سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

جاءت نتائج الانتخابات الإسرائيلية بدون مفاجئات كبرى قياسا على استطلاعات الرأي التي أظهرت عشية الانتخابات أن معسكر اليمين بأطيافه ومعسكر قوى اليسار والوسط سيحصلان على حصص شبه متساوية من مقاعد الكنيست،غير أن احتلال الوافد الجديد على الحياة الحزبية الإسرائيلية حزب يش عتيد (يوجد مستقبل) المكان الثاني في قائمة الكتل الممثلة في البرلمان أعتبر بمثابة المفاجأة الكبرى كونه حزبا ناشئا ولا يعرف شيئا عن مدى تماسكه وقوة هياكله، وأيضا مدى قدرته على الصمود والبقاء في مواجهة خصوم أكثر خبرة وتمرسا في دهاليز العمل الحزبي والسياسي.

ويمكن القول بأن نتائج الانتخابات قد زادت من تشظي الخارطة الحزبية في إسرائيل وهو وضع من شأنه إرباك العمل داخل أي ائتلاف سيتم تشكيله وسيزيد من صعوبة عمل الكنيست ،الأمر الذي ينذر بقصر عمر هذا البرلمان وربما سقوطه بأسرع مما يمكن تصوره.

أن تحليل هذه النتائج والخلفيات التي قادت إليها قد تفسر حالة الارتباك في الحياة السياسية الإسرائيلية والتي كشفت عنها هذه النتائج، ولكن سيكون من الصعب التنبؤ بالمستقبل في ظل عدم اليقين الذي يميز المزاج العام الإسرائيلي حاليا، وأيضا في ظل استمرار الاحتقان الاجتماعي وتشابكه مع الأوضاع السياسية والأمنية سريعة التغير.

ملاحظات أولية على النتائج تكشف المقارنة السريعة بين نتائج الانتخابات الأخيرة وانتخابات عام 2009 (انظر الجدول المرفق ) عن الملاحظات التالية: جدول بعدد المقاعد التي فاز بها كل حزب في انتخابات عامي 2009 و 2013 الحزب عدد المقاعد 2013 عدد المقاعد 2009 الليكود 20 27 يش عتيد 19 - العمل 15 3 البيت اليهودي 12 7 شاس 11 11 إسرائيل بيتنا 11 15 يهودة هتوراة 7 5 الحركة 6 - ميرتس 6 3 كاديما 2 28 الأحزاب العربية 11 11 الإجمالي 120 120 1- تدهور تمثيل الأحزاب الثلاثة التي حصلت على المراكز الأولى في انتخابات 2009 بشكل كبير وهى علي الترتيب كاديما (28) ،الليكود (27) ، إسرائيل بيتنا (15) بمجموع وصل إلى 70 مقعد لتهبط إلى ما مجموعه 33 مقعدا ،أى انها خسرت 37 مقعدا دفعة واحدة وبنسبة تصل إلى 47 % من حجم تمثيلها فى انتخابات 2009 .

2- إذا كان الحزبين اليمينيين (الليكود وإسرائيل بيتنا ) رغم تشكيلهما قائمة انتخابية واحدة قبل الانتخابات قد فقدا أحدى عشر مقعدا، فإن حزبين من معسكر اليمين قد زادا حصتهما بسبعة مقاعد وهما (البيت اليهودي ويهودة هتوراه )، أى أن معسكر اليمين خسر عمليا أربعة مقاعد فقط وهى نسبة صغيرة لن تؤثر كثيرا فى قوته.

3- عوضت كتلة اليسار والوسط الخسارة الكبيرة التي منى بها أحد أحزابها وهو حزب كاديما (26 مقعدا ) بحصول الحزب الجديد يش عتيد على 19 مقعدا وارتفاع تمثيل حزبى العمل وميرتس بمقدار 5 مقاعد، وبإضافة الستة مقاعد التي حصل عليها حزب الحركة (وهو وافد جديد أيضا ) تكون كتلة اليسار والوسط قد زادت من نصيبها بمقدار أربعة مقاعد، وهي زيادة غير مؤثرة فى قوة هذا المعسكر.

4- من الناحية النظرية كان حزب العمل هو أكثر الأحزاب القديمة نجاحا، حيث حصلت قائمته في انتخابات 2009 علي 13 مقعدا، تقلصت في يناير 2011 إلي 8 مقاعد فقط بعد انشقاق زعيمه "ايهود باراك " عنه ومعه أربعة نواب آخرين مشكلا ما سمي حينها بكتلة "عتسمؤوت " والتي لم تخض الانتخابات الأخيرة بعد إعلان باراك في 26 ديسمبر الماضي اعتزاله الحياة السياسية، أي أن حزب العمل زاد مقاعده بسبعة مقاعد عن تلك التي كانت له فعليا منذ انسحاب باراك منه، ولكنه عمليا لم يستطع تحسين موقعه في الخريطة السياسية بالقدر المأمول من جانب زعيمته "شيللي يحيموفيتش" وحل الحزب فى الموقع الثالث بين الأحزاب من حيث عدد المقاعد قياسا علي المركز الرابع الذي كان يشغله بعد انتخابات 2009 .

5- باستبعاد كتلة الأحزاب العربية فى الكنيست والتي تمتلك 11 مقعدا والتى تهتم فقط بشؤون الوسط العربي تتغير الحسابات التى بنيت على أساس ضم هذه الكتلة إلى أحزاب الوسط واليسار الصهيونى، ويصبح تفوق معسكر اليمين على معسكر الوسط واليسار واضحا، حيث يمتلك الأول حاليا 61 مقعدا هى مجموع تمثيل احزاب (الليكود، والبيت اليهودي، وإسرائيل بيتنا ، وشاس ، ويهودة هتوراه ) فيما يمتلك المعسكر الثاني المكون من احزاب (يش عتيد، والعمل، وميرتس، وهتنوعاه ، وكاديما) 48 مقعدا.

6- تقدم حزب "البيت اليهودي " وهو الحزب المدافع عن سياسة الاستيطان، والرافض لحل الدولتين بخمسة مقاعد قياسا علي ما كانت احزاب الاستيطان الأقدم مثل "المفدال" و"ايحود هلئومي" قد حققته فى الانتخابات السابقة وهو ما زاد من قوة اليمين المتطرف بشقيه الصهيوني (أي البيت اليهودي نفسه ) واللا صهيوني ( شاس ،ويهودة هتوراة ) لتصبح قوة هذا المعسكر 30 مقعدا ،وهو ما يشكل جبهة ضغط قوية علي أحزاب الوسط ويسار الوسط.

7- أن وضع حزب يش عتيد ضمن أحزاب الوسط يبدو مسألة إجرائية وفقا للتقسيم البسيط للخارطة السياسية الإسرائيلية، غير أنه – من الناحية الواقعية ومن خلال برنامجه – يبدو أقرب لليمين ولكن بخطاب ذي صبغة معتدلة نسبيا .

8- لم تتغير وضعية الأحزاب العربية مقارنة بالانتخابات السابقة حيث حصلت علي نفس عدد المقاعد والتي لا تمثل سوي 9% من مقاعد الكنيست، وهو ما يعد خسارة نسبية قياسا بارتفاع نسبتهم ككتلة سكانية تمثل 16% من مجموع سكان الدولة، وبغض النظر عن ضعف تأثير هذه الكتلة بسبب تشتتها بين ثلاثة أحزاب بينها خلافات أيديولوجية كبيرة، فإن توافق كافة الاحزاب الإسرائيلية حول مبدأ "يهودية الدولة" وسعي اليمين المتطرف لسن قانون القسم بالولاء للدولة اليهودية، وأيضا سعي الاحزاب العلمانية ( من اليمين والوسط ) لسن قوانين للمساواة تستدعي إجبار العرب علي الخدمة في الجيش، سيؤدي إلي مزيد من الضغط علي الوسط العربي الذي ربما لا يجد نصير له ويشاركه نفس موقفه الرافض للخدمة في الجيش أو قسم الولاء للدولة اليهودية سوي في الأحزاب الحريدية (شاس ويهودة هتوراه).

بشكل عام يمكن القول بأن قوة اليمين تراجعت نظريا ولكن عمليا زادت قوة المعسكر الرافض لفكرة المساواة في الحقوق بغض النظر عن المشاركة فى الأعباء والتي ترتب بالنسبة للعرب والحريديم انتهاك صريح للحقوق القومية والالتزامات الدينية.

ايضا قد لا يعني وجود أحزاب تدعو صراحة لاستئناف التفاوض مع الفلسطينيين مثل يش عتيد والحركة وكاديما والعمل، أن عودة المفاوضات ستكون سهلة، خاصة مع عدم وجود موقف قوي لكل هذه الأحزاب ضد الاستيطان.

كما إنه من الصعب تصور قبول الفلسطينيين بالعودة لطاولة التفاوض من دون تحريك هذا الملف، وحتى لو ضغطت هذه الأحزاب علي الحكومة الجاري تشكيلها لتخفيف شروط العودة للتفاوض فلن تستطع إقناع الأحزاب الاخري المفترض مشاركتها فى هذه الحكومة سوي بإزالة بؤر استيطانية قليلة الأهمية، أو ربما ايقاف بناء مستوطنات جديدة لفترة زمنية محددة كما حدث فى حكومة ناتانياهو السابقة.

ودون أن يسفر ذلك عن تقدم حقيقي يرضي الجانب الفلسطيني الذي سيجد بدوره صعوبة بالغة في العودة للمفاوضات بدون إيقاف الاستيطان اولا.

الخلفيات التي قادت لنتائج الانتخابات قبل أيام قليلة من بدء الانتخابات أوضح استطلاع للرأي العام في إسرائيل ( نشرته صحيفة هآرتس في 19 يناير) أن الناخب الإسرائيلي يرتب أولويات الحكومة التى يريدها علي الصورة التالية: 1 – القضايا الاقتصادية/ الاجتماعية (من وجهة نظر 47 % من عينة الاستطلاع).

2 – استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين (18% ) 3- مسألة تجنيد الحريديم (12% ) 4 – التهديد النووي الإيراني (10 % ) ويفسر هذا الاستطلاع النتائج السالف عرضها أفضل تفسير فالناخب الإسرائيلي – اليهودي الموزع بين ثلاثة شرائح اجتماعية تكاد تكون متساوية فى وزنها السكاني (الشريحة الأكثر دخلا تمثل نحو 38 %، والشريحة الوسطي نحو 27 %، والشريحة الأدنى نحو 35% ) وحيث أن القضية الاجتماعية كانت هي الأكثر إلحاحا فى استطلاعات الرأي فقد نجحت الأحزاب التي توجهت لمخاطبة مشكلات الشريحة الوسطي وركزت عليها أكثر من غيرها فى تحسين مواقعها مثل حزب العمل، أو حققت مفاجأة كبيرة كونها وافد جديد علي الحياة السياسية مثل حزب " يش عتيد " وكلا الحزبين احتل الشق الاقتصادي/ الاجتماعي حيزا كبيرا في برنامجه الانتخابي مقارنة بالأحزاب الأخرى خاصة يش عتيد الذي أفصح صراحة عن أنه يستهدف الدفاع عن مصالح الشريحة الوسطي فى المجتمع، ولعب عنصر كونه لم يختبر من قبل مثل حزب العمل الذي يشاركه نفس التوجه وأيضا كون زعيمه "يائير لبيد " اهتم بشكل مكثف باستقطاب الجيل الشاب الذي يشعر بالغضب من تناقض برامج الأحزاب القديمة مع ممارستها العملية فى الحكم فضلا عن أن الطبيعة السنية لهذه الشريحة تجعلها اقرب لتبني الجديد دائما.

علي الجانب الآخر ومع كثرة الحديث قبل الانتخابات عن الضغوط التي ستمارسها الاحزاب العلمانية سواء اليمينية أو الوسطية لأجل الدفع بتقليص مخصصات الحريديم وإجبارهم علي الخدمة في الجيش فقد ذهب جمهور واسع منهم لدعم أحزابهم الطائفية مثل شاس ويهودة هتوراة لتزيد حصتهما بمقدار مقعدين (18 مقابل 16 في الكنيست السابق) في نفس الاتجاه عززت كتلة المستوطنين من قوة معسكرها بحصول تجمع الاحزاب الخاصة بها ممثلة في كتلة "البيت اليهودي" علي 12 مقعدا كان يمكن ان تزيد إلي 14 مقعدا لو نجح حزب " قوة لإسرائيل " في اجتياز نسبة الحسم البالغة 2% من الأصوات الصحيحة فى الانتخابات، وتعكس هذه النتيجة مدي قلق المستوطنين من تزايد قوة أحزاب الوسط الداعية لتحجيم الاستيطان من أجل جذب الفلسطينيين لطاولة التفاوض مجددا.

في الجانب الأخير يبدو الاستثناء الوحيد في مدي انعكاس ترتيب الاولويات للناخب الإسرائيلي في الاستطلاع المشار اليه علي زيادة حصة الحزب اليساري الوحيد فى الساحة ( حزب ميرتس ) من المقاعد بمقدار الضعف (ستة مقاعد مقابل ثلاثة في الانتخابات السابقة) وإن كان يمكن فهم ذلك في ضوء كونه حزب "الانتلجينسيا" الإسرائيلية المنتمية للشريحة العليا في المجتمع والتي تغلب الفكر علي السياسة، كما لا يعاني أغلبها من مشكلات اقتصادية أو اجتماعية ذات بال.

أما خسارة الليكود - إسرائيل بيتنا 11 مقعدا، فيمكن تفسيره بتراجع قناعة الرأي العام الإسرائيلي بأن الاولوية يجب ان تكون للقضايا الأمنية وعلي رأسها المشروع النووي الإيراني، خاصة وأن ثورات الربيع العربي من جانب ووعد واشنطن القاطع بأنها لن تسمح لإيران بحيازة أسلحة نووية من جانب آخر، قد اضعف كل من ناتانياهو وليبرمان اللذين استثمرا بكثافة في هذه القضية دون إبداء جدية حقيقية في التصرف فيها بعيدا عن واشنطن، وقد أظهرت بعض القيادات الأمنية السابقة أن ناتانياهو كان يعلم تماما ومن خلال التقديرات الاستخباراتية أن التحولات الاقليمية الجارية قد قلصت من التهديدات الأمنية علي إسرائيل في المدى المنظور، فضلا عن اضطرار ليبرمان للاستقالة من منصبه كوزير للخارجية بعد توجيه اتهام رسمي بالضلوع في الفساد.

ظاهرة أحزاب الوسط أو أحزاب الغاضبين في ظل الصعود الكبير والمفاجئ لحزب " يش عتيد " وأثره علي الخريطة السياسية الإسرائيلية قد يكون من الضروري مناقشة ظاهرة ما يسمى بأحزاب الوسط في الحياة السياسية الإسرائيلية بشيء من التفصيل.

منذ النصف الثاني من السبعينيات في القرن الماضي شكلت أحزاب ما يسمى "بالوسط" في إسرائيل مفاجآت كبرى في الانتخابات العامة، وكان آخرها فوز الوافد الجديد على الحياة السياسية الإسرائيلية حزب يش عتيد (يوجد مستقبل) بزعامة "يائير لبيد" بتسعة عشر مقعداً احتل بها المركز الثاني بعد الليكود الفائز بعشرين مقعداً.

ومنذ إعلان نتائج انتخابات الكنيست التاسعة عشر التي أجريت في يناير الماضي لا يكف الكثيرون في إسرائيل وحتى خارجها (أي في أوساط المتابعين للشأن الإسرائيلي) عن التساؤل عن مدى استطاعة هذا الحزب أن يكون فرس الرهان في تغيير السياسات الداخلية والخارجية في إسرائيل، والأهم مدى قدرته على الصمود في ظل حقيقة أن الأحزاب التي وصفت "بالوسط" تاريخياً قد انتهت واحدة تلو الأخرى بعد دورتين انتخابيتين على الأكثر؟ هل توجد أحزاب وسط في إسرائيل؟ يبدو التساؤل الأولي عن موقع الوسط في الخريطة الحزبية الإسرائيلية مسألة ضرورية قبل إجابة التساؤلات المتعلقة بحزب "يش عتيد"، فغالب التحليلات الدارجة تعاملت مع تعبير "أحزاب الوسط" كما لو كان مسلمة غير قابلة للنقاش، وإن كانت تحليلات أخرى قليلة قد شككت في "علمية" هذا المصطلح أصلاً استناداً لقراءة مستفيضة لبرامج "أحزاب الوسط" تاريخياً ومقارنتها ببرامج الأحزاب اليسارية واليمينية.

وبشكل عام تعرف أحزاب الوسط بأنها تتبنى طروحات توفيقية بين برامج اليمين واليسار، وهو ما أغرى الكثيرون ممن درسوا ظاهرة صعود أحزاب جديدة في إسرائيل منذ السبعينيات وبشكل مفاجئ وعلى الأخص قبل موعد الانتخابات العامة بإطلاق مسمى "أحزاب الوسط" عليها كونها أحزاب تقوم على نقد سياسات كل من اليمين واليسار وتتبنى طروحات توفيقية في قضيتين محددتين، وهما معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة منذ السبعينيات، وقضية تسوية الصراع العربي الإسرائيلي.

وتشير حقيقة انهيار أحزاب ما يسمى "بالوسط" بشكل سريع إلى أن الأساس الاجتماعي والسياسي لهذه الأحزاب ليس قوياً إلي الحد الذي يضمن بقاءها بشكل دائم في الخريطة السياسية والحزبية الإسرائيلية، فمعالجة قضايا معقدة بحلول توفيقية وتبسيطية قد يخلق حالة من الانجذاب المؤقت من قبل قطاع من الرأي العام الإسرائيلي ناحية هذه الأحزاب بسبب حالة الغضب وربما اليأس من عدم قدرة كل من اليمين واليسار على حلحلة الأوضاع المتفاقمة هنا وهناك، غير أن ظهور الفجوة بين الأفكار والممارسات العملية سرعان ما يظهر منذ اللحظة الأولى أي لحظة اختبار الأفكار في علاقتها بتشكيل الائتلاف الحاكم، وهى لحظة لا تبعد سوي أسابيع قليلة من ظهور نتائج الانتخابات تاريخ أحزاب "الغاضبين" أو أحزاب الوسط إن إلقاء الضوء على تاريخ الأحزاب الموصوفة بأحزاب الوسط، أو أحزاب “الغاضبين" - كما نسميهم هنا - ربما يفيدنا في فهم أسباب صعود حزب "يش عتيد" حالياً وأيضاً قد يساعد في التنبؤ بمصيره في المستقبل المنظور.

كان تشكيل الحركة الديمقراطية للتعبير المعروفة باسم "داش" بداية ظهور هذه النوعية من الأحزاب، حيث تشكلت الحركة في يناير عام 1977 واختارت أن تطلق على نفسها اسم حركة وليس حزب إمعاناً في اثبات رغبتها في الابتعاد عن الصفة الحزبية التي باتت موصومة بكل الصفات التي تعني الفساد والجمود والأنانية والتناقض ما بين القول والفعل، فقد تشكلت هذه الحركة على خلفية تزايد الاحتقان الاجتماعي والسياسي في إسرائيل في أعقاب حرب عام 1973، فمن جانب تفجرت الأزمة المكتومة بين السفارديم (اليهود الشرقيين) والأشكناز (اليهود الغربيين) بسبب التمييز الذي كان يعانيه السفارديم في ظل الهيمنة الكاملة للأشكناز على صناعة القرار في الدولة لعقود طويلة من الزمن، والذي تجلى في وجود تمييز صارخ في الأجور ومستويات التعليم والمشاركة السياسية لصالح الأشكناز.

ودائماً ما كانت النخبة "الأشكنازية" الحاكمة تتهم "الثقافة" الشرقية وليس سياسات الدولة بأنها السبب في تدني الوضع الاجتماعي والسياسي لليهود السفارديم وهو ما جعل الحرب الثقافية بين الجانبين على أشدها وجاءت الخسائر الكبرى التي مُني بها الجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر لتفجر مظاهرات الغضب من جانب بعض المنظمات المعبرة عن السفارديم مثل "الفهود السوداء" والتي لخصت ثورتها بعد الحرب في مقولة "كنا نتحمل الظلم الاجتماعي الذي يمارسه الأشكناز علينا لأنهم زعموا أنهم وحدهم القادرين على حماية الشعب والدولة، أما وأن الحرب الأخيرة قد برهنت على انهيار هذه الأسطورة والتي دفع تكلفتها الجنود البسطاء وأغلبهم من الطائفة السفاردية، فلم يعد من مبرر لهذا الظلم والتهميش بعد اليوم" وترجمت حركة "داش" هذه المشاعر في بيانها الأول الذي تصدرته عبارة "لم نكن نفكر في تكوين حركتنا لولا ما نراه من تدهور أخلاقي واقتصادي واجتماعي في الدولة، ولدينا رغبة حقيقية في إحياء وتجديد قيم المجتمع الإسرائيلي"، وسوف نلاحظ أن حركة "داش" كانت أول من خرج عن الترتيب التقليدي لأولويات المجتمع الإسرائيلي والذي كان يُعلي من شأن القضايا الأمنية والخارجية على حساب القضايا الداخلية، وذلك بإعلان الحركة في برنامجها الانتخابي لعام 1977 أنها تسعى للتركيز على القضايا الداخلية وإعطاؤها الأولوية مع اتخاذ مواقف أقل تطرفاً من اليمين وممثله الليكود في قضايا الأمن والسلام.

وربما لأجل ذلك ظهر لأول مرة تعبير أحزاب الوسط في إسرائيل والتي كانت – حسب برنامج داش- تقدم أفكار تدعو للتخلي عن السياسات الاقتصادية الموجهة كما كان يمثلها حزب العمل لصالح سياسات تجمع ما بين تدخل الدولة وتنشيط ودعم مبادرات القطاع الخاص وفي الوقت نفسه كانت ترفض طروحات "الليكود" التي تميل لتهميش دور الدولة في النشاط الاقتصادي وتقصره على قطاعات قليلة ذات طبيعة أمنية واستراتيجية.

الأمر نفسه فيما يتعلق بقضية معالجة الصراع العربي- الإسرائيلي، فقد كانت حركة داش ترى أن توقيع مصر وسوريا على اتفاقات لفض الاشتباك مع إسرائيل يعني أن هناك أطرافاً عربية يمكنها التفاهم حول إقامة سلام يكون مضمونه تخلي إسرائيل عن أجزاء من الأراضي التي احتلتها عام 1967 دون الإخلال بالمتطلبات الأمنية للدولة مقابل تخلي العرب عن سياستهم المعلنة والهادفة لإبادة إسرائيل وإنهاء وجودها، كما طرحت "داش" إمكانية حل القضية الفلسطينية عبر ما سُمي فيما بعد "بالخيار الأردني" أي السماح للفلسطينيين بإقامة كونفيدرالية مع الأردن بضم الأجزاء التي تنوي إسرائيل التخلي عنها في الضفة الغربية إلى المملكة، فيما لم يكن موقفها واضحاً من الحل في غزة سواء بضمها إلى الحل الكونفيدرالي أو بمطالبة مصر بالإشراف عليها كما كان الوضع في السابق قبل حرب يونيو.

وقد عبرت هذه الطروحات عن تعطش قطاع كبير من المجتمع الإسرائيلي للسلام ورغبته في إخراج إسرائيل من دائرة الحروب التي لا تنتهي، وهو ما مكن الحركة من حصد خمسة عشر مقعداً في أول انتخابات تخوضها في مايو عام 1977، ورغم الإسهام الكبير للحركة في عقد اتفاق كامب ديفيد مع مصر عام 1978 إلا أنها سرعان ما تفككت بعد خروج حركة شينوي منها ولم تظهر للحركة قائمة في الانتخابات التالية عام 1981.

تكرر الأمر مرة ثانية مع حزب "المركز" الذي حصل في انتخابات عام 1999 على ستة مقاعد وضم الحزب في حينها عدد من أبرز القيادات العسكرية مثل إسحاق مردخاي، وليفيكين شاحاك، وكان الحزب قد لعب على نفس الوتر الذي مسته من قبل حركة "داش" فأعلن عن أن هدفه من دخول المعترك السياسي هو تجديد دماء السياسة الإسرائيلية التي تعاني من عجز القادة الموجودين على الساحة سواء في معالجة القضايا الأمنية والسياسية أو القضايا الاجتماعية، ولم يلبث الحزب طويلاً حتى طاردته فضائح نوابه على رأسهم إسحاق مردخاي الذي اتهم بالتحرش الجنسي بعدد من المجندات أثناء وجوده في الخدمة، وانتهى الحزب سريعاً ولم يظهر له أثر في الانتخابات اللاحقة عام 2003.

التجربة الثالثة لما يسمي بأحزاب الوسط كانت فى عام 2003 الذي شهد صعود نجم حركة "شينوي" بزعامة يوسف (طومي ) لبيد (والد زعيم حزب يش عتيد الحالي يائير لبيد) الذي تمكن من رفع حصة الحزب من ستة مقاعد حصل عليها عام 1999 إلى خمسة عشر مقعداً حصدها في انتخابات عام 2003.

خاض الحزب هذه الانتخابات بشعار ضرورة تخليص إسرائيل من ابتزاز الأحزاب الحريدية – اليهود المتشددين وتحديداً أحزاب شاس ويهودة هتوراة – ولكن برنامجه الانتخابي المفصل أظهر استعداد الحزب في قضية التسوية لأن يكون مختلفاً قليلاً عن اليسار الذي كان يطالب باستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين دون اشتراط إيقاف الانتفاضة – نشبت الانتفاضة الثانية عام 2000 واستمرت حتى عام 2004 - حيث نص برنامج الحزب على ضرورة إيقاف العنف أولاً قبل المضي في التفاوض، غير أن موقف "شينوي" من الرئيس الفلسطيني "عرفات" لم يختلف عن موقف اليمين ممثلاً في شارون وحزبه الليكود الذي اعتبر "عرفات" غير ذي صلة ولا يجب التفاوض معه وهو ما يفرغ موقف الاستعداد للتفاوض من مضمونه ويجعل من شينوي الوسطي صورة من الليكود " اليميني" مع اختلاف فى الصياغة فقط.

وفيما يتعلق بالقضية الاجتماعية والاقتصادية كان شينوي يعتبر نفسه ممثلاً للطبقة الوسطى التي تضم شرائح واسعة من الشعب الإسرائيلي بدءً من أصحاب المهن الحرة والمستقلين وأصحاب الأعمال والمدراء والموظفين والعاملين في مجال قطاع التكنولوجيا الراقية وأساتذة الجامعات وصولاً للطلبة الجامعيين والمتقاعدين، وطالب الحزب بتخفيض الضرائب والكف عن توجيه الإعانات للطبقات الأدنى لأن ذلك يشجعها على عدم الدخول في سوق العمل، ولم يكن هذا البرنامج يختلف كثيراً عن برنامج الليكود وإن تميز قليلاً عن برنامج حزب العمل الذي يعتبر ممثلاً لليسار مع حزب ميرتيس، وكلاهما كان ما يزال يطالب بالإبقاء على دولة "الرفاه" التي تخصص جزء من الموارد للطبقات الضعيفة.

لم يدم توهج حزب شينوي كثيراً بعد انكشاف الفجوة بين ما كان يطالب به وبين ما مارسه بالفعل من سياسات وما اتخذه من مواقف، فالحزب الذي تصدرت شعاراته الانتخابية قضية تحجيم الحريديم وعدم الجلوس معهم في حكومة واحدة سرعان ما قبل الدخول إلى الائتلاف الذي شكله "شارون" عام 2003 بمشاركة حزب "يهود هتوراه" – الحريدي الأشكنازي – رغم إصراره على استبعاد حزب شاس – حريدي سفاردي – وهو موقف اعتبره جمهور الناخبين الذين منحوه أصواتهم نوع من التراجع عن برنامجه المعلن، بل الأسوأ أنه يعبر عن الروح العنصرية التي كان طومي لبيد متهماً بها كونه يكره السفارديم – الشرقيين – لسماحه لنفسه بالتعامل مع حزب يهودة هتوراه لمجرد أنه حزب أشكنازي رغم كونه حريدي أيضاً.

ومن المؤكد أن خروج شارون من الليكود في أخريات عام 2005 وتشكيله لحزب جديد باسم "كاديما" وصف بأنه سيكون حزباً وسطاً بين الليكود وأحزاب اليسار (العمل وميريت) قد تسبب في انهيار "شينوي" الذي لم يعد يوجد بينه وبين كاديما أي فارق فيما يتعلق بالمواقف من القضيتين الرئيسيتين (التسوية مع الفلسطينيين، والتوجهات الاقتصادية/ الاجتماعية للدولة) وهو ما حدث بالفعل في الانتخابات التالية التي أجريت في مارس عام 2006 حيث لم يتخطى الحزب نسبة الحسم البالغة 1.5% واللازمة لأي حزب كحد أدنى للحصول على تمثيل في الكنيست.

حزب يش عتيد ..

هل ينهار قبل أن يبدأ؟ رغم المفاجأة التي حققها حزب "يش عتيد" بزعامة يائير لبيد بحصوله على 19 مقعداً وامتلاكه المركز الثاني بعد الليكود، إلا أنه قد يعاني من نفس ما عانته ما أسميت بأحزاب الوسط في إسرائيل من حيث البروز واللمعان السريع ثم الانطفاء والانزواء بعد دورة أو دورتين انتخابيتين فقط.

فالأجواء التي سيطرت على إسرائيل عشية الانتخابات الأخيرة تشبه مثيلتها في سنوات أسبق عندما ظهرت أحزاب مماثلة مثل داش والمركز وشينوي، فالأول (داش) ظهر في أعقاب أزمة ثقة بين الجمهور الإسرائيلي والسياسيين الكبار في الليكود والعمل وعلى الأخص بسبب الأجواء التي خلفتها حرب أكتوبر عام 1973 والتي تلقت فيها إسرائيل درساً قاسياً على كل الأصعدة العسكرية والسياسية والاجتماعية، وحصل داش على تأييد جمهور واسع منحه 15 مقعداً عام 1977 فقط كتعبير مؤقت عن غضب قطاع من الرأي العام من الحزبين الكبيرين (الليكود والعمل)، ولكن سرعان ما انكشف للجمهور أن الشخصيات البارزة في المجالات العسكرية والأمنية ليست بالضرورة هي الأجدر بقيادة البلاد خاصة وأن قواعد اللعبة السياسية كانت تقودهم بطبيعتها إلى الانخراط في السياسات التي كان القطاع الغاضب نفسه يرفضها ومن ثم عادة ما يخسر الحزب الجديد الذي يدعي الوسطية مؤيدوه بشكل سريع، على الأقل لأن الأحزاب الكبرى تكون قادرة على البقاء بحكم تمتعها بكيان مؤسسي حقيقي لا يعتمد كثيراً على أشخاص بعينهم لكي يستمر في الحياة السياسية على عكس الأحزاب الوافدة التي لا يمكنها عامل الوقت من بناء هيكل حزبي متماسك وتبني أيديولوجيا واضحة ومختلفة عما هو قائم في الأحزاب الكبرى فضلاً عن افتقاد قيادات الأحزاب الجديدة للخبرات اللازمة للتعامل مع المناورات السياسية والحزبية التي يجيدها الحزبين الكبيرين والأحزاب الحريدية والقومية المتشددة.

ومن السابق لأوانه القول بأن زعيم "يش عتيد" قد وعى الدرس الذي لم تفهمه أحزاب الوسط الأسبق ظهورا ،إذ يحاول لبيد عدم الابتعاد كثيراً عما يسمى بالإجماع القومي، فبرنامجه الذي فاز على أساسه بتسعة عشر مقعداً ينص على أن استئناف مسيرة التسوية مع الفلسطينيين ضرورة ولكن ليس على حساب متطلبات الأمن الإسرائيلي، ويتبنى الحزب بوضوح مبدأ يهودية الدولة وحتمية اعتراف الفلسطينيين بها في أي تسوية كما يرفض حق العودة ويرفض أيضاً العودة على حدود يونيو عام 1967.

وهو بهذا المعنى لا يبتعد أيضا عن برامج أحزاب شبيهة اندثرت مثل "داش" وشينوي ، غير ان الحزب الجديد قد تميز فقط يكونه يتوجه للشباب وينادي بتوزيع عادل للثروة ولا يدخل في مواجهة سافرة مع الأحزاب الحريدية كما فعل حزب شينوي مثلاً، كل ذلك منح الحزب تأييداً واسعاً من جانب مصوتي حزب كان يسمى حزباً وسطاً أيضاً وهو حزب كاديما الذي هبط تمثيله في الانتخابات الأخيرة من 28 مقعداً إلى مقعدين فقط، ولكن عوامل إستمرار "يش عتيد " وبقاؤه فى الساحة السياسية الإسرائيلية لفترة أطول ستكون مرهونة بالعوامل التالية: 1 – الإسراع ببناء هياكل للحزب توضح أيدولوجيته ورؤيته لمستقبل إسرائيل وآلية محددة للإنتخابات الداخلية فيه، ووضع سياسة متميزة عن أحزاب اليمين واليسار فيما يتعلق بالتوجه إلى القاعدة الإجتماعية التى ستكون ضمانة الحزب للبقاء والتطور معا.

2- الحفاظ على التوازن الدقيق بين تلبية متطلبات المشاركة في الائتلاف والتى تقتضي مساومات صعبة ومرهقة، وبين التأكيد علي مصداقية الحزب وعدم تضارب ممارساته مع برنامجه الانتخابي.

3 – مواجهة تربص الأحزاب الكبيرة ذات التاريخ السياسي والحزبي الطويل مثل الليكود والعمل بالأحزاب الجديدة حيث تبين السوابق التاريخية أن أحد أهم أهداف الأحزاب التاريخية هو محاصرة الأحزاب الجديدة والسعي لتفكيكها وإنهاء وجودها.