قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2012-5-6
صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

في الرابع عشر من ابريل المنصرم عقدت فعاليات مؤتمر إسطنبول لمناقشة أزمة البرنامج النووي الإيراني والذي ضم مجموعة 5+1 وإيران وسط أجواء وصفها البعض بالإيجابية، على الرغم من حالة التوتر التي تشهدها التطورات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط والتي ترتبط بصورة غير مباشرة بخريطة التحالفات الإقليمية الإيرانية ومصالحها في المنطقة وترتبط في الوقت نفسه بمصالح القوى الكبرى وفى مقدمتها الولايات المتحدة وتحالفاتها الإستراتيجية، الجديد في المؤتمر أنه جاء في وقت تضغط فيه إيران على العديد من الملفات الإقليمية خاصة الأزمة السورية من ناحية، والتوتر الطائفي في العراق من ناحية ثانية، ناهيك عن التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربة عسكرية اجهاضية لبرنامجها النووي من وقت لآخر من ناحية ثالثة، هذه التطورات ألقت بظلالها على أجواء المؤتمر ووفرت أرضية جيدة لمناورات إيرانية جديدة حيث بات بإمكانها في ظل الأوراق الإقليمية التي تتحكم فيها أن تقدم قدرا بسيطا من التنازلات لا يتماشى مع سقف المطالب التي ترغب الدول الكبرى في حمل إيران على تنفيذها والقبول بها، وهو أمر أثبت فشله بمرور الوقت؛ حيث تمكنت طهران في فترة وجيزة من تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% الأمر الذي دفع تلك القوى إلى تبنى العقوبات وسيلة لحمل طهران على خفض نسبة التخصيب لتصل إلى 3.5% .

في هذا السياق جاء المؤتمر الذي ذهبت إليه إيران وهى مفعمة برغبة شديدة في التعاون مع الدول الغربية بشأن برنامجها النووي، ولكن دون التنازل عن حق امتلاكها للنووي كما رغبت، ومن ثم هدفت إلى الاحتفاظ بأجهزة الطرد المركزي مقابل موافقتها على تقليل نسبة الإنتاج من اليورانيوم المخصب، وبالتالي تكون طهران قد وضعت القوى الكبرى أمام خيار "وحيد" وهو القبول بهذا المطلب الإيراني لأن البديل الناتج عن فشل هذه المفاوضات في ظل السياق الإقليمي المتوتر سيكون بديلا مكلفا على المستويين السياسي والاقتصادي خاصة للولايات المتحدة التي تعي تماما حجم التغييرات الحادثة في المنطقة ومدى تأثيرها مستقبلا على أمن إسرائيل من ناحية ، وتعي في الوقت نفسه عدم قدرتها على شن أية حرب خارجية في الوقت الراهن خاصة في ظل موسم الاستحقاقات الانتخابية الحالي وفى ظل الآثار السلبية التي تحملتها واشنطن اقتصاديا وسياسيا للحرب في أفغانستان والعراق من ناحية ثانية.

وعليه فإن القبول بتسوية الوضع مع إيران خلال المرحلة القادمة ستتلخص في الموافقة الغربية على إتاحة المجال أمام طهران لتخصيب اليورانيوم بدرجة منخفضة عن السقف الذي حددته طهران على أن يتم استخدام هذه النسبة في الأغراض غير العسكرية مقابل منح الهيئة الدولية للطاقة الذرية " حقوق" أكثر شمولا وفاعلية في الرقابة والتفتيش داخل إيران. في إطار ذلك تعددت قراءات فعاليات وأجواء ومن ثم نتائج مؤتمر اسطنبول؛ فهناك من يرى أن المؤتمر لم يخرج عن كونه مجرد " بالونات اختبار " دبلوماسية لا أكثر وأن النتيجة الأساسية له هو محاولة بناء الثقة بين الطرفين الغربي والإيراني دون أن تكون هناك مواقف محددة من الطرفين أو قرارات تتخذ، وكان هذا الأمر هو سبب حالة التفاؤل التي سيطرت على أجواء المؤتمر والتي عبر عنها مايكل مان المتحدث باسم وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون قائلا: "يبدو أن المبادئ لإجراء مفاوضات جديدة متوفرة"، وبالتالي ووفقا لهذه الرؤية فإن الاجتماع لم يسفر بالفعل عن حلحلة للأزمة ولكن أسفر لأول مرة عن تلاقى نوايا الطرفين بضرورة البحث عن مخرج وإحداث اختراق في المفاوضات القادمة.

أما البعض الآخر فيرى أن دوافع القوى الكبرى في درء أية مواجهة عسكرية في المنطقة خلال الفترة القادمة من باب عدم الرغبة في تحمل فواتير سياسية واقتصادية جديدة في المنطقة ومن باب سد المخاوف من أن تؤدى ضربة عسكرية إسرائيلية غير محسوبة ضد إيران إلى عواقب كارثية وخيمة في المنطقة التي تشهد تغييرات حادة في الأنظمة السياسية لعدد من الدول المحورية والمؤثرة في النظام الإقليمي العربي، وكذلك دوافعهم - خاصة الدول الأوروبية - في الحفاظ على المزاوجة بين الحوار من ناحية والعقوبات من ناحية أخرى مع إضافة وسيلة التهديد كوسيلة جديدة هي التي غلفت المؤتمر في اسطنبول بأجواء إيجابية على سبيل أن المؤتمر لم يخرج عن كونه اجتماعا ربما لبناء الثقة المتبادلة وتجاوز الخلافات من خلال المفاوضات التي قد لا تكون قادرة على تحقيق انفراج فعلى في الأزمة عبر الجولة الأولى منها وإنما إظهار جدية لتحريك مياه الحوار الراكدة للانطلاق بعد ذلك نحو اتفاقات الفرصة الأخيرة كما هو مأمول، وفى المقابل أقرت إيران وللمرة الأولى بأنها " ترى نقاط مشجعة في تصريحات المسئولين الغربيين". في هذا الإطار جاءت ردود الأفعال الإسرائيلية على نتائج اللقاء السداسي بين إيران ومجموعة 5+1 حادة وشديدة اللهجة، حيث انتقدت الأوساط الرسمية الإسرائيلية المؤتمر ووصفته بأنه مخيبا للآمال بل شنت تلك الأوساط حملة انتقادات واسعة على المتفاوضين لاسيما كاترين أشتون، وانتقدت تل أبيب أيضا ما أسمته بتلكؤ الدول المتفاوضة في فرض الوقف الفوري لتخصيب اليورانيوم بدلا من تأجيلها إلى مؤتمر بغداد والذي سيعقد في 23 مايو المقبل وأن الدول المتفاوضة بهذا الشكل تكون قد قدمت "هدية" لإيران لأنها ستحصل على مهلة خمسة أسابيع لمواصلة تخصيب اليورانيوم دون أي معارضة دولية، ومن ثم فإن إسرائيل تقرأ في نتائج هذا المؤتمر أن الدول الغربية والولايات المتحدة في الوقت الراهن ليست لديهم الرغبة والقدرة على ممارسة أية ضغوط سياسية واقتصادية على إيران وأن ثمة موافقة ضمنية من جانب تلك الدول على الاعتراف بحق إيران في امتلاك برنامج نووي وهو ما يعد تغييرا نوعيا في مواقف الدول الكبرى التي ترى أن المتغيرات الإقليمية الحالية تفرض تعاطيا مختلفا مع إيران التي تتحكم في ملفات إقليمية عديدة، وأن المشكلة الأساسية تكمن في تخصيب اليورانيوم بالنسب التي تعمل لوفقها إيران وبالتالي فإن الدول الكبرى في اتجاهها نحو اتفاق يتضمن ضمانات أوروبية أمريكية مشتركة بتوفير اليورانيوم مقابل وقف طهران لنشاطات التخصيب ولكن بالنسبة لإيران فإن هذا الطرح لن يلق استجابة إلا إذا قدمت الدول الكبرى تعهدات دولية تشمل تخفيف العقوبات سواء المفروضة عليها من جانب الأمم المتحدة أو من جانب الدول الكبرى مع السماح لها بالاحتفاظ ببرنامج نووي سلمى. هذا بالنسبة للدول الكبرى، أما على الجانب الإيراني فقد نال المؤتمر وأجوائه استحسان العديد من المسئولين في طهران واعتبر مقدمة لمفاوضات جديدة تستطيع طهران بمقتضاها تحقيق خطوات فعالة وباعتراف دولي في مسار امتلاكها لقوة نووية.

والملفت للانتباه في ردود الأفعال الصادرة من طهران هو رد فعل الحرس الثوري الذي أشاد بالمؤتمر باعتباره حقق لإيران نتيجتين على قدر من الأهمية الأولى ، إقرار القوى الكبرى بأن إيران ليس بمقدورها امتلاك سلاحا نوويا وهو ما يتماشى على حد وصف البيان الصادر عن الحرس الثوري مع رؤية المرشد الأعلى على خامنئى بأن طهران ليست لديها النية مطلقا في إنتاج سلاح نووي، أما الثانية فتشير إلى إقرار المؤتمر بأحقية إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية للاستخدام السلمي وهى النتائج نفسها التي عبرت عنها لجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية بمجلس الشورى الايرانى، إلا أن قراءة واقعية لتلك النتائج توضح الملاحظات التالية: • الأولى : أن الدول الكبرى أوضحت لإيران أنه لا يمكن استمرار المفاوضات إلى الأبد وأن التطورات الخارجية خصوصاً على مستوى العلاقات الأمريكية الإيرانية وتفاعلاتها في أفغانستان والعراق ثم أخيرا الوضع في سوريا الذي يبدو أن إيران هي الرابحة حتى الآن في إدارة دفة الصراع الإقليمي حول أزمتها ( الأزمة السورية) بالإضافة إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية وبدء حملاتها شكلت جميعها عوامل مهمة دفعت واشنطن إلى إعادة ترتيب أوراقها مع إيران بمعنى أكثر وضوحا يمكن القول أن إيران بدأت تحصد حاليا نتائج وثمار سنوات من العمل الدءوب في مواجهة الدول الكبرى بشأن برنامجها النووي. • الثانية : فتشير إلى إيران نفسها التي تعانى ظروفا اقتصادية ستدخل في مسار الأزمة إذا استمرت العقوبات الحادة المشددة عليها خاصة تلك التي فرضت على القطاع النفطي حيث بدأت تأتى ثمارها بقوة، الأمر الذي دفع طهران إلى إعادة تقييم خطواتها وإبداء قدر من المرونة في تعاملاتها مع الدول الكبرى. • الثالثة : تشير إلى تزامن المفاوضات المستمرة حول الأزمة السورية في الأمم المتحدة وما خلصت إليه مهمة المبعوث الأممي العربي المشترك كوفى أنان في دمشق وبين مباحثات اسطنبول التي نحن بصددها، التزامن وإن كان غير متعمدا إلا أن ثمة خطا ومسارا يمكن أن يجمع بين الحدثين وهو حجم التورط الإيراني في الأزمة السورية ومساندته القوية لبقاء نظام الأسد مدعوم بمساندة روسية وصينية مستمرة، فالفاعلين الدوليين هم أنفسهم في الأزمتين ( الإيرانية والسورية ) وفى نفس مواقعهم؛ الطرف الأمريكي والأوروبي المناهض للبرنامج النووي الايرانى هو نفسه الطرف المناهض لسياسات بشار الأسد وإن توارى خلف مخاوف من أن يؤدى التدخل العسكري في سوريا إلى تداعيات خطيرة على المنطقة بأكملها، والطرف الروسي المساند لإيران في مسار برنامجها النووي هو الطرف نفسه المساند لنظام بشار الأسد وكلا الطرفين المتضررين إيران وسوريا يجمعهما تعاونا استراتيجيا واضحا ومن ثم فإن الربط بين الأزمتين الإيرانية والسورية مع اختلاف طبيعتهما بات أمرا حتميا تفرضه طبيعة المصالح الثنائية بين الحليفين وضد القوى الكبرى، ومن ثم فإن المرونة التي تصل إلى حد السكوت عن جرائم ضد الإنسانية التي تعاملت بها القوى الكبرى مع نظام بشار الأسد القمعي تماهت إلى حد كبير مع المرونة التي تعاملت بها القوى الكبرى - وهى واحدة في الأزمتين- مع مفاوضات اسطنبول الخاصة بأزمة البرنامج النووي الايرانى، وجميعها تخلص إلى حقيقة أن الدول الكبرى تسعى إلى مزاوجة التطورات الحادثة على ساحة الشرق الأوسط مع مصالحها الاقتصادية والسياسية.

والكلام نفسه ينطبق على إيران التي اضطرت إلى العودة لتلك المفاوضات بعد تعنت طويل في ظل كل الاعتبارات السابق ذكرها وهو ما دفعها أيضا إلى قبول مهمة انان الدولية في سوريا وأشارت على بشار الأسد بقبول التعامل مع المبعوث الأممي بعد أن كانت ترفض تماما أي تدويل للقضية.

وأخيراً، يبدو مما سبق أن حلحلة القضايا المتعلقة بأزمة البرنامج النووي الايرانى وما يرتبط بها من ملفات إقليمية أخرى باتت مطلبا دوليا وإيرانيا على حد سواء في ظل التطورات الآنية والقادمة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فمن المتوقع أن يشهد مؤتمر بغداد في 23 مايو القادم قدرا أكبر من المرونة والاختراق الذي تفرضه رغبة الطرفين - القوى الدولية وإيران - في تجنب حرب إقليمية في المنطقة لن تخدم مصالح أيا من الطرفين.