمقراطية- فإن الثورات تكون هي الحل الوحيد لحل معضلة التحول الديموجرافي.

هذه الفرضية التي طرحتها مدرسة الديموجرافيا السياسية في 2010، قد تكون قادرة على تفسير الثورات العربية، حيث إن مصر وتونس واليمن وسوريا تمر بعملية انتقال ديموجرافية صعبة مع ارتفاع مكون الشباب وتحسن مستوى الخدمات الصحية والتعليمية نسبياً مع انسداد أفق التعبير السياسي للطبقة الوسطى الناشئة في أحضان النظام وعدم تلبية التطورات الاقتصادية لطموحاتها وتوقعاتها.

وهذه العوامل دفعت الأجيال الجديدة من الشباب للبحث عن طريق مغاير عبر "الثورات" لفتح آفاق جديدة تأخذ فيه زمام المبادرة.

ولكن هذا لا يعني أن مدرسة الديموجرافيا السياسية محصورة في نسق "استاتيكي"، حيث أن كتابات المدرسة الأمريكية للديموجرافيا السياسية - وخاصة روي تيكسيرا(Ruy Teixeira) – تأخذ في اعتبارها قدرة النظام السياسي على الاستجابة للتوقعات وقدرة النظام على القمع ومدى تماسكه الداخلي وإعادة انتاجه للنخب في الاعتبار.

واعتبر دان لاجراف(Dan LaGraff) في دراسته عن مصر أن تضخم فئة الشباب (Youth Bluge) لعب دوراً رئيسياً في اندلاع الثورة والتحول السياسي .

ويشير الكاتب إلى أن تضخم فئة الشباب (15 إلى 29 عاماً) ارتبط بارتفاع معدلات البطالة والفقر والتحول للسكن في المدن الكبرى.

وفصل لاجراف في أثر الهيكل العمري في التغير السياسي، مشيراً إلى أن أكثر من 54% من السكان في مصر لم يبلغوا بعد 24 عاماً ووجود 24 مليون مصري بين سن 15 و29 عاماً.

وهو ما يطلق عليه "عمر القتال" .

وبالتوازي مع ذلك كانت نسبة البطالة قد بلغت رسمياً 9.7% بحلول عام 2010.

ولعل مشهد ميدان التحرير في 25 و28 يناير 2011 كان تعبيراً عن انتفاضة الشباب في "عمر القتال"، هؤلاء الشباب الذين حصلوا على قدر من التعليم وانسدت أمامهم المنافذ الاجتماعية أو السياسية للتعبير عن طموحاتهم وتوقعاتهم.

فقد وصل معدل البطالة بين الشباب من خريجي الجامعات في مصر إلى أكثر من عشر أضعاف نسبتها بين الشباب غير الحاصل على تعليم جامعي.

وبالتوازي كان الشباب في "عمر القتال" قادرا على الاستمرار في الاحتجاج لفترات طويلة والتي استمرت في الحالة المصرية 18 يوماً.

ويشير ريتشارد سينكوتا(RicghardCincotta) إلى دور "التحضر" وانتقال كتل سكانية كبيرة في مصر من الريف للحضر والسكن في المدن الكبرى في اندلاع الثورة ، حيث أتاحت المدينة لجيل الشباب مع تمركز السكان في الحضر عبر السنوات العشرين الماضية الفرصة للتعبير عن أنفسهم والتفاعل مع النخب والإعلام والخروج من حيز العلاقات العائلية الممتدة والانتماءات الأولية.

وهو ما برز في كون الثورة المصرية ثورة حضرية بالأساس، حيث إنها امتدت من القاهرة العاصمة - التي تمثل مركز الاستقبال الرئيسي للنازحين من الريف وأكبر حيز حضري في الشرق الأوسط بنحو 9 ملايين نسمة – إلى الإسكندرية والسويس وهي مدن حضرية يوجد بها نسب كبيرة من القادمين من الريف.

وقدم وليام فراي (williamfrey)الاسهام الرئيسي لتطبيق الديموجرافيا السياسية على السلوك التصويتي، حيث درس فراي تأثير الديموجرافيا العرقية (الإثنية) على اتجاهات التصويت في انتخابات 2008 الرئاسية بالولايات المتحدة، طارحاً فرضية أن "التغيرات السكانية تنطوي على تأثير مهم في السياسة، ففي الديمقراطيات بوجه خاص نجد أن التغيرات في نسب المجموعات المتنوعة بين السكان الناخبين – الشباب والكبار، والمجموعات المتدينة والإثنية – بالإضافة إلى التغيرات في مواقعهم (الحيز–المكان) لها تأثير كبير جداً وغير متكافئ على نتائج الانتخابات" .

إن منظور الديموجرافيا السياسية للسلوك التصويتي ينطلق من نفس الفرضية التي طرحتها مدرستي كولومبيا ومتشجن الخاصة بأن الناخب في الدولة الديموقراطية يأخذ وقتاً لتغيير سلوكه الانتخابي وأن توجهاته تقوم على تأثره المباشر وغير المباشر بالمجموعات التي ينتمي لها سواء كانت مجموعة عمرية (جيلية) أو دين أو طائفة أو طبقة أو مجموعة عمل أو مستوى التعليم أو مكان وأن هذه العوام المتشابكة تؤثر على انتماءاته السياسية وسلوكه التصويتي.

ولكن ما تطرحه الديموجرافيا السياسية هو ضرورة دراسة كل عامل من هذه العوامل بشكل منفصل إلى جانب دراسة التحولات الديموجرافية لدراسة مآل التصويت في المستقبل.

كما أن هذه المدرسة اهتمت بشكل واضح بالفئات العمرية وتأثيرها في نتائج الانتخابات وسلوك التصويت لدى الصغار وكبار السن والفجوة الواسعة في اتجاهات التصويت بين الحضر والريف وبين المجموعات الدينية في الدول أو المناطق التي تشهد حالة من الصراع المغلف بالدين وهكذا.

ولعل هذه المدرسة تكون مفيدة في فهم السلوك التصويتي للمصريين، حيث استنتجت دراسة سابقة للباحث أن الريف يمثل المخزون الاستراتيجي للتيار الإسلامي في الانتخابات (2011-2012) ولكن بشرط أن يكون ريف طائفي فقير وهو ما ينطبق بشكل واضح على قرى الصعيد، وبالتوازي تميل المحافظات الغنية والحضر أكثر للتصويت لصالح التيارات المدنية بينما تميل المحافظات الحدودية للتصويت لصالح التيار السلفي بشكل واضح بينما يتركز التصويت الطائفي في الصعيد وخاصة (بني سويف– المنيا– أسيوط).

ولعل مدرسة الديموجرافيا السياسية باعتبارها مدرسة جديدة لفهم السلوك التصويتي تفتح الباب لتبني فرضيات خاصة بالمدارس النظرية الأخرى، فهذه المدرسة يمكنها فهم دور قادة الرأي على قاعدة دور رجال الدين أو رجال العشائر والقبائل في تحديد السلوك التصويتي لمجموعة على اساس ديني أو على أساس قبلي، بالتوازي فهي لا تنكر التصويت على أساس "الاختيار الرشيد" ولكنها تعتبره تصويتًا محصورًا في مناطق محدود بالمدن التجارية بالأساس ولا يمكن من خلاله فهم اتجاهات التصويت على مستوى وطني، إلى جانب وضع العلاقات الزبائنية في الاعتبار لدراسة سلوك المناطق الأقل تعليما والأكثر فقراً، فيما تتبنى من مفهوم الشخصية السلطوية ميل الريفيين وأبناء المناطق المعزولة للأحزاب غير الديمقراطية.

وربما الأهم بالنسبة لمدرسة الديموجرافيا السياسية هو دراسة السلوك السياسي والتصويتي للشباب، حيث تعد قضية مشاركة الشباب في السياسة اليوم أحد أبرز القضايا المطروحة للنقاش السياسي والبحثي خاصة بعد أحداث 30 يونيو 2013 وتراجع الشباب عن المسرح السياسي والحديث عن عزوف الأقل سناً في مصر عن المشاركة في الانتخابات.

ولعل دراسة الشباب باعتبارها كتلة منفردة يقود إلى نتائج غير دقيقة، حيث أن الشباب في الحضر مختلف عن الشباب في الريف والشباب الحاصل على قدر من التعليم الجامعي يختلف سلوكه التصويتي والسياسي عن الشباب الأقل تعليماً..

هذه الدراسات التي تغيب عن المشهد البحثي في مصر قد تساعد فيها بوضوح مدرسة الديموجرافيا السياسية بافتراضاتها ومعاملاتها التي تطرحها للتقسيم وقراءة البيانات والفرضيات الخاصة بالمشاركة بحسب المجموعات المختلفة.