قضايا وتحليلات - مصر 2015-2-8
د. حازم محفوظ

خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية الاستراتيجية، ومدير تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

ترسخت علاقة حميمة تربط بين الإعلام المرئى ورأس المال، بحيث بدأت هذه العلاقة الجديدة تؤثر إلى حد كبير فى إدراك تفاصيل الحدث الذى تعالجه ونمط تفاعل أفراد المجتمع معه.

ويلاحظ من الدراسات والبحوث التى تعاملت مع هذه المسألة أن الكثير من جوانب هذه العلاقة أضحت بادية للعيان، وأن الإعلام المرئى بات يساهم إلى حد كبير فى تغيير منظومة معتقدات أو آراء أفراد المجتمع فى ضوء طبيعة النهج الذى يمارسه فى معالجة المضامين، وأسلوب الطرح.

ومع كل البديهيات التى غدت معروفة حول دور وسائل الأعلام واتساع دائرة التأثير المباشر، إلا أن الحضور الحاد والمؤثر للإعلام المرئى فى صياغة أسلوب حياتنا اليومية أضحى ظاهرة تستحق التأمل والمتابعة والبحث عن وسائل التعامل معها وتحليل نتائجها وأبعادها.

فى الواقع، تسهم وسائل الإعلام المرئى في تحسين أو تشويه الصورة الذهنية للمجتمع في الداخل والخارج، بل وقد تصلح أو تفسد علاقات الأفراد بعضهم ببعض داخل الوطن الواحد، وكذا علاقة الوطن بدول العالم الأخرى.

وتمر معظم القنوات الفضائية بحالة من التيه وفقدان للمعايير الموضوعية والنزاهة والتوازن؛ إذ تحولت معظم منصات الفضائيات إلى ساحة معركة للأفكار، التى لا تحل جوهر الموضوعات؛ فأصبح مقدمو البرامج الحوارية؛ خاصة السياسية منها يتحكمون فى النقاش والجدل العام، على حد تعبير مجلة الـ "Foreign Policy"، لدرجة غدا مصطلح "الجدليون الجدد"، هو المصطلح الأنسب لتوصيف المشهد الإعلامى فى الوقت الراهن، ويبدو أن ثمة خطوات تفتقدها مجموعة من القنوات لتلحق بالركب الإعلامي الرشيد.

وهذا ما ألمح إليه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى لقائه مع الإعلاميين بالقول: "إن دقة المرحلة والظروف الحالية التي تمر بها المنطقة تقتضي الالتزام (بالضمير الفكري) الذى يفرض التناول الإعلامي بموضوعية وحيادية تامة، بغية إيجاد ظهير فكري مساند".

وإذا كان من الصحيح أن التجارب التاريخية أثبتت أن الإعلام الوطني ساند وساعد علي تجاوز الظروف التي مرت بها مصر في تاريخها الحديث والمعاصر، وإذا كان الإعلام احتضن فى صفوفه أبرز قادة الوطنية والإصلاح الاجتماعى فى مصر؛ فإن تجربة الإعلام المرئى الحالية؛ خاصة بعض القنوات الخاصة، بعد ثورة 25 يناير وموجتها فى 30 يونيه، أثبتت أن التناولات الإعلامية لم تستطع تحقيق التوازن بين حرية الإعلام وتحمل مسئولياته الاجتماعية والأخلاقية.

فبالرغم من أن الثورة وموجتها اتاحتا الفرصة لوجود العشرات من القنوات الفضائية، فإن قيم ومعايير الإعلام الموضوعى تظل غائبة عن معظم تلك القنوات؛ فبدلاً من تشكيل اتجاهات الرأى العام تجاه القضايا المجتمعية بحيادية؛ فإن بعضها، لسبب أو لآخر، تتعمد إثارة الرأى العام.

وإذا كان الخبراء والإعلاميون اتفقوا على ضرورة وجود ميثاق للشرف الإعلامى، يـوجب الالتزام بمقتضيات الصدق والأمانة والشرف فيما يقدم، بما يحفظ قيم ومثل المجتمع، وبما لا ينتهك حقوق الآخرين، ويمس حرياتهم؛ فإننا نجد العديد من الحالات التي تخترق فيها خصوصية الآخرين، بل واستباحة أعراض المخالفين تحت مسمى حرية التعبير، وينسى هؤلاء - بقصد أو بدون - أن حريتهم تقف عند حدود حرية وأعراض الآخرين، فالحرية تتحرك أيضاً ضمن قوانين، والأخطر من هذا كله أن هناك بعض القنوات، عن وعى أو غير، تفسد علاقة الوطن بدول العالم الأخرى، بل وتضر بالأمن القومى المصرى.

وفى الوقت الذى تتزايد فيه التجاوزات، لا نجد محاسبة، والمواطنون يحجمون عن اللجوء للقضاء لأسباب متعددة ليس هنا محل شرحها.

فمن الجلي إذن، أن الأزمة التى يعانيها الإعلام المرئى كان يمكن أن تكون أقل خطورة لو أن العنصر البشرى، أبدى حرصاً أكثر على عدد من المتطلبات والمعايير المهنية التى كان لا بد منها.

ظواهر الأزمة: 1- التطفيف الإعلامى والذى يشير إلى انتقائية للقضايا والموضوعات والمواقف والنتائج تبعاً للمصالح.

2- المبالغة والتهويل فى وصف الأحداث أو فى السياق الذى ترد فيه.

3- التشخيص الإعلامى والذى يزكى نمطاً معيناً فى تعامله مع الأحداث والتركيز على الشخوص والزعامات.

4- التنازع والاستحواذ على الرأى العام لتشكيل اتجاهاته.

سيطرة المال السياسى على السياسات الإعلامية: في الأزمنة السابقة كان الإعلام المصرى تحت سيطرة السلطة تتحكم فيه بحسب ما يخدم أغراضها السياسية والأيديولوجية، وأدى ذلك إلى بروز إشكالية الحرية والاستقلال فى أداء وسائل الأعلام المصرية، غير أن الحرية التي اكتسبها ذلك المجال بعد الثورة، وانفتاح باب ممارسة السياسة أمام الجميع، فتح شهية رجال الأعمال للاستثمار في هذا المجال.

وإن كانت تلك الحالة صحية فى ظاهرها؛ خاصة إذا ما اعتبرناها تساهم في التعددية وإثراء المجال الإعلامى وانفتاحه؛ فإنها ربما في بعض الأحيان تمثل خطرا كبيرا يهدد المجال الإعلامى باعتبار أن هذه القنوات أصبحت في قبضة رجال أعمال ناشطين في الحقل السياسي مما قد يساعدهم على استغلال هذه الفضائيات لخدمة أغراض سياسية وإيديولوجية أو لتمرير مصالحهم الخاصة، في ظل غياب القوانين المنظمة للمجال الإعلامى.

فى حقيقة الأمر، إن أحد أهم أسباب الأداء الإعلامى الحالى يرجع إلى الموارد الهائلة التي تم ضخها عن طريق رجال الأعمال - منذ ثورة يناير وحتى الآن - لإنشاء قنوات فضائية جديدة، للسيطرة على التوجه السياسي، وفى ظل مواجهة الضغوط لتقديم تنازلات يصبح التقيد بالقيم والمعايير المهنية أمراً ليس سهلاً، وهكذا تحول المجال الإعلامى من سيطرة نظام (سياسى) إلى سيطرة نظام آخر (رجال الأعمال) لا يختلف عنه جوهرياً.

وكانت من ضمن أخطار السيطرة على التوجه السياسى، تلك الحالة من الانقسام المجتمعى، إذ أن المصريين انقسموا على أنفسهم بشأن أسباب الأزمات وأسلوب التعامل الأمثل معها، ولقد تحولت حالة الانقسام تلك فى بعض الأحيان إلى حالات صدام بين المصريين بعضهم البعض؛ بسبب مهارة بعض الإعلاميين ذوي البعد الواحد، فى تطويع أى إشكالية لتحقيق ما يشبه الإجماع العام أو القبول، بمعنى جعل الرأى العام يوافق على أمور لا يرغب فيها من الأساس، ويمكن أن نستشهد هنا بتجارب بعض الدول مثل لبنان والعراق ورواندا؛ حيث ساهمت هيمنة المال السياسي على وسائل الإعلام في تحويلها إلى أدوات للتضليل والتفرقة بين المواطنين.

ومع الوقت أصبح الإعلام المرئى الخاص أداة لتكريس حالة الصراع السياسي، لدرجة أن البعض لا يزالون فى وضعية من يوجه الطعنات إلى ذاته (الوطن)، لأنه من البديهى أن ينعكس التراجع المهني والقيمى والأخلاقى على المجتمع بأسره، والسؤال المطروح هو: لأية غاية نحن سائرون؟ مقترحات للخروج من الأزمة: ويمكن طرح النقاط التالية كنقاط استرشادية للخروج من الأزمة: 1- ضرورة العمل من أجل كسر احتكار رجال الأعمال للإعلام الخاص، ووضع قواعد تنظيم ملكية وسائل الإعلام.

ويمكن فى هذا الصدد أن نستشهد بالتجربة الفرنسية التى اقترحت فى هذا الإطار تحديداً، ألا تزيد نسبة تملُّك الفرد الواحد وأسرته لما يزيد عن 10% من رأس مال أي قناة إعلامية، أو 5% من المشاركة في وسيلتين إعلاميتين في البلاد، وألا يسمح للفرد بأن يجمع ما بين المشاركة في ملكية أكثر من وسيلة.

2- قيام الأجهزة الرقابية المختلفة بالبحث والتحرى فى حجم الأموال التى يتم استثمارها فى الفضائيات، ومعرفة مصادرها وملاكها وأهدافهم الحقيقية منها؛ خاصة بعد تصريح السفيرة الأمريكية السابقة في مصر؛ "آن باترسون"، أمام الكونجرس: إن بلادها ضخت 40 مليون دولار دعمًا لمنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في مصر منذ ثورة يناير.

3- الاهتمام بالتخصص الإعلامى فى أداء الكوادر الإعلامية لمهامها مع الاهتمام بتطوير الأداء المهنى.

4- اعتماد مفهوم الثنائية فى مجال العمل الإعلامى أى الاهتمام بالإعلام الرسمى والإعلام المعارض على حد سواء.

5- العمل على إنشاء جمعيات أهلية تعمل على حماية المشاهد وضمان عدم تعرُّضه لما يسيء له، أو ينتهك خصوصياته، عن طريق مراقبة ما يذاع وينشر في وسائل الإعلام المختلفة.

6- وأخيراً، العمل على انتهاء "اللجنة الوطنيه للتشريعات الصحفية والإعلامية" من أعمالها فى أقرب وقت ممكن، وتشكيل "المجلس الوطنى للإعلام"، ذلك المجلس التى طالبت القيادة السياسية فى يوليو 2014 بسرعة إنشاءه؛ خاصة فى ظل غياب وزارة الإعلام.