تمهيد:

اختص المفكر الكبير دكتور سمير أمين مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بهذه الورقة التي أعدها حول روسيا، وهي في أغلبها عمل سابق للدكتور سمير صدر باللغة الفرنسية.

وعلى الرغم من أن الورقة سبق نشرها بالعربية، إلا أنه يرى أن ترجمتها المنشورة سابقا كانت مشوهة، بل وعلى حد تعبيره كانت "كارثية"، بما يخل بحقيقة آراءه وأفكاره.

كما أن دكتور سمير أضاف للورقة الحالية بعض الملاحظات.

والورقة المنشورة هنا قام الدكتور سمير بكتابتها لقراء العربية بنفسه، ليوضح حقيقة أفكاره حول روسيا ودورها.

ونحن نشرف في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بنشرها.

المحرر

عادت روسيا تحتل مكانتها في الساحة السياسية الدولية بصفتها قوة عظمى.

لعل المناسبة أتت لنشر هذين المقالين حول تاريخ روسيا ثم الاتحاد السوفيتي.

كتبت أولهما في أعقاب انهيار النظام السوفيتي وتم نشره بلغات عديدة غير العربية.

ثم كتبت الثاني حديثًا.

روسيا: فعل العامل الجغرافي في مسيرة تاريخ روسيا الكبرى يخاطب الانهيار مزدوج الوجهين للنظام السوفيتي بصفته مشروعاً اشتراكياً، ولروسيا بصفتها قوة عظمى، النظريات التي طُرحت في مجال النضال بين الرأسمالية والاشتراكية من جانب، وفي مجال تحليل مكانة ووظيفة مختلف المناطق التي تتشكل منها المنظومة العالمية المعاصرة من الجانب الآخر.

ولذلك كنت اخترت العنوان الفرعي للمقال –"جغرافيا أم تاريخ؟" لافتًا النظر إلى التساؤل عما إذا كانت الظروف التاريخية (والمقصود هنا تلك الظروف التي أتاحت انتصار ثورة 1917) هي التي تحكمت في تطور الأمور، أم إذا كانت سمات جغرافيا المكان هي التي تلقى مزيداً من الضوء على مكانة روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفيتي في المنظومة الرأسمالية العالمية المعاصرة.

1-تمحور التحليل الماركسي التاريخي، ولا سيما تعبيره السوفيتي اللينيني، حول قضية الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، وبالتالي قضايا إنجاز الثورة وبناء الاشتراكية.

وتبلورت هذه النظرية – انطلاقاً من لينين-حول النقاط الأربع التالية: 1-لابد أن يؤدى صعود الصراع الطبقي الأساسي (الصراع بين البورجوازية والبروليتاريا) إلى الثورة الاشتراكية على صعيد عالمي.

2-ينطلق التحرك نحو الثورة ذات البعد العالمي من تلك البلدان (مثل روسيا ثم الصين) التي تمثل "الحلقات الضعيفة" في المنظومة العالمية، وذلك لأسباب يتوجب اكتشافها وتوضيحها.

3-يمكن بناء الاشتراكية في تلك البلدان، بالرغم من تخلفها الموروث من تاريخ التوسع الرأسمالي على صعيد عالمي.

4-يتجلى الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية في التضاد والمنافسة بين النظامين، أي نظام الدول الاشتراكية من جانب، ونظام الدول التي ظلت أسيرة الرأسمالية من الجانب الآخر.

يعطى هذا المنهج نوعا من الأولوية للتغيرات على صعيد أنماط الإنتاج المترتبة على إنماء قوى الإنتاج، وذلك من خلال تركيز مجرد الطابع على التناقض بين هذين المستويين من الواقع.

فيضع الخصوصيات التي تتسم بها مختلف "مناطق" المنظومة العالمية في هذا الإطار المجرد.

وإن كان فكر ماركس لا يتلخص في هذا المنهج، إلا أنه ساد في الماركسية التاريخية.

وبالتالي حدث نوع من المغالاة المجردة والتبسيط لفكر ماركس، تجلى في طرح النقاط الأربعة المذكورة في صيغة مطلقة.

بذل التيار الذي أطلق فالرشتين عليه اسم "الاقتصاد-العالم" الجهد لتعديل هذا التبسيط، حتى لوى العصا في الاتجاه المعكوس، أي بعبارة أخرى أحل مغالاة معكوسة تحل محل المغالاة في التبسيط الماركسي التاريخي.

على سبيل المثال قدم هذا التيار تفسيراً لما أصبح دور الاتحاد السوفيتي يرجع تطوره إلى فعل القوى التي تحكمت في تطور الكل (والمقصود التي تحكمت على صعيد عالمي).

وعلى هذا الأساس قدم تفسيراً لانهيار النظام السوفيتي يرجعه إلى التطور الذي طرأ على صعيد المنظومة العالمية، الأمر الذي شجع خفض تقويم فعل التناقضات الداخلية الخاصة بالنمط الاشتراكي المعنى.

فإذا كانت الماركسية المبسطة تكاد تهتم فقط بـ "صراع الطبقات" في تفسيرها للتاريخ، فإن تيار "الاقتصاد-العالم" يكاد يتجاهله، فيوصى بأن هذا الصراع لا يغير مسيرة التاريخ، بل يظهر فقط سر المسيرة الإجبارية التي يفرضها تطور المنظومة العالمية، فهنا يتحكم الكل (العالم) في الخاص (مناطق العالم)، بينما النظرة الماركسية المبسطة توحى بأن الطابع اللا متكافئ واللا متوازي في تطور الأطراف (الدول، الأقاليم) ينتج تطور الكل (المنظومة العالمية).

وبما أن "الأطراف" التي تتشكل منها المنظومة العالمية هي دول أو مجموعة دول (أقاليم) تجد مكانها في جغرافيا العالم، فإن التيار المذكور الذي لوى العصا في الاتجاه المعنى يمكن أن يُطلق عليه مصطلح “النظرة الجغرافية"، في مقابل "النظرة التاريخية المفقودة".

أرفض هذين النهجين المغاليين، وبذلت مجهوداً لتخطى التبسيط الذي يتسم به كل منهما، فقلت إن الخصوصيات (السمات الخاصة لمختلف أقاليم المنظومة العالمية) نتاج تفاعل العام الذي يتجلى في فعل القوى التي تتحكم في مسيرة التاريخ العام لجميع الشعوب، والخاص الذي يتجلى في تنوع أشكال تكيف المسيرات الجزئية لمقتضيات فعل العام.

وهنا، في هذا المقال المخصص لتاريخ روسيا ثم الاتحاد السوفيتي، أنطلق من العودة إلى نقاش أطروحات نظرية طُرحت في حلقات علماء التاريخ في روسيا حول "خصوصية الإقليم الأوروبي-الآسيوي"، ومنهم تروبلسكوي الذي تمتع بشهرة في عشرينيات القرن السابق ثم أُطمس فيما بعد مع سيادة النظرة السوفيتية الدجمائية والمبسطة.

ثم عادت أطروحات تروبلسكوي تحتل مكانها في المسرح، وأثارت صدى في روسيا والصين والهند، وإن ظلت مجهولة في باقي العالم.

أنطلق من هذا النقاش لأنني أعتقد أن تاريخ روسيا/ الاتحاد السوفيتي ضرب من أفضل الأمثلة لما سبق أن قلته حول ضرورة تخطى المنهجين المذكورين في نقدي.

علماً بأن هذا التخطي لا يعنى "طمس الماركسية"، بل على نقيضه إغناءها ودفعها إلى الأمام في قدرتها التفسيرية.

2-سبق أن كتبت عن "المنظومة العالمية" التي تخص القرون الخمسة بين عام 1000 وعام 1500 ميلادي.

ووصفتها بأنها تتشكل من ثلاثة أقاليم "متقدمة"-هي الصين والهند والشرق الأوسط وإضافة إقليم رابع إليها– أوروبا-شهدت تقدماً سريعاً خلال المرحلة المعنية.

حتى تجمعت عندها أهم التغيرات التي استعجلت التطور نحو الرأسمالية في هذه المنطقة الهامشية حتى عام 1000.

وفي هذا الإطار العام اعتبرت أن ما حدث "في المحيط" الشاسع الذي يفصل ويربط معاً أوروبا من جانب وشرق آسيا من الجانب الآخر (أي روسيا الكبرى) نتاج تفاعل آليات التمفصل بين هذه الأقطاب الأربعة المشكلة لما أسميته "منظومة العالم القديم" (أقصد الذي سبق إقامة المنظومة الرأسمالية المعاصرة).

وطرحت في هذا الإطار الأسئلة التي تمثل الإجابة عليها جوهر تفسير علمي لنشأة الرأسمالية التاريخية، وهي أسئلة تخص: - أولا: ديناميكيات التحولات التي طرأت على مختلف الأصعدة المحلية لكل من هذه الأقطاب الأربعة) في مواجهة التحدي العام.

علماً بأن الصراع الطبقي– بالمعنى الواسع للكلمة-يتحكم في هذه الديناميكيات فيحدد مدى ومغزى التحولات.

ثانياً: تمفصل ما ترتب على حدوث هذه التحولات المحلية في تكوين المنظومة العالمية المعنية من عناصر تطور وتكامل وتناقض الأدوار التي لعبها كل إقليم من الأقاليم الأربعة المذكورة خلال المرحلة المعنية (من 1000 إلى 1500 مع امتدادها إلى عام 1800).

3-يُظهر التحري في تاريخ تطور المنظومة القديمة تفوق الشرق الصيني والهندي.

فقد ضمت الصين والهند أغلبية سكان تلك المنظومة العالمية القديمة، بل أخذ عدد سكان آسيا الشرقية والجنوبية في الصعود المتواصل، فارتفع من 50 مليون لكل من الصين والهند قرنين قبل الميلاد إلى 330 و200 مليون على التوالي حول عام 1800، و450 و300 مليون حول عام 1850.

هذا بينما ظل عدد سكان "إقليم الشرق الأوسط" ثابتاً إن لم يكن قد تناقص.

فبلغ عدد السكان في هذه المنطقة حوالي 50 مليون في العصر الهلنستي (وهو غالباً أرقى مستوى بلغته المنطقة) ثم استتب حول 35 مليون عشية الثورة الصناعية والفتح الأوروبي.

فلنتذكر أن عدد سكان مصر الفرعونية الذي بلغ 10 أو 14 مليونا في بعض حقب تاريخها انخفض إلى حوالي 2 مليون حول عام 1800.

وكذلك تدهورت الأمور في بلاد الرافدين والشام.

وقد ظل عدد سكان القارة الأوروبية منخفضًا (حوالي 30 مليون) حتى القرن العاشر ميلادي ثم انفجر حتى بلغ 180 مليون حول عام 1800 و200 مليون حول عام 1850.

يضاف إلى هذه الملاحظات حول تطور حجم سكان أقاليم المنظومة ملاحظة ذات أهمية حاسمة، تخص إنتاجية العمل الاجتماعي التي ظلت في صالح الصين طوال الحقبة الطويلة (إلى ما بعد الثورة الصناعية).

فتمتعت الصين بمستوى أعلى من الرفاهية وهذا صحيح أيضاً بالنسبة إلى الهند حتى الغزو البريطاني (بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التالي).

تتجلى في هذه الأوضاع الأسباب التي روت-عندما وعت أوروبا بتقدمها انطلاقاً من النهضة (حول 1500) -طموحاتها الحاسدة في التوصل إلى الشرق الآسيوي الثرى.

وذكر كتاب "إتيمبل" المشهور ("أوروبا الصينية") هذا الوعي بأن الصين قدمت أفضل نمط في إدارة الدولة والاقتصاد، والتكنولوجيات الأكثر تقدماً.

كما أوضح "إميابجشى" دور نهب ثروات الهند في تفوق بريطانيا على منافسيها في القرن التاسع عشر.

فقام تقدم الصناعات الإنجليزية الأولى (النسيج) على أساس تفكيك القدرات الإنتاجية الهندية المتفوقة، وذلك من خلال متابعة برامج ممنهجة لهدمها.

ينبغي وضع مسيرة الإقليم الوسيط، المشكل من الشرق الأوسط من جانب وروسيا الكبرى من الجانب الآخر، في هذا الإطار.

ورثت منطقة الشرق الأوسط وضعية متقدمة نشأت مع جمع الحضارات القديمة (مصر وإيران وبلاد الرافدين والشام واليونان) في ظل الحضارة الهلنستية ثم الإسلامية، بالإضافة إلى أن الإقليم قد استفاد من مركزه الوسيط المحتكر للعلاقات التجارية بين أوروبا وشرق/ جنوب آسيا.

بيد أن أوضاع المنطقة أخذت في الركود المتواصل أو يكاد فيما بعد.

فأنتج هذا الركود نتيجتين هامتين.

أولاهما إدراك الوعي الأوروبي-انطلاقاً من حروب الإفرنج ("الحروب الصليبية") أن أهمية الشرق الأدنى لا تكمن في ثرواتها الذاتية بل في مكانتها للسيطرة على طرق التجارة البعيدة.

الأمر الذي دفع الأوروبيين تجاه البحث عن طرق بديلة؛ وفتح الطرق عبر المحيط الأطلسي والمحيط الهندي وبحر الصين.

والنتيجة الثانية أن الصين والهند حولتا نظرهما من التوجه نحو الغرب إلى التوجه نحو الشرق والجنوب الشرقي، المشكل من كوريا واليابان والهند الصينية (فيتنام وتايلاند وبورما وماليزيا).

فلم يعد القطبان الصيني والهندي يواصلان النظر إلى الشرق الأدنى المتدهور.

هكذا انتقلت المبادرة إلى أوروبا فأصبحت السيطرة على البحار من جانب وعلى الإقليم القاري الوسيط الروسي من الجانب الآخر، الوسيلة الجديدة المفضلة لتأسيس علاقات تجارية مربحة بين القطب الأوروبي الصاعد والقطبين الآسيويين (الصين والهند).

وتنافس كلا الطريقين (الطريق البحري والطريق القاري عبر روسيا) من أجل تحقيق الهدف.

4-أصبحت سيطرة أوروبا على البحار تمثل جوهر التحدي بالنسبة إلى إقليم الشرق العربي/ التركي/ الإيراني الإسلامي وإلى إقليم أور-آسيا الروسي.

ظلت أوروبا-شمال شرق المتوسط الروماني الإغريقي سابقاً-في وضع هامشي في النظام العالمي حتى القرن العاشر، فكانت تشكيلاتها الاجتماعية-شأنها في ذلك شأن أفريقيا جنوب الصحراء-لم تتخط بعد حدود المشاعات الأولى.

كما شهدت القارة أمواجاً متتالية من هجرة "القبائل" المكونة لشعوبها وذلك على مسافات طويلة.

بيد أن هذه المنطقة المتخلفة انتقلت إلى نهضتها باكراً.

وقد قدمتُ تفسيراً لهذه "المعجزة" قائماً على بيان الميزة التي مثلها الشكل الخاص الذي اتخذه النمط الخراجي في أوروبا.

حيث ساد هناك تفتت إقطاعي في ممارسة السلطة على خلاف تمركز هذه السلطة في الشكل المتقدم للنمط الخراجي (لا سيما في الصين).

فظلت فكرة مركزية السلطة منحصرة في طموحات البابا (وريث الإمبراطور الروماني) في تمثيل "وحدة العالم المسيحي"، وهي وحدة رمزية لم تعط للبابا سلطة سياسية حقيقية تذكر في إدارة الممالك الإقطاعية الأوروبية.

ومر الانتقال إلى الرأسمالية عبر حقب متتالية سريعة، وتمثلت أولى هذه الحقب في الحروب الإفرنجية التي دفعت "الإفرنج" (فرنسيين وإنجليز وألمان) في سبيل مشروع السيطرة على "طرق الحرير" من خلال الاستيلاء على الشرق الأدنى الإسلامي والشرق الأدنى البيزنطي الأرثوذكسي.

وينبغي التشديد في هذه النقطة: "فالعدو" لم يكن "المسلمين" فقط بل على قدم المساواة: "المسيحيون الأرثوذكس" للدولة البيزنطية.

وخسرت أوروبا الإفرنجية حربها ضد الخلافة الإسلامية التي طردتها من الأراضي المحتلة.

ولكن هذه الحروب الإفرنجية دمرت الدولة البيزنطية، الأمر الذي يسر فيما بعد اختفاءها لصالح الفاتح العثماني.

بيد أن انتصار "المسلمين" أخفي في طياته هزيمة تاريخية.

فوجهت أوروبا أنظارها في اتجاه البحر، وفي نهاية المطاف ساهمت سيطرتها على البحر في تدهور الأوضاع في الشرق الأدنى الإسلامي الذي فقد احتكاره على طرق الحرير، وبدوره يسر تدهور الإقليم أن تبسط القبائل التركية والمغولية سلطتها على أراضيه.

علماً بأن القيادات العربية الإسلامية شاركت في تسهيل استيلاء الأتراك على أراضيها بدعوتها "للإنقاذ من الإفرنج".

استفادت المدن الإيطالية من حروب الإفرنج، فبسطت سيطرتها على الملاحة في المتوسط.

ولنذكر هنا أن شخصين إيطاليين فتحا الطريقين الجديدين للوصول إلى الشرق الآسيوي: كولومبو الذي عبر الأطلسي (واكتشف أمريكا في طريقه إلى آسيا) وماركو بولو الذي عبر المحيط القاري الروسي-المغولي.

5-دخل المحيط القاري الروسي المغولي (الذي أصبح روسيا) في التاريخ المعاصر في هذه اللحظة بالتحديد.

فهمش فتح هذا الطريق القاري الجديد بين أوروبا والصين الطريق القديم عبر الشرق الأدنى الإسلامي.

فأصبح الصراع بين مختلف الشعوب التي تسكن الإقليم الأورو-آسيوي صراعاً تاريخياً حاسماً.

تعارض من خلاله تكتلان: تكتل الشعوب الروسية التي خرجت من منطقة الغابات الدائمة الشمالية من جانب، وتكتل الشعوب المغولية الرعاة الذين احتلوا السهول الواقعة في جنوب الإقليم.

وكسبت روسيا المعركة عبر سلسلة حروب أدت إلى إقامة الإمبراطورية القيصرية واستيلائها على الإقليم بشموله من بولندا إلى المحيط الهادي، ومن المحيط الشمالي إلى بحر قزوين وجبال القوقاز وحدود إيران وأفغانستان.

اكتسبت التشكيلة الاجتماعية لهذا الإقليم الروسي الشاسع سمات خاصة بها، تميزها عن التشكيلات الأوروبية من جانب، وعن التشكيلة الصينية من الجانب الآخر.

يقال عادة بهذا الصدد إن روسيا "نصف أوروبية ونصف آسيوية"، علماً بأن النعت "آسيوي" يحمل معنى سلبياً.

أقول إن هذا الحكم سريع وسطحي.

قطعاً كانت الإدارة السياسية للتشكيلة الروسية "أوتوقراطية".

بيد أن السمة ذاتها تنطبق على النظم الملكية الأوروبية المطلقة التي سادت خلال قرون حتى ثورة انجلترا عام 1683 وثورة فرنسا عام 1789.

على أن وسائل إدارة هذه السلطة الأوتوقراطية على منطقة شاسعة (من بولندا إلى أقصى سيبيريا الشرقية) اختلفت عن ممارسات الملكية الأوتوقراطية في دول غرب أوربا الصغيرة.

توجهت الممالك الأوروبية الأطلسية الأربع (انجلترا، فرنسا، إسبانيا، البرتغال) -بعد اكتشاف أمريكا-إلى استعمارها.

فأقام الأوروبيون فيها نظماً كولونيالية خاضعة لقوانين خاصة بها، متميزة عن القوانين السائدة في الدول الأم.

على سبيل المثال أقاموا في أمريكا أشكالاً إنتاجية تعتمد على العبيد المنقولين من أفريقيا، بينما لم يسمحوا بنظام الرق على أراضي الدولة الأم.

سارت روسيا في سبيل مختلف، فأخضع الروس الشعوب ذات الأصول غير الروسية، المقهورة والمنضمة في الإمبراطورية، لنفس القوانين التي حكمت بها الطبقة الروسية القائدة شعبها الأصلي.

علماً طبعاً بأن هذه القوانين فرضت القمع الإمبراطوري على الجميع واستغلالهم بنفس الأساليب.

فانحصرت "هيمنة الروس"– وهو أمر حقيقي-على المجال الثقافي (فكانت اللغة الروسية هي الوحيدة المعترف بها).

وعندما تطلق وسائل الإعلام الغربية نفس النعت على "جميع الإمبراطوريات" وتماثلها في نمط واحد (نتحدث عن الإمبراطورية الرومانية القديمة، العثمانية، البريطانية الحديثة، الروسية ..

الخ) عبر التاريخ، فإنها تقدم مقولة غير علمية، وخادعة تماماً.

ولكن الإقليم الأورو-آسيوي لم يقم بوظيفة المحيط الرابط لأوروبا بالصين إلا خلال حقبة قصيرة تمتد من 1250 إلى 1500 إذ حل الطريق البحري مكانها انطلاقاً من 1500 ولم يكن هذا التحول جغرافيا بحتا.

فقد اكتشف الأوروبيون أمريكا في الطريق واستعمروها وحولوها إلى تخوم الرأسمالية الناشئة، وذلك قبل أن يستعمروا آسيا الشرقية والجنوبية وأفريقيا حيث أقاموا نظم استغلال كولونيالي.

هذا بينما حافظ الإقليم الأورو-آسيوي الذي أصبح روسيا على استقلاله.

6-همش اكتشاف الطريق البحري دور الإقليم الأورو-آسيوي انطلاقاً من 1500 إلى 1900 وقد واجه الروس هذا التحدي بأسلوب فعال لامع.

ففي عام 1517، أي بضع سنوات فقط بعد سفر كولومبو عبر الأطلسي، أخرج الراهب فلوفاوس تصريحاً تاريخياً مفاده أن موسكو أصبحت روما الثالثة (بعد روما، ثم القسطنطينية).

كان مغزى هذا التصريح إيذاناً بأن روسيا ستتولى مسئولية بسط سيطرتها على الإقليم الأورو-آسيوي الشاسع.

وقد حمَّل بعض المفكرين الروس في العصر الحديث-ومنهم برديايف-المقتنعين بسلامة المنهج والهدف، حملوا روسيا مسئولية تحقيق هذه "النبوءة" لصالح الإنسانية بأجمعها! بل أضاف برديايف بعد قيام ثورة 1917 أن "الشيوعية تمثل الآن هذه النبوءة"! وإن كان مثل هذا التفسير مرفوضاً (وأنا أرفضه بلا تردد!) لغياب تأسيسه على أدنى قاعدة علمية ولخطورة النتائج التي تترتب على تنفيذه، إلا أنه يفسر أهداف ومنهج السياسة التي اتبعتها روسيا حتى ثورة 1917 التي توجهت اتجاهاً آخر (ولذلك قلت روسيا القيصرية لا الاتحاد السوفيتي!) فتركز مجهود روسيا على الجمع بين تطوير مجتمع مستقل متمركز على الذات وبين الانفتاح على الغرب ("المسيحي" هو الآخر، ولو "المسيحي المزيف" في نظر الأرثوذكس!).

نجحت روسيا في هذا المشروع الذي لا مثيل له من حيث المساحة الشاسعة التي غطاها، كما نجحت الولايات المتحدة هي الأخرى في بناء دولة/ وطن على صعيد قاري.

ويلاحظ أن الأمريكيين لجأوا أيضاً إلى لغة النبوءة، فأطلقوا على مشروعهم نعت "إسرائيل الجديدة".

غير أن الروس في توسعهم القاري "استوعبوا" الشعوب المقهورة، بينما لجأ الأمريكان إلى إبادة الهنود! ولكن يبدو-مع مرور الزمن-أن نجاح الولايات المتحدة في مشروعها تفوق بمراحل على إنجازات روسيا في مشروعها.

ويلجأ البعض في تفسير الفرق إلى الميزة الخاصة التي تمتعت بها أمريكا: غياب وراثة "إقطاعية"، بحيث أن العلاقات الرأسمالية التي أقيمت على أرضيتها استطاعت أن تنمو بدون عائق في سبيلها، بينما روسيا القيصرية ظلت "إقطاعية" في عقائدها وأشكال تنظيم سلطتها.

أعتقد أن هذا التفسير يحمل شيئاً من الصحة.

بيد أن هناك عوامل أخرى لعبت في صالح أمريكا.

فبالمقارنة مع روسيا استفادت أمريكا من عزلة جغرافية منعت عملياً التدخل في شئونها، فظلت محمية من إصابتها بالمدافع وذلك حتى العصر الحديث القريب حين أصبح استخدام الصواريخ لا يترك أي منطقة من الكوكب-دون استثناء-بعيداً عن مناله.

فلم يتواجد أمام مشروع التوسع الأمريكي عدو يذكر.

ولم تمثل المكسيك عائقاً، فأصبحت هي نفسها فريسة التوسع الأمريكي.

اختلفت الأمور بالنسبة إلى روسيا التي عانت من الصدام العسكري المباشر مع القوى الأوروبية العظمى والذي تجلى في حملة نابوليون، ثم حرب القرم (عام 1854)، ثم الحربين العالميتين.

فلم يكن من الممكن تفادى التفاعل بين سياسة روسيا وسياسة أوروبا.

بل اختارت سان بطرسبورج هذا السبيل عمدًا إذ لم يتصور النظام القيصري لحظة اتخاذ موقف "الحياد" إزاء الشئون الأوروبية، بل اعتبر نفسه طرفاً فيها.

وكذلك فإن الاتحاد السوفيتي هو الآخر-ولو من موقف مختلف بشكل جذري-اعتبر نفسه جزءًا من الصراع الطبقي على صعيد عالمي بين الطبقة العاملة حاملة المشروع الاشتراكي وبين رأس المال العالمي، فكلا النظامين-القيصري والسوفيتي-رفضا العزلة بدعوى الخصوصية المزعومة-سواء كانت خصوصية الشعوب السلافية أم خصوصية الطابع الأور وآسيوي لروسيا.

مكانة الاتحاد السوفيتي في المنظومة العالمية مثلت ثورة 1917 قطيعة في تاريخ شعوب الاتحاد السوفيتي، وهي شعوب الإمبراطورية القيصرية سابقاً.

فلا يصح اعتبار أن هناك مسيرة متواصلة في تاريخ "روسيا الكبرى" مرت بمرحلة "سوفيتية" قبل أن ترجع لأصولها "الروسية" بعد انهيار المشروع الشيوعي.

لقد خلقت سيادة الرأسمالية المعاصرة جديداً حقيقياً وحاسماً أصبح يتحكم في شئون جميع شعوب الكوكب.

ويظل تحليل ماركس في هذا الشأن صائباً وحاسماً.

ويتجلى التحدي الجديد الذي تواجهه جميع الشعوب في ضرورة تخطى نمط التراكم الرأسمالي.

فلم يكن المشروع السوفيتي نتاج إلهام "نبوي" كما قال برديايف.

فتقع الأسئلة الصحيحة التي طرحتها ثورة 1917 في مجالات أخرى تماماً، وهي: أولاً، ما هي الأسباب التي أتاحت انطلاق الحركة نحو الاشتراكية من روسيا "المتأخرة" وليس من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية "المتقدمة"؟ وثانياً: ماذا حققت الحقبة السوفيتية وماذا ما لم تحققه؟ لن أعود هنا إلى هذه الأسئلة التي تناولت نقاشها في كتابات تفصيلية أخرى.

فأرجو أن يرجع القارئ في هذا الصدد إلى دراستي الحديثة المعنونة "الوحدة والتعددية في الحركة نحو الاشتراكية".

أكتفي هنا بالقول إن المجتمع السوفيتي أقيم بالفعل على أساس رغبة منهجية في "بناء الاشتراكية" على أراضيه.

ولكن النظام استتب في شكل "اشتراكية دولة"، ثم تحجر فلم يتخط هذه المرحلة الأولى، الأمر الذي أتاح انقلابه في نهاية المطاف لصالح العودة إلى الرأسمالية.

أضيف نقطة تبدو لي رئيسية لإدراك ما حدث بعد انهيار النظام في مجال العلاقات بين الأمة الروسية والأمم الأخرى المكونة الاتحاد السابق.

لم تواصل السياسة السوفيتية ممارسات النظام القيصري في هذا المجال فأقيم الاتحاد على قاعدة تعترف وتحترم تنوع القوميات، حلت محل مبدأ "الاستيعاب" ("التماثل") -ولو الظاهر أكثر منه الحقيقي-الذي مارسه النظام القيصري.

بل أكثر من ذلك أقيم النظام الاقتصادي السوفيتي على قاعدة إعادة توزيع فوائد التنمية المشتركة لصالح المناطق الأقل نمواً، علماً بأن الشعوب "غير الروسية" هي التي استفادت من هذا الخط العام الجديد.

فانتقل استخدام الفائض المستخرج من المناطق الأكثر تقدماً (روسيا الغربية، وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق) للاستثمار في المناطق الأقل نمواً (سيبيريا، آسيا الوسطى، الجمهوريات جنوب القوقاز).

وساد نظام تماثل ومساواة الأجور والحقوق الاجتماعية.

وهو مبدأ يناقض تماماً المبدأ الذي يحكم الرأسمالية، وهو التفاوت في مستوى الأجور بين المراكز والتخوم.

بعبارة أخرى اخترعت السلطة السوفيتية مبدأ "المعونة" الحقيقية، وهو مبدأ لا تزال الرأسمالية تتجاهله في ممارساتها الواقعية، بالرغم من كلامها حول "المعونة الدولية"! أرجع إلى الموضوع الذي أود أن أتناوله هنا: وصف سمات النظام السوفيتي في مرحلته الأخيرة، قبل السقوط.

أقصد إذن وصف النظام "المتحجر" لعصر حكم بريجنيف.

أولاً: نظام قائم على مبدأ "الطائفية": وليس المقصود "طائفية" قائمة على الانتماء القومي أو الاجتماعي طبعاً، بل المقصود هو تكوين "تكتلات" مصلحية تجمع معاً أصحاب القرار والعمال الفاعلين في قطاع إنتاجي معين.

على سبيل المثال تكتل يضم أصحاب القرار في الصناعة المعدنية والعمال المستخدمين في هذا القطاع.

فأصبح كل من هذه التكتلات "مركز قوة" يدخل في التفاوض (لعل كلمة مساومة تعطى المعنى!) مع مراكز القوة الأخرى من أجل تصميم أهداف الخطة العامة وتوزيع الفوائد المستخرجة منها: وصار الجوسبلان (هيئة التخطيط-المحرر) المكان الذي حلت فيه هذه "المفاوضات-المساومات".

وصارت النقابات جزءًا من المنظومة بصفتها المؤسسة التي تتناول مسئولية إدارة الشئون الاجتماعية والفوائد المستخرجة منها لصالح العمال (مدارس، مستشفيات، سكن، معاشات الخ).

لعب مبدأ الطائفية الموصوف هنا دوراً حاسماً، فحل محل "الربحية" التي تتحكم في إعادة تكوين التوسع الرأسمالي فتجلى عمل هذا المبدأ في "السوق السوفيتية" وأعطى له طابعاً مختلفاً عما هو عليه في واقع عمل السوق في الرأسمالية.

علماً بأن الطابع "العقلاني" للخطة الناتجة عن هذه المساومات الجماعية يظل موضع تساؤل.

أدى العمل طبقاً لمبدأ "الطائفية" في ظروف تحجر النظام إلى صعود تناقضات جديدة بين مختلف الأقاليم الجغرافية المكونة للاتحاد.

فكان لكل تكتل من التكتلات المعنية وجود في مناطق معينة، بينما غاب في مناطق أخرى، علماً أيضاً بأن هذا التقسيم الجغرافي لم يمت بصلة لتقسيم السلطة بين القوميات.

على سبيل المثال هناك تكتل معين يمكن أن يكون له وجود في إقليم روسي وفي إقليم آخر في أوزبكستان ولا وجود له في جورجيا....

الخ.

ثانياً: نظام سلطة أوتوقراطية أقصد هنا غياب ممارسة الديموقراطية في إدارة السياسة العامة، سواء كانت طبقاً للنمط الغربي (القائم على الانتخابات المتعددة الأحزاب) أم للنمط المتفوق الذي تصورت إقامته ثورة 1917.

على أن هذا القول لا يرادف قبول نظرية "نظام التوتاليتارية" (الشمولية) الذي تكرر وسائل الإعلام الغربية الحديث عنه بلا ملل.

فقد اختفي وراء "الأوتوقراطية" الظاهرة في اتخاذ القرار تفاوض حقيقي بين التكتلات التي مثلت تنوع المصالح الجماعية ومراكز القوة.

وبدلاً من الحديث المجرد والمبسط عن "الأوتوقراطية" أقول إن النظام تجلى في هرم من السلطات المتجسدة في مؤسسات إقليمية (ولاسيما في توزيع ممارسة القرار بين مختلف الجمهوريات).

وقد يسر هذا الوضع انفجار الاتحاد في نهاية المطاف.

ثالثاً: استقرار النظام الاجتماعي لا أنكر على الإطلاق تواجد ممارسة للعنف في واقع التاريخ السوفيتي.

وتعددت مصادر العنف المعني.

انفجرت الموجة الأولى من العنف بمناسبة التعارض الصاعد بين هؤلاء "الواقعيين"-الذين أعطوا الأولوية للحاق– أي إنماء قوى الإنتاج-وأولئك الذين تمسكوا بتنفيذ الوجه الآخر من المشروع، وهو إقامة علاقات اجتماعية جديدة ذات طابع اشتراكي صحيح.

علماً بأن هذا التناقض لم يكن مفتعلاً، بل انعكاساً لواقع تناقض صحيح صاحب انتصار الثورة في منطقة تخومية سابقاً في المنظومة الرأسمالية العالمية.

تلت هذه الموجة الأولى ما ترتب على انتصار النظرة "الواقعية"، وهو استخدام العنف من أجل استعجال عملية التصنيع.

علماً بأن وسائل عنف شبيهة قد استخدمت في تاريخ التراكم الرأسمالي! اذكر هنا شُح الإسكان وغيرها من ظواهر الفقر.

يحل المصدر الرئيسي في استخدام العنف السوفيتي في مجال ممارساته مع الفلاحين.

فقد ألقى قرار إنشاء الكولخوزات (المزارع التعاونية الجماعية-المحرر) عبء تمويل التصنيع على كتف صغار الفلاحين، حتى أنهي هذا القرار تحالف العمال والفلاحين الذي أتاح انتصار الثورة.

هذه القصة معروفة تماماً.

وينبغي– عندما نتناول مقارنة درجة العنف بين نمط التراكم الأولى "الاشتراكي" والتجارب الرأسمالية السابقة-أن نتذكر أن الغرب استفاد من ظروف أفضل ساعدت على تخفيف نتائج العنف، أقصد الهجرة على نطاق واسع لأمريكا.

فارتفع عدد سكان أمريكا ذوي الأصول الأوروبية حتى يعادل عدد سكان أوروبا نفسها ولم تعرف التجربة السوفيتية مثل هذه الميزة.

أضيف أن النمط السوفيتي للتراكم قد أظهر وجهاً إيجابياً بالمقارنة مع النمط الرأسمالي.

فوفر فرصاً للصعود في الهرم الاجتماعي لملايين من أبناء الطبقات الشعبية، وهو ما لم يحققه النمط الرأسمالي.

أخذ النظام يتطور نحو الاستقرار الاجتماعي انطلاقاً من عصر حكم خروتشوف.

فبلغ النظام حداً من التنمية أتاح له رفع مستوى المعيشة بشكل ملحوظ ومتواصل.

لم يتمتع استتباب الأمور بطابع "نهائي" طبعاً.

فليس هناك نظام– اشتراكي أو رأسمالي-يستطيع أن يزعم ذلك.

فعمل الاستقرار الاجتماعي السوفيتي– النسبي-في إطار له حدود ويتسم بالتناقض.

لا سيما ذلك التناقض الذي صاحب غياب التقدم في سبيل مقرطة المجتمع.

فكانت هناك احتمالات مفتوحة متباينة تحكم مستقبل النظام.

كان من الممكن أن يحدث تطور تدريجي نحو مزيد من الفعالية الاقتصادية بالانتقال من نمط تراكم توسعي إلى نمط تراكم كثيف من خلال فتح باب للتبادل في السوق (المصحوب بوضع حدود لعمليات السوق)، ولمزيد من الديموقراطية.

بعبارة أخرى كان يحتمل أن يتطور النظام نحو موقع "يساري وسطي" يحفظ المستقبل.

وكان هناك احتمال آخر يمكن حدوثه هو تحجر النظام وهذا هو ما حدث بالفعل.

رابعاً: فك الارتباط مع الرأسمالية العالمية لا أقصد بمفهوم فك الارتباط نوعاً من الانعزال والهجرة إلى خارج الكوكب، بل اتخاذ موقف منهجي يتيح قلب العلاقة بين نمط النمو الوطني وبين نمط النمو السائد عالمياً، إذ إن نجاح استراتيجية رأس المال المعولم السائد يقتضي تكيف الأطراف الضعيفة في المنظومة العالمية لمطالب القوى المتحكمة على الصعيد العالمي.

أي بمعنى آخر تفرض الاحتكارات الرأسمالية الإمبريالية القائدة تكيفاً من جهة واحدة.

فُيطلب من الاقتصاد التابع إعادة الهيكلة كي تفيد تنميته عملية استعجال التراكم في الاقتصاد المركزي القائد.

هذا هو برنامج مضمون وهدف "إعادة الهيكلة" للبنك الدولي.

فُيطلب من الكونغو أن يتكيف لما يفيد الولايات المتحدة، ولا يُطلب من الولايات المتحدة إعادة هيكلة نظامها بما يفيد تنمية الكونغو! على النقيض من ذلك تسعى سياسة فك الارتباط إلى انقلاب هذه العلاقة، أي تحقيق شيء من التكيف المعكوس، تكيف الأقوى للأضعف.

أقول "شيئاً من" لأن سياسات الأطراف الضعيفة نسبياً لا تستطيع أن تفرض بشكل كلي ومطلق تحولاً جذرياً وشاملاً في هيكل الطرف الأقوى.

وباللغة الدارجة: تسعى إلى أن يقبل الطرف الأقوى الأمر الواقع، يقبل المنهج الذي يستخدمه الطرف الضعيف من أجل تكريس استقلاله وتحسين وضعه الداخلي ومكانه في المنظومة العالمية، الأمر الذي يتجلى في "تنازلات" من الطرف الأقوى.

ليس هناك إذن "فك ارتباط مطلق"، بل فك ارتباط نسبى فقط.

علماً أيضاً بأن "الاستقلال الشامل" لا وجود له في عالم مشّكل من أطراف مرتبطة بعلاقات تبادل تخلق تبعية متبادلة، ولو غير متساوية.

فظل الاتحاد السوفيتي مصدراً للمواد الخام للأسواق العالمية الرأسمالية.

وفي هذه الحدود اضطر أن يتكيف هو لمقتضيات تحكم رأس المال الإمبريالي في هذه الأسواق.

خامساً: بناء قوة سياسية وعسكرية عظمى نجح الاتحاد السوفيتي في رفع قواته المسلحة إلى مستوى قوة عظمى.

فألحق الجيش الأحمر الهزيمة بالقوات النازية، ثم استطاع بعد الحرب العالمية الثانية أن يُنهي في بضع سنوات احتكار الولايات المتحدة للأسلحة النووية والصواريخ.

خلق هذا النجاح "ثنائية عسكرية" اتسم بها النظام العالمي حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.

ولعبت هذه الثنائية العسكرية دوراً إيجابياً في ساحة السياسة الدولية، فضمنت لدول التخوم الآسيوية، والإفريقية، والعربية المشتركة في كتلة عدم الانحياز، هامشاً للتحرك المستقل دون أن تخشى عدوانًا عسكرياً من واشنطن.

فليس من الغريب إذن أن تكون واشنطن قد استفادت فوراً من سقوط الاتحاد السوفيتي لشن حروب عدوانية ضد دول جنوبية انطلاقاً من عام 1990.

لقد فرض الوجود السوفيتي السياسي في الساحة الدولية نوعاً من النظام المتعدد القطبية.

هذا ولم تسع السياسة السوفيتية إلى إنجاز أكثر من ذلك، أي حماية استقلالها، فلم ترسم لنفسها هدف "تصدير الثورة الاشتراكية" كما يحلو لوسائل الإعلام الغربية أن تكرر بلا ملل.

ظل النظام السوفيتي نظاماً مستقلاً قاوم المنظومة الرأسمالية العالمية.

وذلك سواء اعتبرناه اشتراكي الطابع أم لا.