د. معتز سلامة

خبير - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 ثالثاً: مستقبل العلاقات المصرية الخليجية..

فرص جديدة: يتضح مما سبق أن خطوة الجيش والثورة المصرية الثانية في 30 يونيو أديتا إلى ترابط جيوبوليتيكي كبير بين الخليج ومصر، فالتطورات في مصر ستكون ذات صدى وتأثير هائل في مستقبل الخليج، وهو ما يجعل نجاح مصر المدنية نجاحا للخليج وفشلها بالغ التأثير في مستقبله.

وسيكون الائتلاف الإقليمي الجديد هو بين الخليج والتيار المدني في مصر (بكل أطيافه الليبرالي واليساري واليميني والناصري).

وهناك ما يشبه تشابك واشتباك في المسرح الاستراتيجي بين مصر والخليج.

ويتضح أن الوضع الداخلي في مصر سيكون هو العامل الحاسم في مستقبل علاقات مصر بدول الخليج، وهو ما يشير إلى أكبر تغيير في معادلة العلاقات بين الجانبين، مع ترجيح دور العامل الداخلي لأحد أطراف المعادلة في تحديد طبيعة العلاقات.

لقد أصبحت دول الخليج طرفا رئيسيا في الشأن الداخلي المصري بعد إقدامها علانية على مساندة قرار المؤسسة العسكرية ودعمها النظام الجديد بعد 30 يونيو، ولا فرق في ذلك الآن بين دعم الإمارات والسعودية والكويت للثورة الجديدة، ودعم قطر لثورة 25 يناير ولحكم الإخوان.

وهكذا أدى حكم الإخوان إلى أن يتكرس وضعية الأمن القومي المصري كجزء من معادلات الأمن الخليجي، ودخول الوضع الداخلي في مصر ضمن معادلات أمن الخليج.

وعلى خلاف فترة الإخوان التي هددت بإقامة علاقة شراكة بالولايات المتحدة، تنافس المكانة الخاصة لدول الخليج وتمثل قلب التحالف الأمريكي الجديد في المنطقة، فإن سقوط حكم الإخوان يؤسس لبروز تحالف إقليمي بين مصر والخليج بمعزل عن القوة الأمريكية، ويوازن تراجع الثقة في التحالف الأمريكي مع دول الخليج والتحالف الأمريكي مع مصر، ومن شأن ذلك تجسير الثقة بين مصر ودول الخليج بعد سنوات من الشكوك (في الستينيات) لم تنهها عقود من إجراءات بناء الثقة (في الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة)، ويقوم التحالف المصري الخليجي الجديد على أسس من الثقة التي تؤكدها تجربة الإخوان التي "أعادت الاكتشاف الاستراتيجي" بين الخليج ومصر.

فلقد طرحت الثورات شكوكا حادة لدى الخليجيين إزاء الحليف الأمريكي، حينما فوجئوا بمواقفه المؤيدة للتغيير ولم يتردد في تأييد الإطاحة بحليفه حسني مبارك.

وهذه التجربة صدمت الخليج في الولايات المتحدة، ولم يرغب الخليجيون في الوقوف كثيرا عند ذلك والمعاتبة الواسعة للحليف الأمريكي، لكنهم استوعبوا الدرس جيدا، وعملوا على التصدي له بأسلوبهم الخاص، وفقد وقفوا ما يقرب من ثلاث سنوات في حالة فتور إزاء النظام الجديد في مصر رغم دعم الأمريكان له.

ولم يترددوا في تقديم الدعم بعد 30 يونيو رغم التردد الأمريكي، ويمكن القول أن موقف دول الخليج في تقديم الدعم لمصر كان أكثر ما ضغط على الأمريكيين في تعديل سياستهم بشأن مصر بعد 30 يونيو وهو ما دفعهم إلى إقرار استمرار تدفق المعونة، حينما أدركوا ضآلة القيمة المادية للمساعدة التي يقدمونها قبالة ما تسلمته مصر من دعم خليجي.

الأمر نفسه فيما يتعلق بمصر بعد 30 يونيو، فقد كان الموقف الأمريكي من الأحداث في البداية أميل إلى موقف الإخوان، وتكشف وقائع المحادثات بين قيادات الإخوان والسفيرة الأمريكية عن انخراط واضح من الإدارة في الشؤون الداخلية لمصر بشكل كبير، يشير إلى تجاوز حدود التعامل بين الدول.

وقد عبر عن ازدياد السخط على الولايات المتحدة كم الشعارات والهتافات ضدها في الميادين واللافتات الكبيرة في ميدان التحرير التي وجهت إهانات للرئيس أوباما وللسفيرة آن باترسون.

ولم يكن ما أعلن عنه مؤخرا من بدء حملة شعبية تهدف إلى جمع توقعيات من المواطنين، لتفويض الرئيس عدلى منصور بإصدار قرار جمهورى بتأميم الشركات الأمريكية بمصر لتصبح شركات مساهمة مصرية وتجميد أموالها إلا مؤشرا على ذلك.

وعلى الرغم من أنه من الأرجح ألا يتخذ قرار من هذا القبيل بغض النظر عن التوقيعات، إلا أن ذلك يشير إلى تزايد حجم الشكوك التي أحاطت بالموقف الأمريكي في مصر في الأشهر الأخيرة.

هكذا تقف العلاقات المصرية الخليجية أمام فرصة جديدة لبناء تحالف من نوع جديد، لا تدفع إليها الرغبات فقط، وإنما المصالح والظروف المهيئة، والتي تقوم على أرضية مشتركة من ضعف الثقة بالحليف الأمريكي، ولا تزال لكل من الخليج ومصر علاقاته وحاجاته للولايات المتحدة، لكن الاستياء منها بلغ القدر الذي يدفع إلى ضرورة بناء علاقات بينية في بعض النواحي للتعويض عن تراجع الروابط الخاصة لكل منهما معها.

ويقوم الائتلاف المصري الخليجي الجديد في المنطقة على مناهضة اتجاه العنف المحتمل من جانب الإخوان ومناهضة الموقف الأمريكي، وهي فرصة لمصر والخليج معا.

ويظل الخيار المفضل لدول الخليج في مصر عودة الدولة الوطنية المحكومة بقبضة من سلطة قوية تضبط تفاعلات الداخل حتى لا تؤثر على الإقليم المجاور.

ولكن لإدراك أن هذا الوضع يصعب تحققه، فإن من المرجح أن تعمل دول الخليج على تأييد بديل واقعي.

بالتأكيد لن تنظر دول الخليج بعين الارتياح إلى العنف وتدهور الأوضاع في مصر، خصوصا لما يمثله استقرارها من قيمة أساسية للخليج -وفي ضوء الإدراك الخليجي الجديد للحليف الأمريكي-، ولكن عدم الاستقرار في مصر هو أمر وفقا للرؤية الخليجية يكرس معاني سلبية الثورات في المنطقة العربية، وهو أمر يصب في مصلحة أنظمة الخليج.

وإزاء هذا الوضع الإشكالي لدول الخليج في مصر، من المرجح أن تعمل هذه الدول على استراتيجية من أربعة أركان على النحو التالي: أولا: التأكد من عدم تكرار تجربة حكم الإخوان: كان حكم الإخوان لمصر بمثابة كابوس لدول الخليج، لذلك ظلت على مدى العام الماضي تدير علاقاتها مع مصر بمنطق أقل الخسائر والاحتفاظ بالأصول؛ فلم تصرح بامتعاضها من حكم الجماعة، وتحاشت أي تصريح يفيد بذلك.

وعلى الرغم من الاشتباكات والإساءات اللفظية بين قائد عام شرطة دبي وبعض قادة الإخوان، فإن أحدا من دوائر الحكم والسياسة في الإمارات لم يتورط في أي تصريح ضد مصر أو حتى ضد المسؤولين من الإخوان.

وعلى النهج نفسه أيضا سارت المملكة السعودية فلا نجد أي تصريح من أي مسؤول بها يحمل أي إساءة لمصر على مدى العام الفائت، وقد بدا البلدان كأنهما تركا مصر إلى تفاعلاتها الخاصة، وهو موقف اتسم بأعلى قدر من الحكمة.

ولكن من خلال التصريحات السعودية والإماراتية بعد 30 يونيو يمكن اكتشاف مدى الإحساس بإزاحة ثقل كبير جثم على صدر الخليج خلال هذه السنة.

ولم يشأ كل من الملك عبد الله بن عبد العزيز أو الشيخ خليفة بن زايد أن يخفيا ذلك، فكانا صريحين في رسالتيهما لتهنئة الرئيس عدلي منصور، واللتان كانتا في اليوم التالي لعزل مرسي مباشرة، فاعتبر الملك عبد الله أن: "رجال القوات المسلحة أخرجوا مصر من نفق يعلم الله أبعاده وتداعياته".

أما الشيخ خليفة فأكد متابعته: "بكل تقدير وارتياح الإجماع الوطني الذي تشهده بلادكم الشقيقة والذي كان له الأثر البارز في خروج مصر من الأزمة".

وسوف تتحسب دول المجلس جيدا لمسار مصر الجديد، ومساحة الإخوان في معادلة الحكم الجديدة، ورؤية الدولة في معالجتها لمشكلة الإخوان، بالتأكيد لا تفضل دول الخليج مسار العنف، ولكن مواجهة الدولة المصرية مع الإخوان الآن أفضل لهم من رؤية تكرار تجربة الإخوان ثانية.

فمن شأن تكرار التجربة أن تسفر عن علاقات يسودها العداء الفعلي، فبالنسبة للإخوان فإنهم لن ينسوا دور دول المجلس في إجهاض حكمهم، وفي أنها كانت أول من اعترف بوضع الحكم الجديد الذي أطاح بهم من السلطة.

ومن ثم فإن عودة الإخوان معناها الدخول في حقبة من الصراع المفتوح والمعلن بعدما كان صراعا مبطنا ومتسترا بالأقنعة.

ثانيا: وجود المؤسسة العسكرية في القرار المصري: كان حضور الجيش في السياسة أحد أهم ركائز استقرار الدولة المصرية رغم الهزات العنيفة منذ ثورة 25 يناير، ويمثل الوجود القوي للجيش في المعادلة السياسية أحد البواعث على طمأنة دول الخليج بخصوص مصر، فما عليه رجال المؤسسة العسكرية من استقامة وانضباط هو أمر يجعل هذه المؤسسة محل ثقة خليجية في ظل واقع مصري مضطرب، وهو أمر لم يعتد صانع القرار الخليجي على التعامل معه، حيث اعتاد التعامل مع صانع قرار مركزي وحيد في مصر.

كما أن موقف المؤسسة المنضبط في التعامل مع الرئيس مبارك، وخلال فترة حكم مرسي، هو أحد الأمور التي عززت مكانة المؤسسة العسكرية المصرية وسمعتها كمؤسسة وطنية احترافية.

وفي هذا السياق، سوف تظل دول الخليج تفضل ضمان بقاء الجيش في المعادلة على الأقل إلى أن تستقر صيغة الحكم المدني في مصر، وإلى أن تستقر الأوضاع السياسية على نحو يضبط إيقاع التفاعلات الداخلية، ويحول دون تأثيرها في الإقليم المجاور.

ويرتبط بذلك أنه لفترة مقبلة ستظل إدارة العلاقات المصرية الخليجية بالأساس من اختصاص جهات الأمن القومي المصرية بالأساس.

وسوف تظل دول المجلس تسعى للاطمئنان من أن ما تضخه من أموال في مصر يمر عبر قنوات موثوق بها ويحقق الأهداف.

لقد كان مصدر الخوف الأساسي في الخليج من اندماج الحكم الإسلامي بالمؤسسة العسكرية، وتبديل نهجها الاحترافي بنهج يخدم أيديولوجيا إسلامية، مع تغيير عقيدة الجيش الخاصة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

كان الخوف الخليجي من توافق الأيديولوجيا الدينية مع العقيدة العسكرية ليؤلفا تشكيلة أخطار جديدة.

وهو خطر كان من الممكن حدوثه في حالة تولي الإخوان الحكم وتمكنهم من اختراق المؤسسة وصبغ العقيدة العسكرية للمؤسسة بالأيديولوجيا الإسلامية.

ثالثا: تقليص حجم التيار الليبرالي في معادلة الحكم الجديدة: أو على الأقل تقليص قدرة هذا التيار على التواصل مع الوضع الداخلي بالخليج.

فعلى الرغم من أن القوى المدنية والليبرالية ليست بخطورة الإخوان المسلمين على دول الخليج، إلا أن هذه القوى ليست خالية من الأخطار والتهديدات تماما.

إن علاقة دول الخليج بالتيار المدني في مصر لم تختبر، على خلاف التيار الإسلامي متمثلا في الإخوان أو القومي متمثلا في عبد الناصر، فالتيار الليبرالي هو الوحيد الذي لم يحكم في مصر منذ ثورة 23 يوليو.

وذلك يجعل علاقته بالخليج محاطة بقدر من الغموض، هناك قدر من التوافق وعناصر التشابه بين الخليج والتيار الليبرالي في مصر؛ فدول الخليج قائمة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية على أسس منفتحة وليبرالية إلى حد كبير، ويجمعها بالتيار الليبرالي علاقاتها الوثيقة مع الغرب والولايات المتحدة والتوجه الرأسمالي، كما أن ضعف التيار الليبرالي وضعف قواه التنظيمية، ووجود العديد من العثرات أمامه من جانب التيارين القومي والإسلامي، يقلص من قدرته على طرح أخطار أو تهديدات على الخليج.

وبحكم طبيعة الجيوش وعقيدتها فإنه من المفترض أن لا يؤدي تولي التيار الليبرالي إلى تهديد دول الخليج، لأنه يؤمن بالوضعية الاحترافية للمؤسسة العسكرية والقناعات الخاصة بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، كما أنه يؤمن بقدسية الأوطان والحدود.

ولكن يبقى أنه من شأن تولي التيار الليبرالي الحكم في مصر أن يطرح خطرين أساسيين، هما: الأوضاع الخاصة بحقوق الإنسان في دول الخليج وربما رفع مطالبات إقليمية بها، وثانيا بناء دولة نموذج للديمقراطية الإقليمية ترفع من سقف المطالب الداخلية بالخليج.

ولكن يحجم من ذلك طبيعة الوضع الداخلي في مصر، وطبيعة التوليفات والتركيبات المدنية التي لن تجعل التيار الليبرالي في مكانة مماثلة لوضعية الإخوان.

كما أن وجود التيار القومي في المعادلة يوازن الكفة مع الليبراليين، وعلى أثر سقوط حكم الإخوان تقارب التيار القومي مع الخليج سواء فيما يتعلق بتقديره التاريخي لدور المؤسسة العسكرية أو فيما يتعلق بتجربة حكم الإخوان.

فقد أدى فشل تجربة الإخوان وتهديدها للخليج إلى التقريب بين القوميين ودول مجلس التعاون الخليجي.

رابعاً: توليفة حكم مدني/ ديني/ عسكري: على الرغم من وجود تفضيلات خليجية بين الحالات الثلاث السابقة، وإذا كانت عودة الدولة السلطوية المركزية بالنسخة السابقة صعبة، وإذا كانت عودة حكم الإخوان غير مرغوبة أو ممكنة، وإذا كان الحكم العسكري الصارخ لن يحظى بالرضا في مصر الجديدة، وإذا كان الحكم الليبرالي المطلق غير محتمل، فإن التطور على أرض الواقع في مصر يجعل الأكثر تفضيلا لدول الخليج، هو توليفة نموذج للحكم تجمع بين الطيف المدني، والطيف الديني، والطيف العسكري، على أن تكون رأس الحربة فيها العسكر، أو على الأقل تكون علاقات دول الخليج في سياقها بمصر مضمونة بإطار يضمنه الجيش.

وفي كل الأحوال سوف تظل دول الخليج لفترة تتعامل مع مصر بقدر من الترقب؛ فهي لن ترمي بثقلها خلف أي نظام، أو تثق في نظام، لا ترضى عنه المؤسسة العسكرية.