صافيناز محمد أحمد
خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
27/11/2013
شهدت منطقة "كردستان" التى تعد من أهم مناطق التماس الإقليمية بين سوريا والعراق وتركيا منتصف نوفمبر الجارى تغيرا "إقليميا" نوعيا قد يكون له تداعياته المستقبلية السياسية والأمنية لاسيما على الجانبين التركى والعراقى.
ويرجع هذا التغير النوعى إلى تطورين مهمين؛ التطور الأول ارتبط بسماح حكومة المعارضة الانتقالية السورية الجديدة برئاسة أحمد الطعمة - التى شكلها الائتلاف السورى المعارض فى اسطنبول يوم 10 نوفمبر الجارى - بتشكيل مجلس غرب كردستان ( كردستان سوريا ) وتوليه مهام إدارة المناطق الكردية المحررة فى شمال وشمال شرق سوريا، بانعكاسات ذلك الإقليمية على الدول المجاورة ذات الامتدادات الكردية أي العراق وتركيا.
أما التطور الثانى المرتبط من حيث نتائجه بالتطور الأول فيتمثل في الزيارة التاريخية التي قام بها مسعود برازانى زعيم إقليم كردستان العراق، المتمتع بالحكم الذاتى، لتركيا وإصرار رئيس الوزراء التركى رجب أردوغان على استقباله فى مدينة ديار بكر الكردية.
وتحمل هذه المدينة دلالات "رمزية" لأكراد تركيا، وارتباط ذلك أيضا بعلاقة الحكومة التركية بحزب العمال الكردستانى التركى المعارض من ناحية، وبتطور العلاقات التركية الكردية سواء بإقليم كردستان العراق أو بأكراد سوريا الذين يتمتعون حاليا بإدارة شبه ذاتية لمناطقهم الكردية من ناحية ثانية.
وفيما يتعلق بالتطور الأول؛ جاء منح الحكومة السورية المعارضة حق إدارة المناطق ذات الغالبية الكردية فى المدن الخارجة عن سيطرة النظام لمجلس إدارة كردى كخطوة جديدة على طريق منح أكراد سوريا حكما ذاتيا على غرار نظرائهم فى العراق.
حيث تم فى مدينة القامشلى يوم 13 نوفمبر الجارى تشكيل مجلس لإدارة المدن الكردية فى غرب كردستان مكون من 82 عضوا يمثلون عددا من الأحزاب والتنظيمات الكردية العاملة فى تلك المناطق وهى: حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى، الحزب اليسارى الكردى، حزب اليسار الديمقراطى، الاتحاد السريانى الأشورى، المنظة الأشورية الديمقراطية.
وجاء تشكيل المجلس ترجمة لواقع توازنات القوى على الأرض؛ حيث تخضع المناطق ذات الغالبية الكردية فى شمال وشمال شرق سوريا منذ عام ونصف العام تقريبا لإشراف قوات حماية الشعب وهى ميليشيات عسكرية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطى الكردى أكبر الأحزاب الكردية السورية ولإدارة مجلس غرب كردستان الذى سيكون له بمقتضى اتفاق القامشلى حق إدارة ثلاث مناطق كردية سورية يكون لكل منطقة مجلس محلى يتولى إدارة شئونها على أن يكون لها ممثلون فى المجلس الإقليمى الكردى العام.
ويتولى هذا المجلس مهام الإعداد للانتخابات العامة فى مناطق غرب كردستان - أى كردستان سوريا - التى ستجرى خلال ثلاثة أشهر ووضع قوانين الانتخابات المحلية وإقرار القوانين الخاصة بتسيير شئون المنطقة المعنية.
هذا إضافة إلى انتخاب هيئة مركزية تنفيذية للمجلس المذكور يتراوح عددها من 12 - 15 عضوا يتولون مهام وزارات التموين والصحة والعدل والثقافة فى الإقليم إلى حين انتهاء الأزمة.
ويقف وراء "توقيت" تشكيل مجلس غرب كردستان لإدارة المناطق الكردية السورية التساؤل مجموعة من الدوافع "الآنية" يمكن تلخيصها فى النقاط التالية: الدافع الأول، يتعلق بالنظام الداخلى الخاص بعمل الائتلاف السورى المعارض والذى يضم 11 عضوا من المجلس الكردى الوطنى والذي طالب بتشكيل "هيئة تنفيذية" تتولى إدارة المناطق المحررة والبعيدة عن سيطرة النظام السورى، وتكون حلقة اتصال بين مقاتلى تلك المناطق وبين مصادر التمويل التى تقدمها الدول الراعية للمعارضة السورية لاسيما السعودية وقطر وتركيا لضمان صرف تلك المساعدات فى مجالاتها الصحيحة.
الدافع الثاني، يتعلق بوجود مصلحة عليا للدول الراعية للمعارضة السورية فى مواجهة العناصر الجهادية المتشددة فى المناطق المحررة، لاسيما وأن تلك المناطق ومنها المناطق الكردية شهدت مواجهات عنيفة بين الجماعات المتشددة (تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام وجبهة النصرة ) وبين ميليشيات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطى الكردى على إثر محاولات تلك الجماعات فرض نوعا من الإدارة تحت مسميات تطبيق الشريعة الإسلامية.
لذا فإن تشكيل مجلس غرب كردستان ربما استهدف فى أحد أبعاده مواجهة المتشددين فى تلك المناطق، هذا بالإضافة إلى أن مواجهة حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى للجماعات المتشددة كانت له أهدافا جوهرية تتعلق بالحفاظ على الهوية الكردية لمنطقة غرب كردستان.
أى أنه كانت هناك حسابات كردية خالصة ترتبط بمحاولة أكراد سوريا تأكيد حقوقهم السياسية والثقافية وإبراز أن وضعهم بعد اندلاع الأزمة السورية يختلف تماما عن وضعهم قبلها، وهو ما يتمثل في السعي لتحقيق تطلعات سبقهم إليها أكراد العراق ويأملها أكراد تركيا.
أما الدافع الثالث، فيتعلق باستباق المعارضة مؤتمر جنيف -2 باتخاذها خطوات فعلية على أرض الواقع عبر خلق أداة تنفيذية للحكومة فى شمال وشمال شرق سوريا تتولى الإدارة المدنية للأوضاع المعيشية بالغة الصعوبة للسوريين فى تلك المناطق وتواجه فى الوقت نفسه المتشددين هناك.
وقد حدث ذلك على الرغم من عدم ترحيب تركيا التى ترعى المعارضة الموجودة على أرضها، لأن حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السورى يتماهى تماما مع حزب العمال الكردستانى التركى المعارض، ما يعنى أن أكراد سوريا مقابل مواجهتهم للعناصر الجهادية فى شمال البلاد يسعون لعدم الخروج خاليين الوفاض من التسوية السياسية المحتملة للصراع.
فى إطار ما سبق يمكن تفسير التطور الثانى والمتمثل في استقبال رئيس الوزراء التركى رجب أردوغان لمسعود برازانى زعيم إقليم كردستان العراق استقبالا حافلا فى مدينة ديار بكر جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية فى 16 نوفمبر الجارى؛ أى بعد أسبوع واحد فقط من إعلان تولى أكراد سوريا إدارة مناطقهم إدارة ذاتية.
فزيارة تلك المدينة ذات البعد الرمزي المهم لأكراد تركيا تحمل العديد من الدلالات بعضها يتعلق بالعلاقة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستانى المعارض ومسار المصالحة بينهما الذى بدأ فى مارس 2012 ويشهد حاليا أنسدادا واضحا فى عملية اتمامه، وبعضها الآخر يتعلق بالتطور فى المشهد الكردى السورى من ناحية وفى العلاقات الكردية- الكردية فى منطقة كردستان بصفة عامة من ناحية أخرى.
فيبدو من قراءة المشهد الكردى التركى أن العلاقة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستانى التى تعانى انسدادا واضحا رغم مبادرة المصالحة بين الطرفين لازالت فى حاجة إلى دفعة كردية لمسارها أرتأى أردوغان - المقبل حزبه على استحقاقات انتخابية بلدية ورئاسية - قيام الزعيم الكردى العراقى مسعود برازانى بها لما يتمتع به من ثقل سياسى وشعبى كبير داخل الأوساط الكردية سواء فى الإقليم الكردى نفسه أو داخل تركيا.
أي أن أحد أبعاد زيارة برازانى لديار بكر هو "إنقاذ" المصالحة التركية الكردية؛ حيث الحصول على أصوات النواب الأكراد فى البرلمان وعددهم لا يقل عن 20 نائبا لتعديلات دستورية يرغب فيها لتغيير طبيعة النظام السياسى وتحويله من نظام برلمانى لنظام رئاسى، ويعنى أيضا ضمان أصوات الكتلة التصويتية الكردية وعددها حوالى 3 مليون ناخب لهم حق التصويت من إجمالى 15 مليون نسمة هم عدد الأكراد الأتراك سواء فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية المرجوة أو فى الانتخابات الرئاسية القادمة.
ومن جانب آخر وفى إطار الحدث السورى ستشهد عملية السلام بين أنقرة ومتمردى حزب العمال الكردستانى المعارض قدرا لا بأس به من التداعيات وسيكون أردوغان مجبرا على إعادة دراسة حساباته مع الحزب ومع مسار المصالحة بينهما؛ لأن تمتع أكراد سوريا بنوع من الإدارة الذاتية لمناطقهم التى تتاخم الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا ستعتبره أنقرة مسا مباشرا بأمنها القومى، وهو ما سيفرض عليها مواجهته بكافة الوسائل الأمنية والسياسية؛ لأنه ببساطة سيفتح المجال أمام أكراد تركيا لتطوير مطالبهم للحكومة التركية من مجرد الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية وبهويتهم فى الدستور إلى المطالبة بحكم ذاتى على غرار نظرائهم سواء فى كردستان العراق أو كردستان سوريا وهو ما يدركه أردوغان جيدا.
وترتبط النقطة السابقة مباشرة بطبيعة الخلافات الكردية نفسها فى منطقة الشرق الأوسط؛ حيث الخلاف على الزعامة الكردية ما بين زعيم كردستان العراق مسعود برازانى وعبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستانى التركى المعارض المعتقل فى السجون التركية، ناهيك عن الخلاف فى وجهات النظر بين برازانى وأكراد سوريا؛ حيث يرفض برازانى ما قام به حزب الاتحاد الديمقراطى السورى من إعلان إدارة ذاتية لأكراد سوريا.
إذ إن تطورات الأوضاع فى شمال شرق سوريا ( جنوب شرق تركيا ) بإعلان مجلس إدارة غرب كردستان يصب فى صالح عبدالله أوجلان الخصم التقليدى لبرازانى؛ حيث يرى أوجلان فى استقلال أكراد سوريا بحكم ذاتى تدعيم لفرص زعامة حزبه لإقليم غرب كردستان كله فى مواجهة زعامة برازانى لشرق كردستان ( كردستان العراق).
ويرى أوجلان أيضا الذى يتماهى حزبه مع حزب الاتحاد الكردى السورى أن حكما ذاتيا لأكراد سوريا بإمكانه خلق وجود كردى "سورى تركى" خاضع لنفوذ حزب العمال الكردستانى فقط؛ أى لا يخضع لسيطرة أى قوة كردية أخرى كبرازانى العراق ولا يخضع فى الوقت نفسه لسيطرة الحكومة التركية.
ويصب هذا الخلاف الكردى - الكردى فى صالح الحكومة التركية، بل ويفسح المجال أمام تركيا لتلعب لعبتها الكردية الإقليمية فى مواجهة أوجلان عن طريق استقطاب برازانى واستغلال تاريخ التنافس بين الرجلين على زعامة الأكراد، والتأكيد عبر استقبال برازانى فى ديار بكر إلى أن زعامة الكرد فى الإقليم الكردى كله بما فيهم أكراد تركيا لبرازانى وليس لأوجلان الخصم المشترك لكل من الحكومة التركية ولبرازانى نفسه.
مما سبق يتضح أن الأكراد فى العراق وتركيا وسوريا تحولوا بفعل المتغيرات التى تشهدها المنطقة، وبالتحديد المتغيرات الناتجة عن تداعيات الأزمة السورية، من مجرد ورقة مصالح وضغط تستخدمها القوى الإقليمية الثلاثة المذكورة فى العلاقة بينهم، إلى لاعب إقليمى فعلى قادر على أرباك العلاقات فى المنطقة.
كما أن هذا اللاعب قادر أيضا على تدشين مرحلة من التعاون بينهم، ما يعنى أن قواعد اللعبة الإقليمية فى المنطقة الكردية قد تغيرت مما يضعها أمام اختبارات صعبة قادمة كلما طال أمد الصراع فى سوريا.