عندما أعلن الدكتور محمد البرادعي عدوله عن فكرة الترشح لانتخابات الرئاسة اتهمه الكثير من أنصاره بالانهزامية، وبالتخلي عن طيف كبير من شعب مصر رأى في البرادعي مشروعاً جديراً بالثقة وبالاحترام.
وانتظرنا كمؤيدين للبرادعي وانتظر معنا باقي مراقبي المشهد السياسي المصري خطوته القادمة بناء على ما جاء في بيان انسحابه من تأكيد على استمرار عمله مع شباب الثورة بهدف تحقيق مطالبها وإرساء مبادئها من خارج مواقع السلطة وبالتحرر من كل القيود.
وبعد ثلاثة أشهر من بيان عدم ترشحه لرئاسة الجمهورية، أعلن البرادعي عن تأسيس حزب الدستور ليضع الإطار الذي يمكنه من خدمة الثورة التي آمن بها وكان من أوائل الساعين لإحداثها.
وفي تأسيس حزب الدستور عدد من الملاحظات المهمة للحركة الاجتماعية في مصر التي كانت بمثابة شرارة التمهيد لما حدث في 25 يناير، وواجهت بعد الثورة عملية إجهاض منظمة بإشراف الدولة.
نتحدث كثيراً عن الثورة المضادة، والحرب على الثورة، وسرقة الثورة أو الركوب عليها، وعدد آخر من المصطلحات والتسميات التي تصب كلها في خانة واحدة، وهى عدم قدرة قوى الثورة تحقيق الأهداف التي ثارت من أجلها نتيجة لعدد من العراقيل التي تواجهها هذه القوى في الحياة السياسية.
وبعيداً عن نظريات المؤامرة والرؤى غير الموضوعية المبنية على توجهات شخصية، نجد أن الأزمة الحقيقية تكمن في الفجوة بين قوى الثورة كحركة اجتماعية غير مؤسسية، والعملية السياسية التي وضعتها الدولة كإطار للتحول الديمقراطي وما جاء في طياتها من تخبط، وسلطوية في صناعة القرار وتفرد في اتخاذه.
فالمجلس العسكري وضع خارطة طريق للمرحلة الانتقالية قائمة على المؤسسية، بدءاً بإنشاء الأحزاب، ثم انتخابات تشريعية بنظام انتخابي يمنح للأحزاب نصيب الأسد من مقاعد المجلسين، ثم كتابة دستور تقوم عليه القوى السياسية المؤسسية التي تبلورت خلال الفترة الانتقالية.
وفي إطار هذه العملية السياسية وجدت الحركة الاجتماعية نفسها محاصرة بين ضيق الوقت وضعف الإمكانات من ناحية، وبين الاستقطاب الديني وديكتاتورية الحكم العسكري من ناحية أخرى.
ومن ثم عمقت المرحلة الانتقالية الفجوة بين قوى الثورة والدولة، وضاق الخناق على الحركة الاجتماعية وقدرتها على الفعل السياسي الذي ارتبط بالمؤسسية.
وانطلاقاً من هذه الأزمة جاء حزب الدستور ليكون محاولة لتضييق الفجوة بين الحركة الاجتماعية وبين المؤسسات السياسية من خلال تأسيس حزب من قبل أقطاب الحركة الاجتماعية يعمل في إطار السياسة المؤسسية دون الالتزام بجدول زمني تفرضه الدولة، أو إجباره على المشاركة في عملية سياسية تضفي شرعية على ممارسات مرحلة مطعون على شرعيتها.
وحول مدى قدرة حزب الدستور على تضييق هذه الفجوة، نطرح هنا الملاحظات التالية:
أولاً، أن شخص الدكتور البرادعي ومن معه من مؤسسين للحزب لديهم ما يكفي من رصيد ومصداقية لدى الشارع بما يؤهلهم لحشد دعم جماهيري للحزب من مختلف مدن مصر، كما أن الحركات الاجتماعية الفاعلة والمتواجدة في أنحاء مصر المختلفة لديها مع مؤسسي الحزب ما يكفي من أرضية مشتركة فيما يتعلق بأهداف الثورة وأخطاء المرحلة الانتقالية وهو ما يضمن تأييد جماهيري وانتشار جغرافي واسع.
ثانياً، أن توقيت تأسيس الحزب يختلف عن توقيت تأسيس أحزاب أخرى خرجت أيضاً من عباءة الثورة والحركة الاجتماعية، فهناك فارق بين تأسيس حزب سياسي لخوض عملية سياسية برعاية سلطة انتقالية لم تتعامل مع الشعب بالنزاهة الكافية، وهو ما حدث مع الأحزاب التي تأسست خلال عام 2011، وبين تأسيس حزب سياسي قائم علي رفض ما حدث في المرحلة الانتقالية من أخطاء والسعي للرجوع بالثورة لمسارها الصحيح.
بمعنى آخر، فإن الأحزاب التي تأسست خلال عام 2011 والمحسوبة على الحركة الاجتماعية كان يتعين عليها أن تنحي مبادئها ونهجها في العمل جانباً لكي تعمل بقواعد الدولة فيما فرضته عليها من فرصة سياسية، أما حزب الدستور فتأسس هادفاً لدخول معترك المؤسسية بشروطه ومبادئه في العمل بعد أن تأكد مؤسسوه من عدم جدوى ما حدث مع الأحزاب التي تأسست بالفعل.
ثالثاً، عدم ارتباط الحزب بعملية سياسية مجدولة زمنياً، فالأحزاب التي تأسست خلال عام 2011 وجدت نفسها في مأزق الانتخابات البرلمانية، إذ لم تتعد الفترة الزمنية بين إنشاء هذه الأحزاب وخوضها الانتخابات البرلمانية أكثر من ستة أو سبعة أشهر، وهو ما كان سبباً رئيساً في ضعف أدائها في الانتخابات.
ولكن الوضع يختلف بالنسبة لحزب الدستور بسبب عدم ارتباطه بسقف زمني محدد سلفاً، فهو حزب لديه فرصة حقيقية للعمل من أسفل لأعلى، وليس من أعلى لأسفل، وهو ما يعد الفارق الجوهري بين الكيان السياسي المؤسسي والحركة الاجتماعية، فعدم سعي الحزب للحاق بجدول زمني يسمح له أولاً بالتواجد على الساحة السياسية، ثم الانتشار الجغرافي، ثم خلق الكوادر والكفاءات، ثم خوض انتخابات المحليات ثم الانتخابات التشريعية وأخيراً الانتخابات الرئاسية.
بمعنى آخر، بإمكان حزب الدستور التواجد اجتماعياً بشكله المؤسسي قبل أن يتواجد سياسياً، وهو ما لم يكن متاحاً لسائر الأحزاب التي خرجت من مظلة الحركة الاجتماعية خلال عام 2011.
رابعاً، يأتي حزب الدستور ليطرح حلاً لمعضلة الثورة المصرية المتمثلة في غياب القيادة السياسية بمفهومها المتماسك.
فحزب الدستور لديه قيادة تحظى بالشعبية وتتمتع بالكاريزما متمثلة في شخص الدكتور البرادعي، كما أن ما تحدث عنه البرادعي من سعيه لتقديم خبرات دولية لأعضاء الحزب وشبابه من خلال التدريب يشير إلى اهتمام الحزب بفرز قيادات جديدة تجمع بين خبرة الحركة الاجتماعية والأسس السليمة للعمل الحزبي.
ومع أهمية جميع العوامل السابقة التي تشير إلى إمكانية نجاح حزب الدستور في تضييق الفجوة بين الحركتين الاجتماعية والسياسية المؤسسية، إلا أن الأمر لا يخلو من بعض التحديات.
لعل التحدي الأكبر والأكثر أهمية هو وحدة صف الحزب نفسه.
فالدكتور البرادعي عبر في مناسبات مختلفة عن انتقادات لأداء قوى الثورة خلال الفترة الماضية، مثل انتقاده لاستهلاك فكرة الاعتصام والعودة بالحركة الاجتماعية لحيز الحركة الاحتجاجية، وهى آراء لا تخلوا من وجاهة.
لكن على الجانب الآخر، نجد أن مؤسسي الحزب هم جزء لا يتجزأ من تحركات قوى الثورة التي انتقدها البرادعي.
ولا يعد هذا التباين تمهيداً حتمياً لانشقاق الحزب على نفسه داخلياً، فمازال الوقت مبكراً للتوصل لمثل هذا الاستنتاج، ولكنه يعبر عن اختلاف في الرؤية بين مؤسسي الحزب حول العمل الجمعي والتواجد الفعلي في الشارع.
ومما لا شك فيه أن هناك فرصة لاحتواء هذا التباين من خلال العمل المؤسسي للحزب.
التحدي الثاني يتعلق ببرنامج الحزب الذي لم يُطرح بعد، ولكن تحليل المواقف السياسية والكتابات المختلفة للبرادعي وباقي المؤسسين يشير إلى انتماء الحزب أيدولوجياً لليسار الديمقراطي، ولكن يبقى ترجمة التوجه الأيدولوجي عملية على أرض الواقع.
وأخيراً يواجه حزب الدستور تحدي ثالث يتعلق بالموازنة بين السياسة المؤسسية وبين الشارع بمفهومه الاجتماعي والسياسي.
هذه الموازنة لن تحدث إلا من خلال إيجاد المساحة التي تسمح للحزب بالاتساق مع مبادئه في ظل المعادلة بين الدولة والحركة الاجتماعية.