مع صدور قرار مجلس الامن الدولى فى 20 ديسمبر الماضى بالموافقة على التدخل العسكرى فى مالى لمواجهة الجماعات المسلحة فى الشمال، التفتت الأنظار إلى القوات الافريقية وتحديدا قوات الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التى كان من المقرر انها ستتولى العملية العسكرية فى شمال مالى بقوات قوامها 3300 جندى وفقا لقرار الأمم المتحدة من ناحية، وكتقليد اتبعته الدول الأفريقية منذ سنوات بكونها تعتمد بصورة أساسية فى مواجهتها للصراعات الداخلية أو الاقليمية على قوات المنظمات الاقليمية كالاتحاد الأفريقى أو المنظمات الاقليمية الفرعية ان كان لهذه المنظمات آليات أمنية يمكن استخدامها فى هذه الحالات من ناحية أخرى.
إلا ان حالة "مالى" قد اتخذت مسار آخر بعيدا عن هذه التقاليد فقبل أن تتهيأ جيوش دول غرب أفريقيا للتدخل فى مالى قامت وزارة الدفاع الفرنسية بالاعلان عن مشاركتها العسكرية للجيش المالى فى مواجهة الجماعات التى تسيطر على معظم مدن الشمال وتهدف إلى تطبيق الشريعة الاسلامية فى هذه المدن وبالفعل ارسلت فرنسا قوات قوامها 1700 جندى وأعلن الرئيس الفرنسى هولاند أهداف الحملة الفرنسية فى مالى هي وقف الاعتداء، وتأمين العاصمة باماكو، والحفاظ على وحدة اراضى مالى، وتبع ذلك سلسلة من التعهدات من الدول الغربية كبريطانيا وبلجيكا والمانيا وهولندا وايطاليا حيث ترى هذه الدول ان فرنسا أصبحت ذراعا حربيا لها، هذا فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية التى تعهدت بدعم القوات الفرنسية فى حربها فى مالى ، كما أشادت مجموعة الثمانية بالعمليات العسكرية ورحب الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون بالتدخل الفرنسى فى مالى، وتفهمت كافة الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي للتدخل في مالى، ووافق الاتحاد الاوروبى على ارسال عسكريين لتدريب الجيش المالى، فى ظل وعود من بعض دول غرب أفريقيا مثل السنغال وبوركينا فاسو والنيجر ونيجيريا وغينيا بإرسال جنود للانضمام إلى قوة " الايكواس " ، وتحرك قوات بالفعل من نيجيريا وتشاد للمشاركة فى العمليات الحربية فى مالى، وموافقة منظمة المؤتمر الاسلامى على هذا التدخل العسكرى .
وأمام حالة الاستنفار الدولى والإقليمى للقضاء على الجماعات المسلحة فى شمال مالى برز تساؤل هام حول ضرورة الحملة العسكرية التى تقودها فرنسا وهل القوات الأفريقية لا تستطيع مواجهة هذه الجماعات دون اللجوء إلى الاعتماد على قوات غربية ؟ والسيناريوهات المحتملة لتطورات الأوضاع فى مالى بل وفى إقليم غرب أفريقيا فى ضوء التطورات الراهنة .
فمنذ اندلاع المواجهات بين قوات الجيش المالى والجماعات المسلحة فى الشمال عقب انقلاب مارس 2012 ، ودول العالم تنظر وتترقب تطورات الأوضاع هناك وخاصة بعد أن بدأت هذه الجماعات فى تطبيق بعض "الحدود" كجزء من تفسيرها للشريعة الإسلامية وهدم الأضرحة فى مدينة تمبكتو التاريخية ، إلا ان غالبية المراقبين والمهتمين كانوا يشيرون إلى ضرورة الاعتماد على الحل السياسى لهذه الأزمة ، وخاصة فى ظل قبول جماعة " انصار الدين " وهى احدى الجماعات المسلحة فى الشمال للتفاوض والحوار مع الحكومة المالية ، ولكن فرنسا كانت الدولة الوحيدة التى تؤكد منذ الوهلة الأولى على ضرورة التدخل العسكرى فى مالى للقضاء على هذه الجماعات ونجحت فى اقناع دول أخرى بهذا الحل مثل الولايات المتحدة التى كانت ترفض فى البداية استخدام الحل العسكرى.
فقد عمل تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الاسلامى خلال السنوات الأخيرة على استهداف المصالح والرعايا الفرنسيين فى منطقة الساحل الافريقى، وخاصة فى شمال مالى فى ظل اهمال الدولة لهذا الاقليم من البلاد الذى يمثل ثلثى مساحة الدولة وتركه للفقر والجهل ولعمليات التهريب المختلفة التى يشارك فيها تنظيم القاعدة، وقبل ان تبدأ ثورات الربيع العربى وتنجح الثورة الليبية فى القضاء على نظام القذافى وما تبعها من دخول آلالاف المقاتلين والاسلحة لمنطقة الساحل ، كانت عمليات اختطاف الرهائن الفرنسيين وطلب فداية لاستردادهم يقوم بها تنظيم القاعدة وعلى نحو واسع فى شمال مالى ‘ فخلال شهر يوليو 2010 قام الجيش الموريتانى والفرنسى بعملية مشتركة لانقاذ مجموعة من الرهائن المحتجزين فى شمال مالى الا ان هذه العملية بائت بالفشل ولا يزال ثمانية رهائن موجودين لدى القاعدة .
فى الوقت الذى لا تستطيع فيه فرنسا أن تمنع رعاياها من التواجد فى غرب أفريقيا ومنطقة الساحل فى ظل المصالح الحيوية الفرنسية فى هذا الاقليم فالمصانع الفرنسية تعتمد على مخزون اليورانيوم الذى تحتويه اراضى النيجر حيث تعد أكبر منتج لهذا المورد فى العالم، فشركة (أريغا) الفرنسية تدير عمليات استخراج اليورانيوم والذى يزود به أكثر من ثلث محطات الطاقة النووية لشركة (أو دى أف) للكهرباء فى فرنسا وتعتمد عليه المصانع الفرنسية حيث تحتكر الشركات الفرنسية استخراج اليورانيوم من مناجم النيجر منذ أكثر من أربعين عاما، يضاف إلى هذا تطلع فرنسا لاستثمار الموقع الاستراتيجى لدول غرب أفريقيا والاسواق التى يضمها الاقليم ، لذلك تخشى فرنسا ان تستخدم الجماعات المتشدد فى شمال مالى هذا الاقليم فى نشر الفوضى فى الدول المجاورة .
اما الدول الاوروبية الأخرى فهى ترى أن وجود جماعات متطرفة فى شمال مالى يهدد مصالحها وامنها ، كما ان هذه الجماعات بدات فى القيام بممارسات تتنافى مع حقوق الانسان .
كما أكد بعض العسكريين الأمريكيين ان الانخراط المباشر فى الحرب فى شمال مالى جاء بعد ان فقدت القوات النظامية فى مالى فى حربها ضد المتشددين فى الشمال اعداد كبيرة من الأسلحة والذخائر التى وقعت فى ايدى الجماعات المسلحة ، والتى كانت مساعدات من الدول الأوربية .
وقد قررت وزارة الدفاع الأمريكية زيادة حجم المساعدة التقنية والفنية لقوات الأمن فى موريتانيا من أجل التصدى بكفاءة أكبر للتهديد الذى تمثله الفصائل المسلحة الموجود فى شمال مالى، كما قررت الولايات المتحدة منح عدة دول معنية بالمسألة الأمنية في إقليم أزواد معلومات دقيقة وصور جوية متواصلة لمعاقل الجماعات المسلحة المتشددة فى شمال مالى ، إلا أن بعض التقارير أفادت بوجود انقسام بين وزارة الدفاع الأمريكية التى يعكف بعض مسئوليها هذه الأيام على وضع خطة لنقل العمليات من أفغانستان وباكستان إلى دول الساحل الأفريقى، والبيت الأبيض الذى لايزال يتخذ موقفا حذرا من التورط الامريكى مجددا فى أفريقيا .
ومن ثم جاءت الموافقة الفرنسية على التدخل عسكريا فى مالى سريعة وحاسمة بعد ان طلب مساعدتها الرئيس المالى المؤقت تراورى وبعد أن تمكنت جماعة أنصار الدين من السيطرة على مدينة " كونا " وسط مخاوف من استمرار زحف الجماعات المسلحة وتمكنها من السيطرة على العاصمة باماكو.
ويبدو ان فرنسا لم تمهل القوات الأفريقية ممثلة فى قوات الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الايكواس) والقوات الأخرى التى اعلنت مشاركتها فى الحملة العسكرية ؛ لتأخذ على عاتقها مهمة مساعدة الجيش المالى فى استرداد شمال مالى من الجماعات المسلحة والحيلولة دون وقوع مدن أخرى فى الجنوب تحت سيطرتها، إلا أن قرار التدخل العسكرى الفرنسى فى مالى ينطوى على مغامرة كبيرة ويفتح المجال امام سيناريوهات مختلفة لنتائج هذه الحرب وان كان الجانب الاكبر من هذه السيناريوهات ينذر بتطورات كارثية تتجاوز طموحات الرئيس الفرنسى الذى يسعى إلى تفعيل الدور الفرنسى فى أفريقيا .
فوفقا لتصريحات المسئولين الفرنسيين فإن القوات المتدخلة لن تبقى طويلا فى مالى وستحاول احراز نصر سريع على الجماعات المسلحة لتنسحب وتعود إلى دولها بمجرد القضاء على هذه الجماعات ولتترك مالى آمنة فى حماية الجيش الوطنى ،وهذا السيناريو يتفق بصورة كبيرة مع المصالح الفرنسية ، فقد يطعن الفرنسيون على قرار رئيسهم بارسال جنود فرنسيون إلى مالى فى الوقت الذى تبادر فيه فرنسا بسحب قواتها من أفغانستان ، واذا استمرت العمليات العسكرية لفترات زمنية طويلة سيصبح شعار " الحرب على الإرهاب " شعارا واهنا فى ظل حالة الغموض والالتباس التى تتسم بها هذه الحرب.
الا ان المدى الزمنى للعمليات العسكرية لا يمكن تحديده مسبقا فالجيش المالى واجه جماعات مسلحة تفوقت عليه من الناحية الاستراتيجية والهجومية ولذلك تمكنت من السيطرة على مدن الشمال وكانت فى طريقها لاسقاط مدن الجنوب والعاصمة باماكو، وهذه الجماعات لا تعتمد فقط عى الاسلحة الحديثة التى ورثتها عن النظام الليبى والاسلحة التى استحوذت عليها من الجيش المالى اثناء المعارك، ولكنها ستعتمد وخاصة فى ظل وجود قوات غربية على الأساليب غير التقليدية فى الحرب مثل عمليات الكر والفر والعمليات الانتحارية وتفخيخ السيارات وغيرها ن الاساليب التى تتبعها الجماعات الإرهابية، وفى ظل الامدادات الحربية التى تعهدت بها الدول الاوروبية ستتحول " مالى " إلى أفغانستان جديدة بما يحمله هذا الأمر من تداعيات بالغة السوء سواء على المستوى الانسانى أو السياسى والأمنى ممثلة فى هروب آلالاف اللاجئين إلى الدول المجاورة، مع تدمير للبنية التحتية والمؤسسات فى مالى، هذا فضلا عن تزايد أعداد الضحايا.
وقد تؤدى هذه الحرب إلى تحول مالى إلى دولة فاشلة او تقسم إلى دولتين بعد ان كانت نموذجا للدول المستقرة سياسيا فى أفريقيا، بل وقد تنتشر الفوضى فى الدول المجاورة الغارقة فى مشكلات اجتماعية واثنية واقتصادية حادة ، وكانت بادرة هذا الأمر فى الجزائر التى اضطرت الى استخدام قواتها العسكرية للافراج عن رهائن اخطفتهم الجماعات الإرهابية فى الجنوب الشرقى للبلاد على خلفية الحرب فى مالى، ومن ثم تصبح منطقة الساحل قاعدة للجماعات الإرهابية، مما قد يدفع الدول الغربية إلى الاسراع ببناء قواعد عسكرية فى هذه المنطقة والسيطرة على مواردها الاستراتيجية وبما يمثل استعمار جديدا لدول القارة .
رابط دائم