قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2014-3-23
كرم سعيد

باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

لم يكن مفاجئا ذلك التعهد الذي قطعه أردوغان على نفسه باستئذانه في الانصراف من المشهد السياسي حال خسارة حزبه "العدالة والتنمية" الانتخابات البلدية المقرر عقدها يوم 29 مارس الجارى.

فالأرجح أن أردوغان يدرك صعوبة فشل حزبه الذي لا يزال يتمتع بتأييد قطاع معتبر من الناخبين، لكنه يدرك تماماً أنه لن يحصد الأغلبية الكاسحة في هذه الانتخابات الفارقة.

خصوصا أن اليوم وبعد ما يقرب من 12 عاماً، يتراجع زخم المسيرات المؤيدة لأردوغان والكتابة على الجدران الداعمة لحزبه، والتي كانت مع كل دورة انتخابية هي عنوان المشهد الرئيسي في أنقرة ومحيطها.

أهمية الانتخابات البلدية تعد الانتخابات البلدية القادمة هى الأهم منذ عقود في تركيا، بعد أن جرت العادة بأن تكون هذه الانتخابات أقل الانتخابات شأنًا لعدة اعتبارات: أولها أنها تجرى وسط أجواء شديدة التوتر وفي خضم جدل سياسى واسع النطاق بين حكومة أردوغان والأحزاب العلمانية.

في المقابل ثمة صراع معلن وخفي بين أردوغان وزعيم حركة "خدمة" فتح الله جولن، وكان بارزاً، هنا، إقرار البرلمان التركي على عجل مشروع قانون لغلق مدارس خاصة هى بالمئات بإدعاء إصلاح التعليم.

غير أن الحقيقة هى أن هذه الدور التعليمية تتبع حركة جولن التي وصف رئيس الوزراء أردوغان أتباعها أنهم "أسوأ من الشيعة في كذبهم ونفاقهم".

وثانية هذه الاعتبارات: تراجع التفويض الانتخابي الممنوح لأردوغان عما كان عليه وفقاً لمؤشرات استطلاعات الرأي التي كشفت عن تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية، لاسيما بعدما كشف النقاب عن تورط أردوغان وعائلته ورموز حكمه في قضايا فساد بالجملة.

وتتزامن الانتخابات البلدية مع مساعى أردوغان إلى تفصيل المشهد على مقاس طموحاته السياسية.

وقد تجسد ذلك في إصدار سلسلة من القوانين الاستفزازية، وفي مقدمتها تمرير البرلمان التركي في 6 فبراير الماضى قانون يسمح بالرقابة الشاملة على الانترنت، وكذلك تعزيز الرقابة السياسية على القضاة والمدعين، ناهيك عن سن قانون يمنح وزارة العدل السيطرة وحق الإشراف على القضاة وتعيينهم في المؤسسات القضائية وعلى رأسها المحكمة الدستورية.

ويتعلق الاعتبار الرابع بقلق الخارج، وخصوصا الاتحاد الأوروبى من التوجهات الجديدة لحكومة أردوغان التي أعدّت تعديلات قانونية متعلقة بعمل جهاز الاستخبارات، تضمنت منح عناصر الاستخبارات صلاحيات أوسع تمكنّهم من شنّ حملات أمنية متى شاءوا دون أى مساءلة أو محاسبة قانونية.

وربما يفسر هذا مطلب البرلمان الأوروبي بضرورة إرسال مراقبين إلى تركيا خلال الانتخابات البلدية، بعد ازدياد الشكوك بشأن سلامة العملية الانتخابية في ظل التوتر الحاصل هناك.

ولم يكن القلق الأوروبى هذا هو الأول من نوعه، فقد سبق وأن وبخ الاتحاد الأوروبي أنقرة عقب فض تظاهرات ميدان تقسيم بالقوة واستخدام العصا الغليظة مع المحتجين دون الاستجابة لمطالبهم، و مؤجلاً جولة جديدة من محادثات انضمامها إلى الاتحاد أربعة أشهر، قبل أن يعيد فتح الباب مجدداً معها.

خريطة القوى المشاركة تشارك عدد كبير من القوى السياسية في الانتخابات المحلية، إذ أعلنت الهيئة العليا للانتخابات التركية أنّ 25 حزبًا ستتنافس فيها.

ويتصدر سوق المنافسة الأحزاب "الأربعة الكبار"، التي تحتل النصيب الأكبر من مقاعد البرلمان، في مقدمتها حزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي يملك 320 مقعدًا في البرلمان من أصل 550 مقعدًا، يليه حزبُ الشعب الجمهوري، ثمّ حزب الحركة القوميّة التركيّة ذو التوجُّه القومي اليميني، وأخيرًا حزبُ السلام والديمقراطية الذي يصنَّف حزبًا مؤيّدًا لحقوق الأكراد.

وتتميز الانتخابات المحلية في تركيا بإفساحها مجال المنافسة للأحزاب الصغيرة والمستقلين، خصوصا وأن التشريع المحلى لا يلزمها بالحصول على عتبة تصويتية على عكس الانتخابات النيابية، حيث تحظر المادة 127 من الدستور الأحزاب التي لا تحظى بنسبة 10 في المئة من مجموع أصوات النّاخبين من دخول البرلمان، وهو ما يجعل تشكيل البرلمان التركي مقتصرًا على عدد محدود من الأحزاب يتراوح في العادة بين اثنين وأربعة أحزاب.

بيئة مغايرة لا تقف استثنائية الانتخابات البلدية عند حد خصوصية المرحلة التي تعيشها تركيا، فثمة العديد من المتغيرات التي تشهدها البيئة التي تجرى فيها العملية الانتخابية، منها غلبة العنف على الحملات الانتخابية، ويدلل على ذلك تبادل حرق المقرات الانتخابية، والترصد والاعتداء على المرشحين في سابقة هى الأولى من نوعها.

ووصل العنف ذروته باغتيال أحد مرشحي الحزب الحاكم في البلديات مطلع فبراير الماضى.

ويذكر أن هذه هي المرة الثانية التي يتم فيها استهداف مسئول سياسي، إذ قتل مسئول محلّي بحزب العمل التركي المعارض ذو الميول اليسارية في عملية مماثلة في اسطنبول قبل شهر واحد.

أيضا تصاعدت الاحتقانات الطائفية، وبدا ذلك في تظاهرات الأقليات الكردية والعلوية طوال الأسابيع التي خلت، رغم سلسلة من الإصلاحات هدفت إلى تعزيز حقوق الأقليات، ومعالجة الاستقطاب المجتمعي التي أخذت ملامحه في الازدياد.

لذلك تعرض رئيس الوزراء التركي في جولته الأوروبية مطلع يناير الماضى لانتقادات حادة من زعماء الاتحاد الأوروبى بسبب فشله في تعزيز حقوق الأقليات، لاسيما وأن الإصلاحات المجتمعية التي طرحها أردوغان ليست أكثر من طقس احتفالي يخفي أكثر مما يبدي.

خصوصا في ظل إصرار حكومة العدالة والتنمية على فرض سياسة الأمر الواقع في مواجهة أقلياتها دون الاستجابة لمطالبهم الملحة.

على صعيد ذى شأن، فقد اتسع الرتق بين رئيس الوزراء طيب أردوغان الذي يسعى إلى الهيمنة المطلقة على كل مفاصل الدولة وعدد كبير من أقرانه في الحزب، وبدا ذلك في استقالة المئات من أعضاء الحزب الحاكم سواء رداً على الشروع في مفاوضات مع الأكراد أو احتجاجاً على سلوك أردوغان في مواجهته فضائح الفساد، ونقله مئات من القيادات الأمنية إلى مواقع بديلة دون سند قانوني.

والأرجح أن هذه السوق السياسية الجديدة المعقدة والمتشابكة جعلت أردوغان غير مطمئن، فقد تراجع دعمه في الأوساط الشعبية التي تشكل العصب الحساس لقاعدته الانتخابية، إذ تشهد ولايته الأخيرة عمليات اختلاس لأموال حكومية وتسهيل استيلاء على المال العام.

الفرص والتحديات في هذا السياق العام يقف الناخبون الأتراك والمقدر عددهم بـ 52 مليون ناخب، وحتى موعد الاقتراع نهاية مارس الجارى أمام خيارين، الأول حزب أردوغان الذي يحكم البلاد منذ العام 2002، وهو الحزب الذي يتصدر تفضيلات الهيئة الناخبة حتى الآن ولكن بفارق محدود، نتيجة تشويه الصورة الذهنية للحزب.

ناهيك عن أن تركيا تراجعت في تصنيف الديمقراطية 11 مركزاً في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية.

أما الخيار الثاني فهو مرشحي أحزاب المعارضة التي وحدت صفها بعد ماراثون طويل من شد الحبل بينها أملاً في إنهاء 12 عاماً من حكم العدالة والتنمية.

المشهد العام يؤكد أن حظوظ المعارضة ربما تكون أوفر في نيل عدد كبير من المقاعد البلدية مقارنة بما كان عليه الحال في الاستحقاقات السابقة، بالنظر إلى تراجع زخم الحزب الحاكم في الشارع التركي وفي أوساط الأقليات الكردية والعلوية والتي تمثل في مجموعها ما يقرب من 30% من إجمالي السكان.

والواقع أن قسمًا كبيراً من الأصوات التي ظل يحصدها حزب أردوغان مع كل استحقاق انتخابي فيما مضى كان يأتيه صاغراً ليس عن اقتناع، وإنما لعدم وجود بديل سياسي مقنع أو أفضل ناهيك عن أن أحزاب المعارضة الرئيسية كانت تصر على النهج الإيديولوجي الذي يغفل الاهتمام بالاقتصاد والسياسة الخارجية لمصلحة البنية الفوقية التي تتعلق بالإيديولوجيا ونسق القيم والأفكار.

غير أن ثمة تطور ايجابي في ذهنية المعارضة التركية فيما يخص الاشتباك مع قضايا الواقع، وكان بارزاً، هنا، طرح حزب الشعب الجمهورى خارطة مستقبل للاقتصاد التركي الذي يشهد تراجعاً ملموساً فضلا عن دور لا تخطئه عين في مجال السياسة الخارجية، ودلل على ذلك زيارة زعيمه للقاهرة عقب عزل جماعة الإخوان أبناء عمومة أردوغان.

لكن في كل الأحوال يبقى فوز مرشحي العدالة والتنمية هذه المرة مؤكداً، ولكنه محفوف بالخوف والقلق.

فقد سجل رصيد أردوغان التقليدي تآكلاً ملحوظاً كشفته الاحتجاجات المناهضة لحكومته.

في المقابل دخل المناخ السياسي مرحلة الشحن بين الحكومة ومعارضيها بعد تصاعد الاحتجاجات في أكثر من 33 مدينة تركية قبل يومين رداً على وفاة الطفل بركين الذي أصيب قبل تسعة أشهر في احتجاجات تقسيم.

وفي الوقت الذي تشتعل فيه الساحة التركية ضد العدالة والتنمية، يصر أردوغان على توصيف ما يحدث بالمؤامرة، بل زاد الطين بلة اتهامه للطفل بركين بالإرهابي، وهو الأمر الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حتى الآن في أنقرة.

البلديات وسيناريو المستقبل تحمل الانتخابات البلدية هذه المرة استثنائية، إذ أنها ترمومتر يمكن من خلاله معرفة اتجاهات الناخب التركي في الاقتراع الرئاسي المقرر له أغسطس المقبل، والذي يسعى أردوغان إلى الفوز به، بعدما استنفذ حق الترشح لمنصب رئيس الوزراء.

لذلك يسعى أردوغان للإمساك بمفاصل المحليات على اعتبار أنها نقطة الانطلاق نحو مقعد الرئاسة الوثير في أنقرة.

وقد أستخدم في ذلك كل أدواته بدءا باستعطاف الناخب التركي، ومروراً بتسخير هياكل الدولة وأجهزتها الإعلامية لمصلحة مرشحي العدالة والتنمية وانتهاء بالتلويح بالعصا حين اتهم برنامج المعارضة بأنه سيعصف بتركيا ويزيدها انغماسا في همها الداخلي، وقد يدخل البلاد في فوضى يصعب النجاة منها.

والأرجح أن حزب العدالة والتنمية ربما يظل محتفظاً بصدارة المشهد في المحليات بحصوله على أكثرية، وليس أغلبية مطلقة.

ولاشك أن نتائج الانتخابات البلدية ستلقي أعباء إضافية على أردوغان الذي يقف في مفترق طرق، بعدما تحول إلى "رجل تركيا المعزول" خارجيا "ورئيس الوزراء المنبوذ" لدى قطاعات كبيرة في الداخل.

القصد إذا كان العدالة والتنمية لم يعد كما كان في مخيلة قطاع معتبر من الجمهور التركي، فإنه يبقى بلا أدنى شك الحزب الضرورة لدي كثيرين، ولو لفترة وجيزة، خصوصا لدى الطبقات الجديدة التي انتعش سوقها بعدما ركد طويلاً تحت وطأة الانقلابات وعدم الاستقرار وسوء الأحوال المعيشية.