د. معتز سلامة

رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

 لسنوات ظلت السياسة القطرية موضعا للحيرة والتساؤل: كيف تمكنت هذه الدولة الصغيرة من ممارسة سياسة خارجية نشطة في ظل واقع عربي خامل وفرضت نفسها كلاعب أساسي في السياسات العربية؟!، وكيف تحولت خلال عقدين من دولة صغيرة لا يسمع عنها أحد، لتصبح إحدى القوى الإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط؟ وكيف تمكنت من الانطلاق في الساحات العربية المأزومة وحل شيفرة الصراعات ولعب دور الوساطة على نحو مكنها من إطفاء حرائق إقليمية؟ ما سر التوليفة والمركب السحري لقطر، وماذا فعلت هذه الدولة إلى الحد الذي دفعت به مفكرين وكتابا للحديث عن "الزمن القطري" أو "لحظة قطر" أو "الحقبة القطرية" في السياسة العربية؟ وحين تفجرت ثورات الربيع العربي، شاع تفسير يعزوها في المجمل إلى الدور القطري، وإلى كتب ودورات العصيان المدني في أكاديمية التغيير، ولا تزال التفسيرات التي تعزو نجاح الثورات إلى قطر ومؤامرة قطرية تجد آذانا صاغية.

ولم يقتصر الحديث عن رعاية قطر للثورات على حالتي ليبيا وسورية، اللتان قامت فيهما قطر بدور صريح وعلني في تحريك الآلة العسكرية الدولية، بل شاع تفسير للثورة التي شهدتها أكبر دولة عربية بحد جعل البعض يعتبر ثورة 25 يناير نتاجا وصنيعة قطرية بالأساس! إن هذا الموضوع سوف يسير عكس التيار وفي الاتجاه المعاكس، ليس في ركاب الانتشاء بالدور القطري، والتركيز على القدرات الخارقة لقطر، وإنما سوف يتناول ما يعتقد أنه بوادر تراجع في هذا الدور بعد ثورات الربيع، وما يراه من بداية العد التنازلي للدور القطري وأفول نجم الحقبة القطرية في السياسة العربية.

فقد كان التوقيت المناسب لطرح الأسئلة المنبهرة بالدور الحيوي لقطر أمرا طبيعيا منذ نحو عامين، حين كان الدور القطري في أوج ازدهاره، وكان سطوع نجم قطر جليا بعد الثورات مباشرة، التي جعلت من توجيه "الجزيرة" لشعاع ليزر مكثف أو فتوى بالتكفير من الشيخ القرضاوي لهذا النظام العربي أو ذاك يمكن أن تطيح به، أما الآن فقد أصبح السؤال هو: هل انتهت الحقبة القطرية في السياسة العربية؟ وهل قضي الربيع العربي -الذي أسهمت الدوحة والجزيرة والشيخ القرضاوي في صنعه- في أفول نجم الدور القطري؟ أولا: اتجاهات تفسير الدور القطري: لا خلاف على أن قطر كانت بمثابة الحجر الذي حرك المياه الراكدة في العالم العربي، وأنها أكثر الدول العربية مناصرة للثورات، لكن الغريب واللافت أن منتج الثورات العربية لم يكن كله إيجابيا لها، بل يمكن القول أنه مع الثورات بدأ العد التنازلي لتراجع الدور القطري.

في السابق كانت السياسات القطرية محلا للإعجاب كبلد صغير تبنى مقدارا من الحرية الإعلامية الليبرالية بالمقاييس الضيقة للحريات العربية، ولم يتراجع عنها على الرغم من تعرض علاقاته للضرر مع مختلف دول العالم العربي بما فيها دول المنظومة الخليجية.

وكان الإغرام بقطر الجديدة طبيعيا بالمقارنة بدولة كانت تعيش بشكل عادي مستسلمة للمعادلات الإقليمية ولدور السعودية في ظل أميرها السابق، إلى أن جاء الأمير الجديد ووزير خارجيته النشط فغيرا كل شيء، وحركا كل السواكن في سياسة قطر الخارجية.

من هنا تراوحت التفسيرات للأعجوبة القطرية بين أربعة: 1- تفسير الدولة – الأمير والوزير: الذي يربط معجزة السياسة القطرية بالأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ووزير خارجيته ورئيس وزارئه (فيما بعد) حمد بن جاسم بن جير، وإلى حد كبير فإن هذا التفسير له ما يؤيده؛ فقبل حلول الأمير الحالي، وفي ظل الأمير الأب، كانت قطر دولة عادية وكانت هي ذاتها من ناحية الموقع الجغرافي والقوات العسكرية والتعداد السكاني (نسبيا بالطبع)، ومع ذلك لم يكن لها دور إقليمي يذكر، ثم جاء الأمير حمد، فتحول كل شيء، وتحول التراب إلى تبر وذهب، وأصبحت قطر دولة عربية يشار لها بالبنان، وأثبتت أن حجم الدولة لا يهم، وأتت على الكثير من مسلمات وأعراف النظام العربي، الذي خضع في تحليله لفترة طويلة لما أسماه البعض بالأعمدة المتساندة وأركان النظام ومثلث القيادة.

هكذا يمكن عزو التجربة القطرية إلى الشخصية القيادية للأمير الذي امتلك طموحا خاصا، تأكد بعدما فازت بلاده في 2010 بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم في 2022 كأول دولة عربية وشرق أوسطية، متقدمة على كل من: اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والولايات المتحدة.

2- تفسير الدولة – "الجزيرة": عزا بعض المفسرين بزوغ النجم القطري إلى الدور الذي لعبته قناة الجزيرة في الواقع العربي.

وهذا التفسير ينطوي على جانب كبير من الحقيقة؛ فلا يخفى الدور الذي لعبته الجزيرة وتناولها كل المحرمات وأساليب الإثارة السياسية في ظل إعلام عربي راكد تخلى عن كل جوانب المهنية والأخلاقية والتشويق، وجعل المواطن العربي أسيرا للجهل والحرمان المعلوماتي والثقافي، حتى جاءت الجزيرة فأكدت تواضع قنوات ماسبيرو وأكاذيب السماوات المفتوحة والريادة الإعلامية.

وعلى الرغم من حجم الانتقادات التي وجهت للقناة القطرية فقد ظلت على مدى السنوات الـ 15 ما قبل الثورات قادرة على تقديم مادة جذابة تستأثر بوقت المشاهد.

وبمعايير الزمن العربي في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت الجزيرة أداة رئيسية للمعرفة العربية بالعالم وبالذات.

لكن هذا العامل (الدولة - "الجزيرة") يرتبط بما قبله، لأنه لولا توافر عنصر القيادة ما كان قد أدرك حاكم آخر قيمة الجزيرة لقطر وتحمل لأجلها كل التحديات مع قوى الإقليم، ولولا قرار القيادة القطرية ما كانت الجزيرة قد استمرت هذه السنوات وتحملت القيادة لأجلها الخلاف مع دول مركزية في الخليج ومصر.

3- تفسير "الفراغ في القيادة": ركز أحد التفسيرات للدور القطري على فراغ القيادة في العالم العربي، وأنه لولا الفراغ في قيادة النظام الإقليمي وتخلي دول مثل مصر والسعودية وسورية عن دورها، لما تمكنت قطر من لعب هذا الدور الإقليمي.

وإلى حد كبير فإن هذا التفسير هو الآخر به قدر من المصداقية؛ فلم تشهد السنوات الأخيرة مبادرات مصرية أو سعودية أو سورية مشتركة، بل تعرض ما أُسمي بمثلث القيادة في العالم العربي للتصدع، وعصفت به الخلافات والانقسامات.

وفي سنوات ما قبل الثورات كانت السعودية على خلاف مع نظام بشار الأسد، وكانت مصر على خلاف شديد معه، واتسمت العلاقات بين القاهرة ودمشق بالفتور.

وبقيت كل من مصر والسعودية تتحليان بحكمة الصبر التي يتحلى بها الأخ الأكبر تجاه مبادرات قطر الصغرى، حتى ثبت في لحظة ما أن الأخيرة لم تكتف باللعب في المسارح المهترئة في العالم العربي مثل لبنان والسودان والعراق، وفي الدول العربية الصغيرة، وإنما عرضت بكفاءة مشهد الثورات العربية وتحكمت به في دول القلب من خلال قناة الجزيرة، التي كانت الوحيدة التي دخلت كل بيت في دول الثورات، وكانت عاملا رئيسيا في هزيمة الأنظمة بضربات ساحقة قبل إعلان انتصار الثورات في الميادين.

هكذا جاء الدور القطري في ظل فراغ دور حقيقي للقيادة العربية.

4- تفسير المثلث المحظور: يفسر البعض الدور القطري بعزوه إلى تعامل الدوحة المباشر مع مثلث من المحظورات، المتمثل في: الإخوان المسلمين، وإسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية.

فعلى مدى السنوات الماضية بنت قطر قاعدة متينة من العلاقة مع الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الجهادية، واستضافت العديد من رموز هذه التيارات، وجعلت الجزيرة أخبار بن لادن والظواهري والجماعات الإسلامية في أفغانستان والعراق وأوروبا والولايات المتحدة في كل بيت عربي، وإلى حد كبير فقد خلقت رموزا إعلامية وسياسية تعلق ذهن المواطن العربي بها، وانصرف بها عن الرموز والقيادات الرسمية في بلاده.

وعلى جانب العلاقة مع إسرائيل، كانت قدرة الجزيرة على تغطية الصراعات والحروب الإسرائيلية على غزة ولبنان، والدخول لمناطق سقوط صواريخ حزب الله وحماس داخل إسرائيل، وحواراتها مع الإسرائيليين في الوقت الذي تتنامى فيه العلاقات بين الدولة القطرية والدولة العبرية في العلن والباطن، ومكاتب التمثيل الإسرائيلية في الدوحة، من العوامل التي تستدعي التفكير والحيرة في تفسير هذا اللغز، وبمعنى آخر جعلت قطر والجزيرة إسرائيل حاضرة في الإقليم العربي، وحققت بذلك انفرادات خبيثة في الساحة الإعلامية العربية.

وبالطبع لا يمكن اعتبار علاقة قطر بالولايات المتحدة من المحظورات، وإنما هي كذلك بمعيار المصالح الخليجية أو بمعيار مصالح الدولة الكبرى في الخليج، وهي المملكة العربية السعودية، فالعلاقات الانفرادية والمتميزة بين قطر والولايات المتحدة والتي تجاوزت علاقات الولايات المتحدة بالسعودية وورثت دور المملكة مثلت خروجا على تقليد خليجي واضح، خصوصا مع مسلك القيادة القطرية في هذا الشأن، حيث استضافت قطر القواعد العسكرية الأمريكية بعد خروجها من السعودية، على أثر حرب تحرير الكويت، وكان مشهد خروج القوات الأمريكية من قواعدها بالمملكة لتذهب إلى مستقرها الجديد بقاعدتي العديد والسيلية بقطر على بعد أميال من المملكة من الأمور التي جعلت الطرف الأمريكي متحررا من ضغط الدولة الكبيرة بالخليج، ويتردد أن قطر كانت حريصة على استضافة القواعد الأمريكية، وبذلت مجهودات ضخمة لأجل استضافة الوجود العسكري الأمريكي.

ولقد مكنت علاقة قطر بمثلث المحظورات سالف الذكر من الانطلاق في السياسة الخارجية وهي مؤمنة بقدر كبير، وترك لها قدرات عالية من المناورة، فعلاقتها بالإخوان أكسبتها قوة في الانطلاق بعلاقاتها مع جماعات الإسلام السياسي، وكان لها دورها في القنوات السرية المفتوحة بين مختلف قوى المعارضة الإسلامية للولايات المتحدة، ولن يكون آخرها استضافتها مكتب لحركة طالبان الأفغانية للتفاوض مع الأمريكان في الدوحة، كما أن علاقتها بإسرائيل مكنتها من فرض نفسها على طاولة المبادرات العربية، وعلى حساب دور القوى العربية الأخرى أصبحت مطلوبة من كل القوى حتى بما فيها النظامين السوري(قبل الثورة) والإيراني الممانعين ضد إسرائيل، ومن قبل قوى الإسلام السياسي وعلى رأسها حركة حماس والإخوان.

وكان اللغز الرئيسي هو كيف تمكنت قطر من الاحتفاظ بهذه الشبكة المحيرة من العلاقات بين أطراف متصارعة ومتعارضة، من دون الإضرار بعلاقاتها بكل منها، وكيف تمكنت من المواءمة بين وجود القرضاوي ووجود مكتب التمثيل الإسرائيلي والقواعد الأمريكية، وكيف تمكنت من علاقتها بالإخوان وإسرائيل وحماس في الوقت نفسه، ومن إحكام علاقتها مع إيران والولايات المتحدة.

وربما أن الرواية الحقيقية لطبيعة هذه الشبكات والتوليفات الغريبة من العلاقات، والتي تساعد في فك ألغاز الدور القطري، لم ترو بعد.

ثانيا: مؤشرات الانقلاب على قطر: تشير الفترة الراهنة -بعد الثورات- إلى ما يمكن تسميته بوجود مؤشرات للانقلاب على قطر عربيا؛ فأغلب دول الثورات شهدت مظاهر وبوادر أزمة مع قطر، وفي بعضها مؤشرات على الكراهية للسياسات القطرية.

وكانت ليبيا أول المنقلبين، فبعد سقوط طرابلس ومقتل العقيد القذافي، اتهم مسؤولون ليبيون قطر بتنفيذ أجندة خفية وتسخير جماعة من الاسلاميين لتحقيق أهدافها، وشكا بعض أعضاء المجلس الانتقالي الليبي من أن نشاطات قطر تضعف ليبيا، وأنها بتمويلها الاسلاميين تخلّ بالتوازن السياسي الداخلي.

وفي مايو 2013 تظاهر العديد من الليبيين في مدينتي طبرق وبنغازى، للتنديد بما اعتبروه تدخلاً قطريا فى الشؤون الداخلية لبلادهم، وأحرقوا العلم القطري ودمية للأمير ورددوا هتافات ضد الدوحة.

وأشار بعض القوى الثورية إلى أن الثورة انحرفت عن مسارها بعدما خضعت للوصاية القطرية، وتحدث البعض عن أن الهدف هو تسخير بلد المختار في منظومة القوة الناعمة لقطر.

وفي اليمن لم يكن الدور القطري مقبولا منذ البداية، خصوصا من جانب الرئيس السابق على عبد الله صالح، وهو ما اضطر قطر إلى التخلي عن مبادرتها لمصلحة المملكة العربية السعودية.

وكان الرئيس السابق قد اتهم قطر بالتآمر "في تمويل الاحتجاجات في الوطن العربي"، وبأنها "دولة صغيرة تريد أن تكون عظيمة ولديها فائض من المال، لا تعلم أين تذهب به سوى تمويل الفتن"، وفي سبتمبر 2012 عاد الرئيس السابق وهاجم قطر ثانية متهما إياها بنشر الفوضى في بلاده عبر ضخ ملايين الدولارات لدعم الإخوان المسلمين.

وفي إبريل 2013 قامت مسيرة تضامنية بمحافظة ذمار ضد ما أسموه بالغزو التركي القطري الأمريكي الصهيوني.

ولم تكن العلاقات بين مصر وقطر، قبل ثورة 25 يناير، على ما يرام، وقبل أشهر وسنوات من الثورة شهدت الصحف المصرية حملات هجوم شديدة على القيادة القطرية ودولة قطر.

ولم يمض عام من الثورة ورفع أعلام الجزيرة وقطر في ميدان التحرير في 11 فبراير 2011، حتى بدأت موجة النقد لقطر تتجدد.

وكانت أبرز لافتات ذلك انتشار شائعات حول نية قطر تأجير منطقة الأهرامات وأبو الهول، ورهن قناة السويس، كما جرى التركيز على إجمالي الدعم الذي قدمته قطر لمصر بعد الثورة، وإبراز الفوائد المرتفعة للقروض القطرية.

وانتهى الأمر بأن كانت قطر مادة لحلقة مهمة من البرنامج الساخر الذي يقدمه الإعلامي باسم يوسف، حين خص قطر بأوبريت "قطري حبيبي" على منوال الأوبريت المصري الشهير "وطني حبيبي"، والتي استتبعها توجيه أحد الكتاب القطريين نقدا لاذعا للمصريين كانت له أصداء حادة.

وواجهت تونس الحالة نفسها، فاتهم بعض التونسسين الحكومة بأنها خاضعة لـ"استعمار قطري".

وفي إبريل 2013، أحرق متظاهرون العلم القطري، في كل من تونس العاصمة ومدينة صفاقس ثاني المدن التونسية.

وشجب المتظاهرون ما يجري في سوريا من تمويل قطري وتورط تونسي من خلال شبكات تجنيد للشبان التونسيين للجهاد والفتيات التونسيات لما أسمي بـ "جهاد المناكحة".

وعلى أثر ذلك، وقف المنصف المرزوقي رئيس تونس يحذر أي أحد من أبناء شعبه يهين قطر؛ مؤكدا بأن: "على من يتطاول على قطر أن يتحمل مسؤوليته أمام ضميره وأمام القانون".

وعلى الفور أطلق آلاف النشطاء التونسيين حملة على فيسبوك بعنوان "التطاول على قطر" نكاية في المرزوقي، وطالب نواب في المجلس التأسيسي بسحب الثقة من الرئيس .وردا على ذلك نددت وزارة الخارجية بما اعتبرته هجمة على قطر.

وأصدرت حركة النهضة بيانا انتقد الحملة الإعلامية على دولة قطر، معتبرا أنها تجاوزت كل أخلاقيات النقد لبلد شقيق.

وعلى غرار ما حدث في مصر، أطلق أحد الإعلاميين التونسيين أغنية تسخر من قطر ومحاولتها السيطرة على مجرى الأمور في تونس.

ثالثا: جوانب قصور الدور القطري بعد الثورات: ليست المؤشرات السابقة على السخط على الدور القطري في دول الثورات سوى بوادر أولى وإرهاصات تحول ضد قطر في هذه الدول، ومن المحتمل أن يشهد الدور القطري مزيدا من الانحسار لأسباب عديدة، بل يمكن القول بأن قطر ربما تصبح هي الخاسر الأكبر من ثورات الربيع، وتلك إحدى المفارقات الكبرى في الحياة السياسية العربية، وتعود أسباب ذلك إلى ما يلي: 1- غياب الرؤية القطرية لما بعد الثورات: فقد عملت قطر على هدف أساسي، وهو التغيير ودعم الثورات، لكنها لم تمتلك رؤية للعالم العربي بعد التغيير، وهي في ذلك لم تختلف كثيرا عن القوى الثورية العربية التي عرفت تماما ما تريد في اللحظة القريبة، لكنها لم تحسب حساب ما بعد التغيير، وفيما وراء رغبتها في إسقاط الأنظمة وإحلال أنظمة ذات توجهات إخوانية أو إسلامية، لا نرى رؤية قطرية لمرحلة الانتقال أو للتحول الديمقراطي في العالم العربي، وليس هناك رؤية قطرية لاتجاهات التغيير في مرحلة ما بعد الثورات.

كانت قطر خلاقة في قيادة عمليات التغيير، وكانت فتاوى الشيخ القرضاوي بتكفير نظام عربي أو زعيم ما نذيرا بسقوطه واغتياله بأبشع صورة، ولكن بعد التغيير الثوري لم يكن لقطر رؤية أو مبادرات سياسة أو اقتصادية أو ثقافية.

وذلك ينبغي أن يدعو البعض ممن ضخموا الدور القطري في الثورات ودور أكاديمية التغيير إلى التواضع، فإذا كانت لقطر القدرة على التغيير السلمي والثوري فلماذا لم تمتلك ذات القدرة الآن وأمامها شعوب عربية منفتحة ومتاحة لكل شيء؟! 2- تراجع العصر الذهبي للجزيرة: فقد أسفرت الثورات العربية عن مشهد إعلامي عربي جديد مختلف تماما عن العصر الذهبي للجزيرة.

كانت الشعوب العربية قبل الثورات تتحسس وتنتشي لكلمة نقد توجهها الجزيرة إلى أنظمة بلدانها أو سر تكشف به عن ثروة هذا الزعيم العربي أو ذلك، أو علاقة مريبة لنظام عربي بإسرائيل، أو أسرار وكواليس الحكم والجماعات الإسلامية، فإذا الآن بفضاء عربي مختلف جعل الجزيرة في موقف صعب للغاية بمعايير الإعلام العربي الجديد.

وعلى سبيل المثال: فمن يفضل في مصر الآن سماع الجزيرة في ظل فيض هائل من القنوات الخاصة التي تتهكم على كل شيء وتكشف كل الأسرار بقدر لا يمكن أن تجاريه الجزيرة؟! وقد أصبح الخبر المصري والتونسي معروض من منبعه بقدر لافت وجاذب أكثر من المصب، وإلى حد ما أصبح المواطن العربي أسيرا للقنوات الخاصة في مصر وتونس واليمن وليبيا، حيث أصبح الإعلام الخاص طاغيا وآسرا، وأمام ذلك أصبح تردد المواطن العربي على الجزيرة انتقائيا وموسميا وبحسب المناسبة.

وهذا يعني نزول الجزيرة من برجها العاجي، وبدء مرحلة عربية جديدة لا يمكن لقطر والجزيرة أن تواكبها أو تنافس فيها إلا بتجديد الأداة والهدف والرسالة.

3- قصور سياسة الدعم المالي: فلم تمتلك قطر بعد الثورات غير الدعم المالي، وبدا أن على الدوحة التي انتظرت المكافأة على دورها من دول الثورات أن تنفق على هذا الدور، وأن تتحمل مسؤولية التغيير، وأن جزءا من تردي الوضع الداخلي تتحمل مسؤوليته قطر، وهم يطالبونها بالإسهام المالي على قدر إسهامها في التغيير السياسي.

ومن ثم تحول انتظار قطر للمكافأة إلى عبء.

بل لم يبد أن لقطر خطة أو رؤية حتى فيما يتعلق بالدعم المالي، فعلى الرغم من الإعلان عن تقديم الدعم لدول محددة، فقد ثارت الشكوك في مقدار الدعم المقدم، ويجري الإعلان عن دعم ما وعدم تنفيذه والتباطؤ في تنفيذه، وكان لافتا أن تأتي زيارة رئيس الوزراء المصري إلى قطر في إبريل على أثر حلقة باسم يوسف التي جعلت البعض يربط الدعم بأصداء البرنامج.

4- عدم التوازن في علاقات قطر بالإخوان بعلاقتها بالتيارين الليبرالي والسلفي: فلقد بقيت علاقة قطر مع دول الثورات محصورة في دعمها للإخوان المسلمين بالأساس، ولم تنفتح على القوى الليبرالية أو السلفية في تلك الدول، وربما كانت الجزيرة أكثر انفتاحا من قطر في هذا الصدد، وبدا إلى حد كبير أن المشروع القطري هو مشروع إخواني بالأساس، ويؤدي استمرار دعمها لحكم الإخوان في الدول العربية إلى مزيد من تباعدها عن التيارات المدنية والليبرالية والسلفية، كما يؤدي دعمها للإخوان في مصر في ظل مطالبات القوى المدنية بإسقاط الرئيس والتنديد بما يسموه "حكم المرشد" إلى مزيد من الغضب على قطر.

وفي الحقيقة، فإن هذه النقطة ستمثل مأزق للسياسة القطرية إن لم تعالجه بسرعة، لأنه يتوقع أن تتعرض علاقات قطر مع دول الثورات للتأزم ولمشكلات مختلفة، إذا استمر اتجاه قطر الأحادي في دعم الإخوان، خصوصا لو سقطت تجربة حكم الإخوان، وفي ظل الاحتمالات المختلفة لانتقالات السلطة العربية بعد الثورات.

وفضلا عن التيار المدني والليبرالي، تبقى العداوة لقطر من قطاعات من الأحزاب والقوى القديمة التي أقصتها الثورات، والتي سيبقى لها ثأر مع قطر.

5- المأزق القطري في سورية: لا شك في أن موقف قطر من ثورة سورية من أكثر الأمور التي سيتحدد وفقا لها مستقبل الدور القطري في الإقليم العربي، ويسبب الوضع السوري الراهن صداعا بالنسبة لقطر، ويمثل احتمال بقاء النظام السوري لفترة ومجابهته قوى الثورة وتغلبه عليها كابوسا إقليميا لدول مجلس التعاون الخليجي برمتها، ولقطر على وجه التحديد.

لقد بذلت قطر كثيرا في الموضوع السوري بعدما تفرغت من ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن، وليس هناك بلد مكروه الآن من جانب النظام السوري أكثر من قطر، ويمثل مستقبل الوضع في سورية الرهان القطري على التغيير الشامل بالإقليم العربي، وبناء النظام العربي الجديد الذي يدين لقطر بالتغيير الشامل، حيث يقف الموضوع السوري عائقا أمام تربع قطر على عرش ثورات التغيير في العالم العربي.

استثمرت قطر الكثير في سورية وانخرطت في الشأن السوري حتى النخاع، ولا مجال للتردد أو العودة.

ولأجل ذلك انطلقت تدعو للتدخل العسكري في سورية في كل الساحات الدولية والعربية، وحملت الملف السوري إلى مجلس الأمر أكثر من مرة، ودفعت بقرار في جامعة الدول العربية يبيح لمن يشاء من الدول بتقديم الدعم للفصائل المسلحة، وقاتلت من أجل منح مقعد سورية بالجامعة العربية والأمم المتحدة إلى قوى الثورة.

ومن ثم تعتبر قطر أن معركة سورية تتعلق بمستقبلها الخاص وليس فقط بمستقبل دورها الإقليمي.

ويمثل احتمال بقاء النظام السوري في ظل الدعم الإيراني والعراقي ومن حزب الله أحد الأمور التي يمكن أن تنهك السياسة القطري والدور القطري بالإقليم العربي.

مستقبل الدور القطري: من الصعب القول بانتهاء دور قطر أو الظاهرة القطرية في السياسة العربية، في ظل استمرار دورها في دول الثورات، ودورها المحوري في سورية.

وبالتأكيد لا يزال لدى قطر ما تقدمه، ولكن استمرار نفس الآليات والأدوات هو أكثر ما يفقد الدور القطري عوامل الإبهار مستقبلا.

لقد قدمت قطر الكثير في مرحلة عربية كانت ظمآى لكل ما هو محظور، والآن تجاوزت الحياة العربية كل المحظورات فأصبح ما تقدمه "الجزيرة" جافا بمعيار الإعلام العربي الجديد.

وبات على قطر إن أرادت الاحتفاظ بدور ما في الإقليم أن تنوع علاقاتها بكل التيارات وأن تتجه للعب دور ثقافي جديد وأن تبتكر في أدوات ممارسة الدور، برسالة تنويرية وثقافية جديدة دون الانحسار مع فصيل دون آخر.

فهل تفاجئنا قطر بمبادرات جديدة تحيي بها دورها في الزمن العربي الجديد، أم أدت ثورات الربيع إلى أفول نجم "الحقبة القطرية" نهائيا في السياسة العربية؟ هذا ما سيكشف عنه المستقبل.