02/03/2015
انحازت الأنظمة المصرية ــ على مدار عقود ــ لمبدأ عدم الدخول في حروب مباشرة ضد الإرهاب خارج حدود الدولة المصرية، مكتفية بالمواجهات التي خاضتها بل ومازالت تخوضها ضد الجماعات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة في الداخل المصري، حتى أنه ومع ارتفاع حدة الموجه الإرهابية على الصعيد الإقليمي (بعد ظهور وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) ومن ثم تشكيل التحالف الدولي لمحاربة داعش، ظلت الدولة المصرية على مبدأها رافضة المشاركة بأي حال على الصعيد العملياتي مكتفية بتقديم الدعم المعلوماتي فقط لا غير، وهو الدور الوظيفي ذاته الذي ظلت تلعبه على مدار العقود الماضية في إطار الحرب الدولية على الإرهاب.
التحول المصري
إلا أن ثمة تحولًا جذريًا كبيرًا طرأ على أداء الدولة المصرية خلال الأيام القليلة الماضية في هذا السياق، إذ تخلت الدولة المصرية عن مبدأها سابق الذكر بعدما أصبح استهداف المصريين في ليبيا أمرًا معتادًا من قبل الجماعات الإرهابية وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
ففي اليوم التالي لبث تنظيم الدولة الإسلامية لفيديو نحر 21 مصريًا مسيحيًا قامت القوات المسلحة المصرية بتوجيه ضربة جوية لمعاقل التنظيم بمدينة "درنة" الواقعة في الشرق الليبي، وهي الضربة التي أعلنت عنها القوات المسلحة المصرية في بيان رسمي، فضلًا عن عملية برية استهدفت قتل وأسر عدد من أعضاء التنظيم وفق ما ذكرته بعض وكالات الأنباء ولم تنفه القاهرة.
ولعل تحرك الدولة المصرية وإقدامها على الدخول إلى حيز تنفيذ العمليات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية المهددة لأمنها القومي جاء منطلقًا من إدراكها لحق الدفاع عن أمنها وأمن مواطنيها ضد أي تهديد وفق ما أقرته المواثيق الدولية، وهو ما أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطابه السابق للضربة الجوية، كما ترجمته تصريحات وبيانات بعض الدول الحليفة لمصر بداية من ليبيا والإمارات وانتهاءً بروسيا وفرنسا وإيطاليا.
في الوقت ذاته لم تغفل القاهرة طبيعة المعركة التي تُقدم عليها وحساسيتها فراحت تخوض معركة أخرى سياسية استهدفت توفير غطاء دولي لتدخلها العسكري، فضلًا عن تكوين تحالف دولي أو إقليمي -على أقل تقدير-يشاركها حربها على هذه الجماعات ومن ثم يتحمل معها تكاليف هذه الحرب.
تعقيدات الوضع بشأن ليبيا
وفي مواجهة مساعي القاهرة أصدرت خمس دول أوروبية (فرنسا وإيطاليا وألمانيا وأسبانيا والمملكة المتحدة) ومعهم الولايات المتحدة الأمريكية بيانًا يدعو كافة الأطراف لتعزيز الحوار الوطني الليبي بإعتباره السبيل "الوحيد" لمحاربة الإرهاب في ليبيا، الأمر الذي دعا القاهرة إلى تعديل مشروع القرار المُقدم من الجانب العربي لمجلس الأمن الدولي والاكتفاء بالمطالبة برفع حظر تصدير السلاح للحكومة الليبية الشرعية، وهو ما لم يقره المجلس بعد اعتراض عدد من الدول، مرجئًا اتخاذ القرار بشأن ما سيتم في ليبيا إلى الاجتماع التالي، وهو في الغالب الأعم سيكون قرارًا معبرًا وكاشفًا عن تعقيدات الوضعين الإقليمي والدولي بشأن الحرب على الإرهاب في ليبيا، والتي سيكون على الجانب المصري قبل حلفائه إدراكها ومن ثم التعامل معها، ولعل أبرز هذه التعقيدات أو التحديات التي سيكون على القاهرة التعامل معها هي:
• أن ليبيا منذ 2013 شكلت ساحة للصراع الإقليمي المباشر بين محور (قطر ـ تركيا) الذي يدعم حكومة المؤتمر الوطني الممثلة لجماعة الإخوان في ليبيا، وتحالف (مصر–الإمارات-السعودية) والذي يدعم الحكومة الشرعية وجيشها فضلًا عن قوات اللواء خليفة حفتر، ومن ثم فإن المحور الداعم لحكومة المؤتمر الوطني سوف يعمل على عرقلة أي إجراء من شأنه حسم الصراع السياسي لصالح الحكومة الشرعية الحالية، لما سيشكله هذا الحسم من ضرر بالغ للمصالح الاقتصادية والسياسية له.
• أن ثمة توازن عسكري قائم على الأرض بين كافة الأطراف الفاعلة الرئيسية في الداخل الليبي (أنصار الشريعة، داعش، قوات فجر ليبيا، جيش شباب القبائل، قوات اللواء خليفة حفتر، جيش الحكومة الشرعية).
• أن استراتيجية أبرز القوى الإقليمية المتضررة من الإرهاب في ليبيا وهي تونس والجزائر تختلف تمامًا عن الاستراتيجية الحالية للجانب المصري، حيث تتلخص استراتيجيتهم في الاعتماد على الاجراءات الدفاعية التي لا تتجاوز حدود أراضيهما.
• أن ثمة تراجع ظاهر عن دعم وتأييد القاهرة من قبل بعض حلفائها، ولعل أبرز حالات التراجع هي حالات فرنسا وإيطاليا والتي كانت قياداتهما السياسية قد أقرت حق مصر في الدفاع عن أمنها في أعقاب الضربة الجوية، ثم عادا ليؤكدا في بيانهما المشترك مع الولايات المتحدة أنة لا مجال إلا للحل السياسي في الداخل الليبي.
• أن هناك تخلي واضح من قبل الإدارة الأمريكية عن أجندتها الخاصة بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهو ما يمكن إرجاعه لما يشكله كسر شوكة التنظيم في الوقت الحالي خاصة في سوريا وليبيا من تهديد للمصالح الأمريكية إذ يصب الأمر في صالح أنظمة غير حليفة لواشنطن.
• وفي هذا السياق لا يمكن تجاوز الرفض الأمريكي الظاهر للتدخل العسكري (المصري) في ليبيا، وهو في الغالب الأعم ردة فعل أمريكية على تجاهل القاهرة لفكرة التنسيق مع واشنطن قبل الإقدام على أي عمليات عسكرية، فضلًا عن رفض الإدارة الأمريكية للتقارب المصري الروسي والذي يشكل تهديدًا لمكانة الولايات المتحدة في المنطقة.
خيارات ممكنة ومسارات محظورة
غالبًا ..
كانت ملامح الوضع بشأن الحرب على الإرهاب في ليبيا وتعقيداته هي الدافع الرئيس للقاهرة في تحركاتها المعلنة وغير المعلنة خلال هذه الأيام بغرض التوصل لأفضل الحلول الممكنة لهذه التعقيدات، وذلك قبل انعقاد مجلس الأمن الدولي مجددًا للبت في الأمر، وبغض النظر عن مضمون قرار مجلس الأمن المنتظر صدوره خلال ساعات سيبقى أمام القاهرة خيارات ممكنة وأخرى محظور الاقتراب منها، لما ستشكله من خطر بالغ على مصالح وربما كيان الدولة المصرية.
خيارات ممكنة
يبقى أمام الدولة المصرية ثلاثة خيارات ربما لا تكون متناسبة من حيث درجة المخاطرة أو تحقيق الأهداف بدقة، ولكنها ربما تكون مناسبة لتجنيب القاهرة أي تداعيات سلبية على الصعيد الدولي وهي:
التدخل العسكري في إطار تحالف دولي أو إقليمي يضم على الصعيد الدولي في أبسط الظروف بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا وإيطاليا، وعلى الصعيد الإقليمي يضم السعودية والإمارات لما تمثله هذه الدول من أهمية استراتيجية لدى الإدارة الأمريكية التي قد تتحرك في أي لحظة عكس إتجاه القاهرة، وفي هذا السياق يفضل أن يكون هذا التحالف حاصلًا على الشرعية الدولية بموجب قرار صادر من مجلس الأمن أو على أقل تقدير لا يمثل تجاوزًا لأحد بنود القرار المنتظر صدوره.
أما في حال صدور قرار بحظر التدخل العسكري في الداخل الليبي، فسيكون على الجانب المصري الاستمرار في تقديم الدعم اللوجستي والمعلوماتي لجيش الحكومة الشرعية، مع أخذ قرار حظر تصدير السلاح للجيش الليبي في الإعتبار إذا ما استمر هذا الحظر، بما يعني أن تقديم السلاح للجيش الليبي وقتها يجب أن يتم بسرية تامة وبشكل غير رسمي، ليكمل الجيش الليبي ما بدأته القوات المسلحة المصرية.
الخيار الأخير ..
وهو خيار قد يضطر الجانب المصري إليه إذا ما تطور الوضع في الداخل الليبي وزادت التهديدات للأمن القومي المصري في ظل صدور قرار يتضمن حظر التدخل العسكري وعدم رفع حظر تصدير السلاح للجيش الليبي، إذ قد تضطر القاهرة إلى تنفيذ عمليات عسكرية غير معلن عنها ضد أهداف في ليبيا، وهو نمط عملياتي معروف في استراتيجيات الحروب.
مسارات محظورة
وفي المقابل فإن صدور قرار من مجلس الأمن لا يتماشى مع تطلعات القاهرة، فضلًا عن تعقيدات المشهد أمام الإدارة المصرية قد يفتح باب التفكير أمام الأخيرة للتفكير في مسارات غير مأمونة العواقب وهو ما يجب على القاهرة أخذه في الاعتبار، ولعل أبرز وأخطر هذه المسارات هي:
التدخل العسكري المنفرد دون غطاء من الشرعية الدولية ودون التنسيق الواضح والمعلن مع أبرز القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في المنطقة ويقصد هنا (السعودية والإمارات على الصعيد الإقليمي، والولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا على الصعيد الدولي).
التدخل العسكري أو اتخاذ أي اجراءات أو تدابير ــ بما يخالف القرار المنتظر صدوره من مجلس الأمن ــ ضمن تحالف إقليمي أو دولي لا يتمتع بالثقل الكافي لتأمين خطوات القاهرة على الأرض، وتحديدًا مع الجانب الروسي الذي يبدو حريصًا (لأسباب تتعلق بمصالحه الاستراتيجية في المنطقة) على تأييد ودعم القاهرة في هذه المعركة، وكانت روسيا قد أعلنت استعدادها لمشاركة مصر في الاجراءات والتدابير التي تراها القاهرة مناسبة في معركتها، فضلًا عن تصريحات رئيس شركة "ميج" باستعداد الشركة لمد مصر بأي مقاتلات تحتاجها القاهرة في المعركة ذاتها.
يبقى المسار الأخطر والذي يجب على القاهرة أن تتجنبه تمامًا، ألا وهو مسار تسليح القوى المناهضة للتنظيمات الإرهابية وأبزرها جيش شباب القبائل، لما سيشكله هذا المسار من مخاطر أبرزها إبقاء حالتي السيولة السياسية والانهيار والانفلات الأمنيين، ومن ثم تقويض فرصة عودة الدولة الليبية واستقرار الحدود الغربية لمصر.