تسعى تركيا منذ ما يقرب من عقد ويزيد للحاق بالعائلة الأوروبية، لكن سلوكيات أردوغان الذي يمسك بكامل خيوط المشهد السياسي التركي قد تقلص حظوظ انقرة.
وكان آخر هذه السلوكيات اتهام مجموعة من رابطة مشجعي فريق بشيكطاش لكرة القدم بمحاوله قلب نظام الحكم وقت احتجاجات ميدان "تقسيم" في مايو 2013، ووافقت المحكمة على قبول القضية، على أن تبدأ المحاكمة في 16 ديسمبر المقبل.
أضف إلى ذلك صك قانون يشدد الرقابة الحكومية على الإنترنت في 11 سبتمبر الجاري، يُوسِّع صلاحيات هيئة الاتصالات، في إطار أول حزمة تشريعية يُدخلها حيز التنفيذ كرئيس للدولة.
ويسمح القانون الجديد لهيئة الاتصالات التركية، بحجب المواقع إذا اعتبرت ذلك ضرورة من أجل حماية "الأمن القومي واستعادة النظام العام ومنع الجرائم".
لم تكن هذه السلوكيات فقط هي التي وسعت الهوة بين أنقرة وبروكسل، فقد كشفت الانتخابات الرئاسية التي شهدتها تركيا في العاشر من أغسطس عن توجهات غير ديمقراطية لرئيسها المنتخب أردوغان، وتجلى ذلك في تهديده معارضيه وخصومه السياسيين، ناهيك عن تمرير قوانين استثنائية تسمح له بالسيطرة من وراء ستار على كافة سلطات الدولة، وهو الأمر الذي يتعارض مع قيم الاتحاد وبنيته الإيديولوجية.
والأرجح أن سلوك أنقرة إزاء الداخل فضلا عن حالة المراوحة بشأن التعاون مع الائتلاف الدولي لمحاربة تنظيم الدوة الإسلامية "داعش" أفقدها رصيداً وافراً من حماسة الاتحاد الأوروبى، تلك الحماسة التى مكنتها دائماً من الحصول على دعم أوروبى للوجود فى كل مشهد سياسى مهم.
صحيح أن ساكن قصر شنكاي الجديد قال أن عضوية العائلة الأوروبية ليست نهاية المطاف، وأن بلاده يمكن أن تستغنى عنها، إلا أن مؤشرات الواقع تؤكد خلاف ذلك، فقد كشف مسح أجراه مركز أبحاث صندوق مارشال الألماني في 9 سبتمبر الجاري عن أن الأتراك يشعرون بالشوق للاتحاد الأوروبي، وأن نسبة التأييد لانضمام تركيا إلى العائلة الأوروبية ارتفعت إلى 53% بين المشاركين بعد أن كانت 45% فقط في العام الماضي.
أنقرة ولندن: نموذج الرغبة المعكوسة في الوقت الذي يسعى الاتحاد الأوروبي لمنع بريطانيا من مغادرة أروقته المؤسسية، تناضل تركيا للحاق بالقطار الأوروبي.
وفي الوقت الذي يكافح فيه الساكن الجديد لقصر شنكاي لنيل عضوية الاتحاد، وعد ساكن 10 داوننج ستريت ديفيد كاميرون بإجراء استفتاء حول عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي بحلول 2017 في حال إعادة انتخابه في العام المقبل.
لم يكن هذا وجه الاختلاف الوحيد بين أنقرة ولندن، فبينما يسعى أردوغان إلى إقناع العائلة الأوروبية بموقع وموضع بلاده الإيجابي في بنيان الهيكل الأوروبي، يؤكد كبار العائلة، وفي مقدمتهم فرنسا وألمانيا أن السياسية الخارجية الأوروبية ستتقلص للغاية في حال قررت بريطانيا مغادرة الاتحاد.
وطرح شتاينماير وزير خارجية ألمانيا تساءل معبراً عن حال القلق والتوتر التي تعتري الأجهزة الأوروبية، فقال " هل يمكن أن تكون هناك سياسية خارجية أوروبية دون بريطانيا؟ وأجاب بالنسبة لي وبوضوح لا".
مصاعب وتحديات ثمة تحديات عدة تواجه تركيا التي أصبحت، عام 2005، دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وفتحت 13 فصلاً تفاوضياً مع الاتحاد الأوروبي، من أصل 35، تتعلق بالخطوات الإصلاحية بهدف تلبية المعايير الأوروبية في جميع المجالات، تمهيداً لحصولها على عضوية كاملة في منظومة الاتحاد الأوروبي.
يتعلق التحدى الأول بنظرة قطاع معتبر من دول الاتحاد للإصلاحات التركية باعتبارها إصلاحات هامشية لم تقترب من عدة قطاعات جوهرية، خاصة ما يتعلق بإقرار حقوق قانونية ودستورية للقوميات والأقليات غير التركية، فضلا عن أن قطاع معتبر من الدول الأوروبية يتشدد في قبول عضوية تركيا باعتبارها المسئولة تاريخيا عن مذابح الأرمن التي ارتكبتها الدولة العثمانية في العام 1915، وهي ثاني أكبر قضية عن المذابح بعد الهولوكست، إذ تم قتل وإبادة الآلاف إضافة إلى عمليات الترحيل والتهجير القسري لقسم آخر من السكان.
تحدي أخر يرتبط بالتوجه التسلطي للرئيس التركي كشفته إقالة عدد كبير من العاملين في جهاز الشرطة دون سند قانوني، فضلا عن محاولات إعادة هيكلة القضاء وتطهيره مما أسماه أردوغان عناصر الدولة الموازية التي يديرها الداعية فتح اللة جولن المقيم بولاية بنسلفانيا.
والأرجح أن هذا السلوك وغيره أثار غضب الاتحاد الأوروبي، لاسيما عقب لجوء أردوغان إلى استخدام العصا الغليظة في مواجهة مناهضية دون الاستجابة لمطالبهم فضلا عن تمريره مشروع قانون لغلق مدارس خاصة هى بالمئات بادعاء إصلاح التعليم.
غير أن الحقيقة هى أن هذه الدور التعليمية تتبع حركة جولن، وانتهاء بإقصاء عناصر الجماعة عن المراكز القيادية والوظائف المؤسسية.
أضف إلى ذلك العامل الديموجرافي، وهو يمثل عقبة كئود أمام انضمام تركيا البالغ تعدادها السكاني حوالي 80 مليون نسمة والمتوقع أن يصل إلى 100 مليون خلال السنوات القليلة القادمة، وستصبح بذلك أكثر كثافة سكانية من ألمانيا التي تحتل حاليا المرتبة الأولى سكانياً بين دول الاتحاد.
ويبقى العامل الثقافي والحضاري، أيضا أحد أهم الأسباب التي ما زالت تحول دون دخولها النادي الأوروبي، فالطابع الإسلامى الرمزى للدولة مثل الحجاب والمأذن يشكل جنباً إلى جنب مع حقيقة وجود حدود مشتركة لتركيا مع إيران وسوريا والعراق وكلها بلاد مسلمة، الأمر الذي يثير مخاوف من تمدد دولة إسلامية داخل القارة العجوز.
كما تبدو أوروبا قلقة إزاء ذلك الحجم الكبير للتقاليد والتراث المحافظ الذي يتمسك به حزب العدالة والتنمية، وللدين لدى الأتراك بعد ثمانين عاماً من العلمانية، وهو ما يختلف شكلاً ومضموناً عما هو قائم في المجتمعات الأوروبية.
مؤشرات سلبية الأرجح أن القراءة الدقيقة للعلاقة المحتملة بين أنقرة وبروكسل بعد نجاح أردوغان تلمح إلى أن الطريق قد تكون طويلة وشاقة، وأن عضوية الاتحاد في الوقت الراهن تبدو بعيدة المنال، ويدلل على ذلك مؤشرات عدة، أولها الانتقادات اللاذعة التي وجهتها بعثة الاتحاد الأوروبي التي راقبت الانتخابات الرئاسية التركية.
فعلى سبيل المثال أشارت الجمعية البرلمانية الأوروبية إلى تجاوزات عدة في مقدمتها استغلال أردوغان مؤسسات الدولة ومقدراتها لمصلحته فضلا عن احتكاره الإعلام الرسمي، وبدا ذلك في تخصيص التلفزيون الحكومي أكثر من 8 ساعات له على الهواء مباشرة، فيما خصص للمرشحين الآخرين فترة زمنية لم تتجاوز الأربعة دقائق لكل منهما.
في المقابل ألمحت منظمة الأمن والتعاون الأوروبي إلى استغلال أردوغان في شكل غير نزيه موارد الدولة خلال حملته الانتخابية، وذلك بفضل احتكاره منصب رئيس الوزراء إبان حملته الرئاسية.
هذا التوجه السلبي الذي برز منذ فوز أردوغان لم يكن هو الأول من نوعه، فقد تلاه مطالبة الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري الشقيق الأصغر للحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم في ألمانيا بوقف مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي نهائيا.
وفي تصريح له قال أمين الحزب أدرياس شوير "تركيا- أردوغان غير مرغوب فيها بأوروبا".
وبينما كان لافتا التمثيل الدبلوماسي المنخفض للولايات المتحدة في مراسم حلف أردوغان القسم الدستوري في البرلمان، إذ مثلها القائم بالأعمال الأمريكي في سفارتها بأنقرة، لم يرسل الاتحاد الأوروبي ممثلا عنه، فيما كان مثيراً للعجب والحيرة في آن معاً دعوة القائم بالأعمال المصري في أنقرة إلى حضور التنصيب.
يشار إلى أن الاتحاد الأوروبي ومن خلفه الصحافة الغربية وبخا أردوغان لتمريره إجراءات استثنائية، فى مقدمتها إغلاق موقع تويتر في مارس الماضي، وهو الموقع الذي يتصفحه ما يقرب من 10 ملايين مواطن تركي بعد تسريبه تسجيلات ومقاطع فيديو تكشف عن تورط أردوغان في قضايا فساد.
من جهة أخرى أعلنت بروكسل امتعاضها من أردوغان بعد تعزيزه الرقابة السياسية على المؤسسة القضائية، حيث منح وزارة العدل دور أكبر في تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى وعدد معتبر من المؤسسات القضائية وعلى رأسها المحكمة الدستورية.
سيل المخاوف الأوروبية زادت حدتها مع إعلان أردوغان الفائز بالرئاسة إعادة هيكلة الدستور واحتمالات تحويل النظام السياسي للبلاد إلى رئاسي أو شبه رئاسي، لضمان نقل صلاحيات رئيس الوزراء إلى القصر الرئاسي.
احتمالات تمرير هذه التعديلات التي أثارت غضب عارم في أوساط الداخل الأوروبي، دفعت هرمان فان رومبوي رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي إلى دعوة أردوغان صراحة إلى ضرورة لعب "دور توفيقي من أجل جمع كل المجموعات والمعتقدات والحساسيات والآراء وأساليب الحياة في المجتمع التركي".
جهود رمزية المخاوف السابقة لم تكن خافية على أردوغان الذي وعد خلال زيارته لبروكسل في يناير الماضي ببذل مزيد من الجهد للوصول إلى معايير الاتحاد الأوروبي، كون هذه المساعي على وفرتها ظلت رمزية، فعلى سبيل تم تعيين مولود جاوش أوغلو في موقع وزارة الخارجية، وكان المسئول في حكومة أردوغان الأخيرة عن ملف الاتحاد الأوروبي.
أيضا أغدق أردوغان عقب فوزه بالرئاسة المديح على أتاتورك، أثناء توقيعه كتاب الشرف في ضريحه، وتعهد بالسير على خطاه وإصلاحاته ومبادئ الجمهورية العلمانية، في محاولة لطمأنة أوروبا بشأن ما يثار عن رغبته وطموحاته الدفينة في إحياء الخلافة الإسلامية.
أيضا ألمح إلى استعداده لمصالحة تاريخية مع الأرمن، واعتذاره عن المذابح التي ارتكبها العثمانيون بحقهم، إذ راح ضحيتها الآلاف من شعب أرمينيا.
إلى جانب القضية الأرمنية، أشار الرئيس أردوغان إلى تحقيق تقدم ملموس في القضية الكردية، وبدا ذلك في وقف العميات العسكرية بين قوات الحزب الكردستاني والدولة التركية، وإقرار البرلمان بشرعية المفاوضات مع الأكراد.
كما لم يغفل أردوغان تذكير الأوروبيين بنجاح بلاده طوال الشهور التي خلت في حلحلة أزمة جزيرة قبرص، وحدوث تقدم مموس في محادثات السلام بين شطري الجزيرة وصولا لحل نهائي يعيد الوحدة للجزيرة.
أردوغان: تغيير المسار الأرجح أن أردوغان يراهن على نجاحاته في ملف الأقليات المدعوم بتطور اقتصادي كبير وغير مسبوق في اللحاق بالقطار الأوروبي، لكن استمرار أوروبا فى تجاهل مطلب تركيا وإثقال كاهلها بالإصلاحات، قد يدفع أردوغان إلى توثيق العرى مع بدائل أخرى منها مد جسور التواصل بشكل أكبر مع إيران الدولة النووية التي قال عنها أردوغان في لقائه الأخير مع المرشد على خامئني نهاية يناير الماضي أنه يعتبر إيران وطنه الثاني، بل دعا أردوغان نظرائه في طهران إلى إمكانية البحث في تشكيل ما أسماه "حكومة مشتركة".
أيضا لجأ أردوغان إلى تسريع وتيرة التعاون مع أميركا اللاتينية، فارتفع عدد البعثات الدبلوماسية في القارة الجنوبية إلى 9 سفارات، كما وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول اللاتينية إلى ما يقرب من 10 مليار دولار، ناهيك عن قطع شوط معتبر عى صعيد إقامة مجالس رجال الأعمال مع كل دول القارة.
وساهمت سياسة المعونات التى تبنتها تركيا حيال القارة فى كسب تعاطف قطاعات شعبية واسعة، فكان لمنظمة الهلال الأحمر التركية السبق فى إرسال أطنان من مواد الاغاثة وفرق الأطباء عقب زلزال هايتى، فضلا عن سياستها الإقراضية لكل من دول جزر الكاريبي وأمريكا الوسطي دون فوائد أو بفوائد مخفضة.
في سياق متصل سعي أردوغان إلى بناء جدار متين من الثقة مع الكبار في آسيا، فشهد منحنى العلاقة مع الهند ارتفاعا ملحوظا، كما دفعت علاقاتها الاقتصادية قدما مع روسيا، خصوصا أن السوق الروسي بات أكثر استيعابا للمنتجات التركية بعد تجميد وتراجع الفرص الاقتصادية لبلدان أوروبا بسبب العقوبات الأوروبية على روسيا جراء تدخلها في الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي في مارس الماضي.
أيضا ثمة أوراق أخرى ربما يلجأ إليها أردوغان حال عدم اللحاق بالقطار الأوروبي، فمثلاً يمكنه تعقيد حل المسألة القبرصية التي تمسك تركيا بتلابيبها، وغيرها من الأوراق التي تمس الأمن الأوروبي وفى مقدمتها مشروع الدرع الصاروخية الذي يتبناه الحلف الأطلسي لحماية أعضائه ضد مخاطر الصواريخ المتوسطة والقصيرة التي تملكها إيران، وهو المشروع الذي سبق وأن رفضته أنقرة في العام 2008.
خلاصة القول أن فرص تركيا للانضمام إلى العائلة الأوروبية قد تكون غير ممكنة على الأقل في الوقت الراهن، خصوصا مع تصاعد وتيرة الانتقادات الأوروبية لسلوكيات أردوغان السياسية، وتعنت قوى سياسية وحزبية أوروبية ضد نيل أنقرة عضوية الاتحاد الأوروبي.