قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2013-6-25
25/06/2013 لم يدر بخلد أحد ممن دعوا إلى استلهام نموذج أمريكا اللاتينية، واقتفاء أثره أن الطريق ستطول أمامها، وأن دولة الرفاهية التى صنعها جيل اليسار الديمقراطى تقف على المحك. فعلى مدار السنوات العشر التى خلت ظلت نجاحات دول القارة اللاتينية، وفى مقدمتها البرازيل والأرجنتين والاكوادور حلم يراود قطاع واسع من العرب، لا سيما وأنها تحتل مراكز متقدمة بين اقتصاديات العالم الكبرى ناهيك عن أن معدل النمو الاقتصادى فى هذه الدول يعتبر من أعلى المعدلات ويتخطى شريحة معتبرة من الدول الأوروبية. غير أن ثمة توترات اجتماعية وسياسية، ناهيك عن تراجع معدلات النمو منذ العام الماضى التي وضعت القارة موضع الاختبار مع شعوبها التى ضاقت ذرعاً باستمرار تفشى روائح الفساد التى أزكمت الأنوف خصوصا في أوساط نخب الحكم، وضئالة المخصصات المالية لقطاعات الخدمات الأساسية.

وبدا ذلك جليا فى تظاهرات البرازيل التى تدور رحاها الآن بقوة، ومن قبلها التوترات التى شهدتها المكسيك والأرجنتين وفنزويلا وغيرها طوال الشهور التى خلت. فى البدء كانت المكسيك على مدار الأشهر القليلة الفائتة شهدت دول القارة اللاتينية سلسلة من الاحتجاجات الجماهيرية على خلفية تفاقم أعمال العنف، وانتشار الفساد جنباً إلى جنب ازدياد معدلات التضخم. وجاءت البداية من المكسيك، حيث شكل سوء توزيع الدخل وغياب الأمن عنصرين مهمين فى تغذية الاحتقانات الاجتماعية وهي الاحتقانات التي تصاعدت لدرجة لم تعد فكرة التعلل بالمواجهات مع عصابات المخدرات وأوكار الجرائم قادرة على تحجيمها، ناهيك عن اتساع رقعة ظاهرة الفقر الذى يطال ما يقرب من نصف السكان البالغ عددهم 112 مليون نسمة. فى المقابل وصل الوضع السياسى فى المكسيك إلى ذروة التأزم، بعدما نجح انريكى نيتيو ممثل الحزب الثورى الدستورى فى الفوز بالمقعد الرئاسى فى الانتخابات الرئاسية التى شهدتها البلاد فى يوليو 2012، بالنظر إلى سجله البائس فى مجال حقوق الإنسان إضافة لدور غير أخلاقى فى قمع احتجاجات طلابية سابقة عندما كان متوليا مقاليد أمور ولاية مكسيكو خلال الأعوام الخمس الماضية. رياح التذمر تهب على الأرجنتين وفنزويلا لم يكد شبح الاحتجاج ينحسر قليلاً فى المكسيك حتى أطل برأسه مجدداً فى الأرجنتين، التى تعانى منذ العام 2012 قلاقل واضطربات غير مسبوقة. وكان المناخ السياسى فى الأرجنتين قد دخل مرحلة الشحن، على خلفية قرار البرلمان نهاية أكتوبر الماضي بتخفيض سن الانتخاب إلى 16 سنة بدل 18 لتوسيع القاعدة الانتخابية المؤيدة للرئيسة كريستينا كيرشنر (60 عاماً) التي تسعى إلى خلق عصا دستورية لتأمين فترة رئاسية ثالثة.

وتأتى السلوكيات السياسية المشينة للحزب البيروني الحاكم قبل أشهر قليلة تفصلنا عن انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقرر لها العام الجارى. ولم تكن الاحتجاجات السياسية التى تشهدتها البلاد هى الأولى من نوعها، فقد سبقتها طوال الشهور الماضية الاحتجاجات الشعبية بسبب التباطؤ الاقتصادي وارتفاع أسعار السلع الأساسية، إضافة إلى حزمة الإجراءات التقشفية مثل حظر الشراء بالدولار وتقليص الوردات، وهو الأمر الذي زاد من الاحتقانات الاجتماعية. يقف بذخ الرئيسة كريستينا والحديث عن تدهور قدراتها الصحية وراء تنامى حالات السخط وتراجع الرصيدها التقليدى، وهو الأمر الذى كشفته مناخات الاحتجاج التى يزداد زخمها، وإن بدت متقطعة. على الضفة الأخرى يقف قطار الاحتجاجات الشعبية فى فنزويلا التى تعيش على سطح صفيح ساخن منذ تدهور الوضع الصحى للرئيس شافيز وحتى وفاته، وصعود نائبه نيكولاس مادورو إلى صدارة المشهد بعد انتخابات رئاسية شابتها الكثير من التجاوزات والخروقات. صحيح أن مادورو حسم نتيجة الانتخابات، ولكن بفارق ضئيل، وهو الأمر الذى أفقد شرعية شعبية طالما راهن عليها واستخدام من أجلها كل الأوراق، حتى ورقة موت معلمه شافيز. والأرجح أن عام 2013 سيبقى عامًا للتناحر السياسى فى فنزويلا، فبدلاً من السعى إلى إقامة شراكة وطنية فى إطار مشروع تطوير البلاد، وإرساء تجربة ديمقراطية بعيدة عن التقاليد الديمقراطية الشعبوية، عززت العملية الانتخابية الهوة بين النظام ومعارضيه.

وبدا ذلك واضحاً سواء فى الاحتجاجات الشعبية، أو في الطعون المنظورة أمام المحكمة الدستورية العليا ضد نتيجة الانتخابات الرئاسية. وبلغت الاحتجاجات الشعبية ذروتها ضد الحكومة الفنزويلية مع ارتفاع معدلات التضخم التى تصل إلى 20% فضلا عن الفساد المستشرى والبنية التحية المتهالكة، واعتماد الدولة على تصدير النفط كمصدر رئيس للدخل بعد تأميم مئات الشركات الخاصة، الأمر الذى جعل القطاع غير النفطى غير منتج ويعانى نقص الاستثمارات. وتعانى البلاد عجزاً في الموازنة يبلغ نحو 15% من الناتج المحلى الإجمالى.

وقد وضع المنتدى الاقتصادى العالمى فنزويلا ضمن البلدان المعادية للاستثمار الخاص الأجنبى المباشر. سحب الاحتجاج تنتقل إلى البرازيل لأول مرة منذ تظاهرات العام 1992 التى أطاحت برئيس الحكومة السابق فرناندو كولور دي ميلو بعد محاكمته أمام مجلس الشيوخ، يتعرض حزب العمال اليسارى الحاكم فى البرازيل الذى يمسك بزمام السلطة منذ العام 2002 إلى هزة عميقة، على خلفية التظاهرات الحاشدة التى شهدتها عدد من المدن البرازيلية الرئيسية طوال الأيام التى خلت للتنديد بتخصيص أكثر من 26 بليون دولار من الأموال العامة، لإنفاقها على مونديال 2014 وأولمبياد 2016 اللذين تستضيفهما البرازيل.

إضافة إلى القرار الحكومى بزيادة تعريفة سيارات النقل العام ومترو الأنفاق. إلا أن الأمر يبدو أكثر تعقيداً من ذلك ويتجاوز هذين السببين، فالصراع الدائر فى البرازيل اليوم يحمل أبعاد اجتماعية واقتصادية ربما تكون أخطر مما يبدو على السطح، وقد لخصتها الشعارات المرفوعة ضد النظام الحاكم فى التظاهرات "انتهازيون! ارحلوا إلى كوبا، ارحلوا إلى فنزويلا". والأرجح أن انتفاضة البرازيليين لم تقتصر على المناطق المهمشة ومدن الصفيح التي تعانى شظف العيش، ولكنها امتدت إلى العاصمة والإقاليم الحيوية بالدولة، كما أنها انطلقت على غرار ثورات الربيع العربى بدون راية سياسية أو نقابية ولاقادة يتزعمونها.

ورغم أن هذه الاحتجاجات تم التحايل والالتفاف عليها من خلال الاستجابة لمطالب المتظاهرين بإلغاء التعريفة الزائدة على وسائل النقل فضلا عن اجتماع روسيف بعدد من قيادات الاحتجاج، إلا أنها تبقى محل قلق لعدة اعتبارات أولها البون الشاسع بين طبقات المجتمع، حيث تحوز الفئة التي تمثل ال 10% الأغنى من السكان على نحو 54% من جملة الثروة الوطنية. وثانيهما تفشى حالات الفساد وخصوصاً في أوساط النخب السياسية، وعلى الرغم من التشريعات القانونية التي تم إقرارها من أجل مواجهة هذه الظاهرة إلا أنها باتت تقص مضاجع الدولة. وكشف أول استطلاع للرأى حول الأزمة أجراه معهد "أيبوب" أن 75% من المواطنين يؤيدون الحركة الاحتجاجية بسبب الكلفة العالية لأسعار السلع والخدمات الرئيسية ىيليه الغضب من الطبقة السياسية بنسبة 47% ثم الفساد بنسبة 33%. إضافة لكل ما سبق فإن البلاد تعانى منذ وقت بعيد من تنامى معدلات التمييز ضد السود، الذين يمثلون نصف تعداد سكان البلاد البالغ 192 مليون نسمة، وهم مع كثرتهم يعانون من عنصرية قبيحة من البيض. صحيح أن حكومة الرئيسة ديلما روسيف عززت من خطى التسامح العرقى وأسرعت من وتيرة الاندماج فى المجتمع البرازيلى، ودلل على ذلك فوز القاضى الأسود "جوكويم باربوسا" فى أكتوبر الماضي برئاسة المحكمة الاتحادية العليا فى البرازيل، للمرة الأولى فى تاريخ البلاد، إلا أن ثمة مؤشرات تؤكد تنامى معدلات التمييز ومنها ما حدث مثلاً قبل عامين، حين فرض منظمو أسبوع الموضة فى ساو باولو الذى يعتبر أبرز الفعاليات فى أمريكا اللاتينية للمرة الأولى حصة تحدد نسبة مشاركة العارضات السوداوات ب 10%، وذلك إثر ضغوطات من حركات الدفاع عن حقوق السود.

كما أنه مازال هناك حتى الآن تمييزا عنصريا مؤسسيا على صعيد ذى شأن يعانى النظام التعليمى فى البرازيل تمييزاً عنصريا ضد السود، وهو الأمر الذى دفع النظام الحاكم تحت ضغوط احتجاجات السود إلى اعتماد نظام الحصص فى مجال التعليم لتسهيل نفاذ السود إلى الجامعات. أما الاعتبار الرابع فيرجع إلى أثر التباطؤ غير المسبوق فى معدلات النمو، وبدا ذلك فى إعراب البنك الدولى عن قلقه إزاء تراجع النمو الاقتصادى فى البرازيل الذى يرافقه تزايد فى معدلات البطالة وتقلص حركة تجارتها العالمية. وتأتي هذه الاضطرابات بعد أن أعلنت البرازيل أن اقتصادها سجل نموا ضعيفا (0.6% في الربع الأول)، بينما وصلت نسبة التضخم إلى 6.5% في مايو الماضى.

وأضرت هذه البيانات الاقتصادية الضعيفة بشعبية الرئيسة خاصة بين الشباب. غير أن ذلك لا يعنى انهيار النظام، وإنما يعنى أن تداعيات هذه الأزمة ستمتد إلى ماهو أبعد من الأحداث الأخيرة لتعكس صراعا اجتماعياً وطبقياً، لاسيما وأن التدابير الإجرائية والحلول التى قُدمت على أنها إنقاذية لم تفلح فى تسكين أوجاع الأزمة التى انتقلت من التوتر المكتوم طوال السنوات التى خلت إلى الانفجار. فى سياق متصل، فلا تبدى المظاهرات التى يزداد زخمها أى مؤشر يوحى بانحسارها السريع، ودلل على ذلك التشكيك من قبل المتظاهرين خاصة على مواقع التواصل الاجتماعى فى خطاب روسيف الذى ألقته يوم 21 يونيو، وتعهدت فيه بالإصلاح والاستجابة لمطالب المحتجين العامة، والعمل على إقرار ميثاق وطنى كبير لتحسين الخدمات العامة وإيجاد سبل أكثر نجاحاً فى مكافحة الفساد. الانترنت وصناعة الاحتجاجات اللاتينية لعبت مواقع التواصل الاجتماعى، وفى القلب منها موقعى "تويتر" و "فيس بوك" دور البطولة فى هذه الاحتجاجات التى شهدتها المجتمعات اللاتينية وليس أحزاب المعارضة أو النقابات العمالية، حيث نظم المحتجون نشاطاتهم عن طريقها اعتراضا على واقع منهك اقتصاديا ومأزوم سياسيا. غير أن الشباب اللاتينى لم يعلن غضبه على سياسة حكوماته في فضاء "الانترنت" بمنأى عن الأرض، بل تمكَّن من خلق المعادلة الصعبة التى جعلت العالمين الافتراضى والواقعى عالما واحدا.

وقد أثبتت هذه الاحتجاجات فاعلية شديدة ليس فقط فى التواصل عبر شبكة "الانترنت"، ولكن أيضا فى تنظيم الاحتجاجات والاعتصامات فى عدد كبير من مدن هذه الدول المحتجة.

وهكذا كان تحرك عدوى الاحتجاجات بين المجتمعات اللاتينية ناتج من نواتج الانفتاح الإعلامي والثقافى على كافة منافذ التكنولوجيا الحديثة، وتكنولوجيا المعلومات على وجه التحديد، والتى تعد شبكة الإنترنت أبرز إنجازاتها بما تحويه من إمكانيات معلوماتية هائلة ومواقع للتواصل بين الأفراد بمختلف مرجعياتهم، وفئاتهم وشرائحهم العمرية المختلفة.

الشعارات تفصح عن المطالب ليس ثمة شك فى أن شعارات أى احتجاج تنبع من ظروف محيطها المجتمعى وتراثها الثقافى والتاريخى، والشعارات التى رفعها المحتجون فى أمريكا اللاتينية مأخوذة بالأساس من محيطها المجتمعى، ولكن بنكهة عربية هذه المرة. وجاء المشهد الافتتاحى للاحتجاجات حاملا الشعارات التى تندد بالبطالة وسوء الأحوال المعيشية، فلطالما كانا هما الهم الأول للشعوب اللاتينية، والدافع الأساسى لها . وأسهمت الشعارات الافتتاحية للاحتجاجات التى رفعت فى الأرجنتين تحت عنوان "لسنا خائفين" و "أوقفوا موجة مقتل أرجنتينيين عمدا" و "كفى فساداً" ، و" لا للإصلاح الدستوري" دور مهم منذ البداية في تجنب الخلافات السياسية والفكرية بين المشاركين في الاحتجاجات والداعين لها. وفى البرازيل ارتكزت الشعارات الاحتجاجية المرفوعة فى ساحات التغيير على المطالبة بإحداث إصلاحات اقتصادية واجتماعية عاجلة، خصوصا وأن ثمة تنامى ظاهر وخفى لمعدلات الفساد والفقر وانتشار البطالة ناهيك عن التمييز العرقى.

وكشفت شعارات مثل ""برازيل استيقظى، المدرس أهم بكثير من نيمار"، فى إشارة إلى لاعب كرة القدم "نيمار" ، وهتافات من بينها "لقد استيقظ الشعب" و"آسفون للإزعاج ..البرازيل تتغير" عن عمق السخط الشعبي ليس على النخب الحاكمة فحسب، وإنما على مختلف القوى السياسية من تهميشها العامة والمثقفين والتركيز على لاعبي كرة القدم الذين أصبحت رواتبهم بعيدة كل البعد عن عالم الواقع.

ولم يختلف حال الشعارات التى رفعت فى الاكوادور عن مثيلاتها فى البرازيل والأرجنتين، فكان الشعار الأبرز فيهما هو "الديمقراطية الحقيقية الآن"، خصوصا بعدما تمكن الرئيس الأكوداور رافائيل كوريا من إقصاء معارضيه، وتأمين مقعده الرئاسى فى الانتخابات التى أجريت مطلع العام الجارى. أما فنزويلا فقد رفعت شعارات مناهضة للنظام السياسى، تندد بسوء الأوضاع المعيشية وارتفاع معدلات التضخم ومخالفة القانون منذ وصول مادور للسلطة. خلاصة القول أنه رغم المعطيات التى قد تسمح للقارة اللاتينية بتجاوز احتجاجاتها وترسيخ تجارب التحول الديمقراطى التى بدأتها قبل ما يقرب من عقد ونصف، إلا أن الحاجة تبقى ملحة لسلسلة من الإجراءات الفاعلة والتأسيس لتفاهمات جديدة يمكن على أساسها تعظيم نموها الاقتصادى.

وكذلك ضرورة معالجة التوتر الداخلى الناجم عن تنامى معدلات الفساد وسيطرة النخب الطفيلية على مقدارات بلدانها، وهو ما كشفت عنه المسيرات المتواصلة والصدام بين المتظاهرين والشرطة، وحالات التوقيف لنشطاء سياسيين ونواب المعارضة إلى جانب التصريحات السياسية التى حملت نبرة تحد سواء من جانب الحكومات أو الجماهير المحتجة.