قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2014-2-26
صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

26/02/2014 أبصرت الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة تمام سلام النور فى الخامس عشر من فبراير الجارى وبعد حالة من الاستعصاء والتأزم سادت الحياة السياسية اللبنانية على مدى أحد عشر شهرا ماضية منذ تقديم رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتى استقالة حكومته فى مارس 2013، وتعود حالة استعصاء التشكيل الوزارى إلى أسباب عدة منها، مواقف القوى السياسية اللبنانية المتباينة بشأن العديد من الملفات الداخلية والخارجية الإقليمية منها والدولية؛ لاسيما الارتباطات الإقليمية لتلك القوى وبالتحديد قوى 8 آذار بزعامة حزب الله وارتباطها بالمشروع الإقليمى الإيرانى، وقوى 14آذار بزعامة تيار المستقبل المتماهية مع الدور الإقليمى السعودى هذا من ناحية، وإلى مسار الأزمة السورية ممتدة الصراع على مدى ثلاثة سنوات وما تحدثه من ارتدادات على الداخل اللبنانى من ناحية ثانية، وإلى نتائج الاتفاق النووى الإيرانى مع القوى الدولية من ناحية ثالثة.

أما داخليا فتشكلت الحكومة اللبنانية فى هذا التوقيت على أساس قاعدة "8+ 8+ 8"؛ أى نسب متساوية للتمثيل الوزارى لكل من قوى 8 آذار وقوى 14 آذار والقوى الوسطية التى تم اختيارها من قبل الرئيس ميشيال سليمان ورئيس الوزراء تمام سلام ، كما اتفقت تلك التيارات أيضا على ما أسمته تدوير الحقائب الوزارية، بحيث لا تحتفظ طائفة معينة بحقيبة وزارية كانت تشغلها من قبل.

وهو ما يعنى أيضا تهيئة الأجواء استعدادا لثلاثة استحقاقات لبنانية قادمة هى الانتخابات الرئاسية فى مايو القادم، والانتخابات البرلمانية آواخر العام الجارى، وإجراء حوار وطنى جامع لكافة القوى السياسية بشأن كافة القضايا الداخلية والخارجية. فى هذا السياق يأتى تشكيل الحكومة اللبنانية معبرا عن "توافق" إقليمى غير مباشر بين المتنافسين الإقليميين إيران والسعودية وهو ما يدعو إلى التساؤل لماذا الآن ؟ خاصة إذا ما علمنا أن هذه الحكومة مستمرة فقط حتى إجراء الانتخابات الرئاسية فى مايو المقبل وبعدها تصبح تلك الحكومة حكومة تصريف أعمال ويتحدد مصيرها فى ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية الجديدة؛ وهذا يعنى أن حكومة تمام سلام ستتولى مهام رئاسة الجمهورية فى حالة عدم انتخاب رئيس جديد للبلاد حتى منتصف مايو المقبل.

لاشك أن إبداء الأطراف اللبنانية مرونة ملموسة فى تشكيل الحكومة جاء بقرار إقليمى دولى هدفه حماية الداخل اللبنانى من تداعيات الأزمة السورية المنخرط فيها وبقوة حزب الله، وانتظارا لما ستسفر عنه الجولات المتعددة لجنيف -2، وتماشيا مع الاتفاق النووى الإيرانى الغربى، ومرتبطا بسياق المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريرى فى فبراير 2005، والتى بدأت فعاليتها فى منتصف يناير الماضى.

التشكيل الحكومى الجديد يعيد خريطة العلاقات السياسية فى لبنان إلى نقطة التوازن مرة أخرى والتى شهدت اختلالا واضحا منذ عام 2011 بخروج قوى 14 آذار من معادلة التشكيل الحكومى كلية لصالح قوى 8 آذار ، ومن ثم فإن عودة تيار 14 آذار بزعامة تيار المستقبل للسلطة فى حكومة تمام سلام الجديدة وبمشاركة ثمانية وزراء - وهو ما لم يكن موجودا فى حكومة ميقاتى التى كانت تعتبرها قوى 14 آذار متماهية مع توجهات قوى 8 آذار وارتباطاتها الاقليمية سواء بإيران أو بالنظام السورى – تمثل عودة لها دلالاتها الداخلية المرتبطة بدلالات إقليمية يمكن رصد بعضها كالتالى : أولا، ثبت فشل حكومة ميقاتى السابقة التى كان تشكيلها يعد انقلابا واضحا على سياسات حكومة 14 آذار برئاسة سعد الحريرى التى سبقت حكومة ميقاتى لاسيما الفشل فى الجوانب الأمنية وعودة التفجيرات ذات الطابع السياسى للشارع اللبنانى مرة أخرى ونتائجها الخطيرة على حالة الاستقرار الأمنى والسياسى، ناهيك عن نزوح حوالى مليون لاجئ سورى إلى الآراضى اللبنانية وما يحدثه من ضغوط اقتصادية واجتماعية على الداخل فشلت الحكومة السابقة فى حماية المجتمع اللبنانى من آثارها السلبية.

ثانيا، إن التشكيل الحكومى الجديد لم يعد يعكس تأثير النفوذ الإيرانى السورى كما كان عليه الوضع طوال السنوات الثلاثة الماضية، بل على العكس بدا حضور التأثير السعودى قويا هذه المرة لاسيما أن حلحلة موقف تيار المستقبل بشأن حقيبة الداخلية جاء بعد التقاء رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريرى بالعاهل السعودى عبد الله فى الرياض فى الرابع عشر من فبراير الجارى، وبعد تصريحات الحريرى بشأن تشكيل الوزارة والذى أوضح فيها رؤية تيار المستقبل فى درأ أسباب الفتنة بين القوى السياسية اللبنانية وفى الإصرار على الوصول بلبنان إلى موعد الاستحقاق الرئاسى فى موعده.

هذه المرونة التى أبدتها بدورها قوى 14 آذار وتيار المستقبل بشأن الحكومة تعنى أنها قرأت جيدا بعض تطورات المشهد الإقليمى؛ فإيران لم تشارك فى الجولة الأولى من مؤتمر جنيف -2، ولم يتم دعوتها للجولة الثانية منه، ولا تزال تخضع لاختبار حسن نوايا بشأن اتفاقها النووى مع الغرب فأرادت قوى 14 آذار الاستفادة من هذه المعطيات الإقليمية التى تأتى فى غير صالح قوى 8 آذار فى وضعهم والحليفة إيران أمام اختبار إقليمى فى لبنان، ويبدو أن إيران قد استوعبت الرسالة وفهمت أيضا أن الاعتراف الضمنى الدولى بمشروعها الإقليمى فى المنطقة يفرض عليها تسويات محددة بعينها، وبأن عليها حلحلة بعض مواقفها فى الملفات الإقليمية فى لبنان على سبيل المثال من أجل استكمال مسيرة بناء علاقات التوافق الدولية الجديدة معها خلال السنوات القادمة.

ثالثا، إن الصيغة التوافقية التى تم على أساسها تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة استهدفت حصر الخلافات فى وجهات النظر بين القوى السياسية دون أن يكون لأى منها الثلث المعطل وهو الثلث الذى خُصص لقوى 8 آذار منذ اتفاق الدوحة فى عام 2008 تعويضا لها عن انسحاب حليفها النظام السورى من لبنان فى أعقاب اغتيال رفيق الحريرى فى 2005، تجريد 8 آذار من أحقية الثلث المعطل سيساهم فى تخفيف حالة الاحتقان فى الشارع اللبنانى لأنه لن يكون بمقدورها التحكم فى عملية إسقاط أو إبقاء أى حكومة قادمة، هذه التوازنات الحكومية الجديدة بصورة أو بأخرى ارتبطت بالحسابات الإقليمية خاصة تلك المتعلقة بالأزمة السورية وبانحسار تأثير النظام السورى فى التدخل اللبنانى حاليا، ما دفع طرفى المعادلة السياسية الداخلية قوى 8 آذار وقوى 14 آذار إلى تقديم قدر لا بأس به من التنازلات؛ الأولى "اضطرت" إلى التنازل عن أحقيتها فى الثلث المعطل والثانية تراجعت عن شرط انسحاب حزب الله من سوريا كشرط مسبق لعودتها إلى المشاركة فى المعادلة الحكومية مع استمرار إدانتها التدخل هناك، ويمكن ترجمة هذه التنازلات إلى ممارسة القوى الدولية قدرا كبيرا من الضغوط على الطرفين لتوفير إدارة حكومية حالية قادرة على استيعاب أولا الارتدادات الأمنية والاقتصادية للأزمة السورية وثانيا تلقى المساعدات العسكرية السعودية الضخمة التى قدرت بحوالى 3 مليار دولار للحيلولة دون تحول لبنان إلى صراع مسلح بين طوائفها وقواها السياسية على خلفية الأحداث فى سوريا، وكذلك استعداد لما سينتج عن الجولات المتتالية لمؤتمر جنيف -2 بشأن تشكيل الحكومة الانتقالية فى سوريا.

رابعا، حالة الانفتاح الغربى على إيران فى ضوء الاتفاق النووى معها ساهم بدوره فى الدفع باتجاه "انقاذ" لبنان من نيران الوضع فى سوريا سياسيا وميدانيا؛ وتنازل حزب الله وحلفائه فى 8 آذار عن حق الفيتو - الثلث المعطل- يعنى أن طهران ترسل برسائل تطمين وتهدئة وحسن نوايا لكافة القوى الدولية والإقليمية بأنها قادرة على إعادة توجيه حليفها حزب الله داخل نسق التفاعلات فى لبنان بما يساهم فى حلحلة أزمات تلك الدولة، بل الذهاب إلى أبعد من ذلك بخلق حالة من التفاهمات والتقاربات اللبنانية الداخلية لأول مرة منذ عام 2008 كالتقارب بين كل من تيار المستقبل وبالتحديد بين سعد الحريرى وبين رئيس البرلمان نبيه برى، وبين التيار نفسه والعماد ميشيل عون.

وأخيرا، فإن تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة بعد تعثر دام أحد عشر شهرا بالتوافق بين القوى السياسية المتباين مواقفها داخليا وإقليميا يعد تعبيرا عن حالة توافق غير مباشر بين القوى الإقليمية لاسيما إيران والسعودية بالكيفية التى سبق عرضها، وهو توافق عنوانه الرئيسى منع سقوط لبنان فى فوضى المواجهة المسلحة على وقع التطورات الإقليمية فى المنطقة عامة وفى سوريا خاصة.

وترجمة لتوجه دولى إقليمى "قد" يحمل تسويات جديدة متوقعة فى العديد من الملفات الأخرى، وربما تكون التسوية الإقليمية الكبرى المنتظرة بشأن الوضع فى سوريا هو أحداها، ما يعنى أن التوافق السعودى الإيرانى غير المباشر فى لبنان حاليا قد يكون مفتاحا لمزيد من التسويات التى ستبدى طهران فيها مرونة متوقعة وتبدى السعودية فيها تنازلات ولو بحدود مدروسة من كلا الطرفين.