بعد اختفاء دام طويلاً، قياساً بحجم الأحداث الجسام المتلاحقة في مصر، طل علينا الدكتور محمد البرادعي، أحد رموز الثورة المصرية، بإعلانه تأسيسه حزب جديد يحمل اسم "الدستور".

وعلى الرغم من أن اسم الحزب يحمل في طياته دلالات كثيرة، منها الشكلي، مثل أن اسم الحزب هو أحد الأزمات التي تمر بها مصر حالياً، أقصد هنا عدم قدرة الفرقاء السياسيين والفاعلين في المجتمع على تخطي عقبة اختيار أعضاء لجنة المائة لوضع الدستور، والتي أخذت من الوقت ما هو أطول بكثير من الوقت الذي ستستغرقه كتابة الدستور ذاته.

أما الملاحظات الموضوعية، فهي تتمثل:

أولاً، في أن اسم الحزب جامع لكل المصريين على اختلاف مشاربهم خاصة بعد أن عانى المواطنون-ومازالوا- من صعوبات المرحلة الانتقالية من تخبط وارتباك في إدارتها من قبل كل القوى القائمة عليها، وربما تعود بنا هذه الطريقة الخاطئة إلى المربع صفر ومشهد مارس 2011 من معضلة أيهما أولاً الدستور أم الانتخابات؟

ثانياً، يحمل اسم الحزب مدلول مستقبلي، حيث يرسم دائماً الدستور الملامح المستقبلية ليس فقط لشكل الدولة وطريقة إدارتها، ولكن أيضا لإقرار الحقوق والحريات العامة الفردية منها والجماعية، ويضمن إدماج الفئات المهمشة في العهود السابقة في بنية الدولة والنظام الجديد، ويضمن تمثيل عادل لجميع الفئات في المجتمع.

ثالثاً، يسعى الحزب بأن يكون حزب الأغلبية خلال فترة الأربع سنوات القادمة، وهذا حق مشروع، في ظل ترهل الحياة الحزبية وتشرذمها بين أحزاب تطلق على نفسها أحزاب ذات مرجعية دينية، أو يسارية، وأخرى ليبرالية، وفى مضمون برامجها لا تستطيع أن تفرق بين ما هو ليبرالي أو يساري أو حتى ديني، فالكل سارع في اغتنام مكاسب الثورة وترجمة مبادئها وأهدافها في برامج تصل إلى حد التماثل، بدون وعي أو قصد مما أربك المواطن المصري.

رابعاً، ربما يكون هذا الحزب، ونأمل أن يكون كذلك، الوعاء الجامع لكل شباب الثورة الذين لم ينضموا لتنظيمات تكون لها صفة المؤسسية والديمومة في ذات الوقت، وحتى لا يخسر الشباب كل شئ في الفترة القادمة، مثلما خسر تمثيلاً عادلاً في مجلسي الشعب والشورى، وفى ظل محاولات استعداد من جانب قوى التيار الديني من إحكام سيطرتها على المحليات أيضاً، وهى الأهم من وجهة نظرها ونظري المتواضعة.

فهي المهمة من وجهة نظر التيار الديني لأنها بحاجة إلى المحليات لفرض نموذجها من القاعدة وإحكام سيطرتها على الجماهير وبذلك تتم لها السيطرة على جميع المجالس المنتخبة.

وهى مهمة من وجهة نظري ليس فقط لتقويض الفرصة على التيار الديني لبث أفكاره وسيطرته على عقول المصريين ولكن لأن المحليات هي المدرسة الأولى لتعلم الديمقراطية والممارسة الحزبية وتوفير كوادر للمجالس التشريعية الأخرى.

خامساً، أن يكون الحزب نقطة الالتقاء بين جميع الفرقاء من الأحزاب والقوى السياسية المختلفة، حيث أكد الدكتور البرادعي أن الحزب سيتواصل مع الأحزاب لتشكيل قوة موحدة لنقل السلطة للشباب، والمساهمة في إنقاذ الثورة المصرية بعد أن انحرفت عن مسارها وباتت على شفا الإجهاض، واستعادة وحدة المصريين في تحقيق أهداف الثورة "عيش – حرية – كرامة إنسانية"، ولم شملهم بعدما تم تنحية الشعب جانباً خلال المرحلة الانتقالية إضافة إلى العودة مرة أخرى لبداية الثورة عن طريق عمل سياسي منظم وموحد.

وفى ضوء ما سبق من ملاحظات شكلية وموضوعية يثور تساؤل مهم حول مدى إسهام الحزب الوليد في تطوير مستقبل الحياة الحزبية في مرحلة التحول الديمقراطي؟ وهل يمكن أن تشهد مصر تطويراً حقيقياً في التعددية الحزبية يسمح لجميع الأحزاب الجدية بالتنافس الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة؟ وعلى الرغم من ذلك فإن هناك عوامل أساسية تؤثر في التعددية الحزبية في أي مجتمع وهي التي تحدد مدي إمكانية نضج هذه التعددية من عدمه.

وبمعنى مغاير يتوقف مستقبل الحياة الحزبية في مصر على مجموعة من الأطر والعوامل منها الإطار الدستوري والقانوني، وطبيعة السلطة القائمة، ومدى توافر المقومات الأساسية للأحزاب الجديدة – وهى الأهم من وجهة نظري- حيث يدخل في دائرة العوامل المؤثرة في التعددية الحزبية سلباً وإيجاباً مدى توافر المقومات الأساسية لأي حزب والتي لا يمكن بدونها اعتباره حزباً حقيقياً مثل البرنامج السياسي والكادر السياسي وشبكة العلاقات الجماهيرية والانتشار الجغرافي بما يؤكد أنه يعبر بالفعل عن قوى اجتماعية محددة في المجتمع.

أيضا تعتبر القدرات المالية والمقرات الحزبية من المقومات الأساسية المطلوبة لأي حزب.

فهناك العديد من الأحزاب لن تستطع أن ترى النور بسبب قلة الموارد المالية المطلوبة لعمل التوكيلات أو توفير المقرات الحزبية.

ويضاف إلى ما سبق البنية التنظيمية، فأغلب الأحزاب الجديدة لا يمتلك بنية تنظيمية مؤسسية واضحة، فلا يوجد لها تمثيل في المحافظات أو مقار بها، ولا تستطيع أن تقدم مرشحين عنها في أغلب الدوائر الانتخابية.

ويضاف إلى ما سبق التماسك والالتزام الحزبي، فالانشقاقات والانقسامات أحد السمات الحزبية المصرية، فأحد الملامح الرئيسية للأحزاب المصرية أنه ليس لها خريطة مستقرة، وإنما على الدوام تجد إضافات لتلك الخريطة بقيام أحزاب جديدة تشمل في الأغلب أعضاء وقيادات انشقوا على أحزابهم الأصلية.

وتقريباً، عرفت أغلب الأحزاب المصرية ظاهرة الانشقاق، بما فيها الأحزاب الكبيرة نسبياً كأحزاب الوفد والناصري، والأحزاب الصغيرة كحزب مصر الفتاة، وحزب العدالة الاجتماعية، وحزب الخضر، وحزب مصر..

الخ، وأيضا الأحزاب الجديدة كحزب الغد وحزب الجبهة الديمقراطية.

وحتى الأحزاب التي نشأت بعد ثورة 25 يناير عانت من هذه الظاهرة مثل أحزاب الوسط والحرية والعدالة والكرامة وأخيراً العدل الذي شهد حركة كبيرة من الاستقالات نتيجة مصالح وصراعات شخصية في الحزب.

وعلى الرغم مما سبق، يمكن أن يستطيع حزب الدستور الوليد أن يتجاوز كل العقبات السابقة، ولكن لنا عدة ملاحظات على نشأته وعلى الأحزاب الأخرى أيضاً، منها ما يلي:

أولاً- النخبوية في التأسيس، فمازالت الأحزاب الجديدة نخبوية في عملها وإدارتها ولم تستطيع الوصول إلى رجل الشارع العادي، لذا نستطيع أن نطلق عليها لفظ "أحزاب الميدان " مؤسسوها إما من ثوار التحرير ، أو من الذين عزفوا عن المشاركة السياسية طيلة السنوات الماضية ، وإلي جانب هؤلاء وهؤلاء آخرون شجعتهم الثورة علي خوض التجربة الحزبية والعمل السياسي.

وفى الحقيقة فإن حزب الدستور يقع هو الآخر ضمن هذه الأحزاب، فشخوص الدكتور البرادعي وعلاء الأسواني وحسام عيسى وأحمد حرارة ربما تكون عامل مشجع على الانضمام للحزب، ولكن آليات العمل الحزبي تختلف كثير عن التمنيات والتوقعات مع شعب نسبة الأمية فيه تتجاوز الـ 40% في ظل سيطرة التيار الديني على المواطن العادي في الشارع.

ثانياً- التكاليف المالية والدعم المطلوب للأحزاب، أن الدعم المالي المطلوب للأحزاب لا يتوقف عند تسهيل إجراءات الحصول على الرخصة القانونية، والاكتفاء بنشر أسماء الأعضاء المؤسسين في الصحيفة الرسمية الذي سيتكلف 5 آلاف جنيه مقابل ربع مليون جنيه تكاليف النشر في أي صحيفة يومية.

فلابد للدستور وغيره أن يقوم بفتح مقار حزبية في المحافظات والمراكز والقرى فإذا لم يستغل الحزب هذه التربة الخصبة والمواتية في الوقت ذاته من الاهتمام بالسياسة من جميع المصريين فإن الأمور ستكون صعبة على الدستور في المستقبل من إعداد كوادر وتجنيد حزبي لصالحه في المستقبل.

ثالثاً- غياب خيار التحالف والاندماج بين الأحزاب، فعلى الرغم من أن الأحزاب التي ولدت من رحم الثورة هي الأكثر عددا حتى الآن، ولكن الأرجح أن القليل منها هو الذي سيكتمل تأسيسه ويرى النور، فالقائمون على الكثير من هذه الأحزاب لا يفرقون بين الحزب السياسي والحركة الاجتماعية والمنبر الثقافي.

كما أن تقارب أسماء كثير منها يجعل التمييز بينها صعباً، ويضفي علي خارطتها طابعاً عشوائياً.

والجدير بالقول أن فرصة التحالف كبيرة جدا بين الأحزاب المتشابه دينياً فمن الممكن الاندماج بين الأحزاب السلفية، فهل سيسعى حزب الدستور لمحاولة دمج أحزاب أخرى معه أو هو يندمج في أحزاب قائمة بالفعل، فعلى سبيل المثال يستطيع الدستور أن يندمج في حزب مثل العدل الذي يتشكل من عدد كبير من أنصار الدكتور البرادعي ومؤيدوه في السابق.

رابعاً- دور المال السياسي أو رجال الأعمال في نشأة الأحزاب الجديدة، فالبلد الذي اشتدت عليه قسوة العلاقة الآثمة بين المال والسلطة، ودفع ثمنا باهظا لعدم التمييز بين دور رجل الأعمال في ميدان الاقتصاد وعالم البيزنس والشركات، ودور رجل الأعمال في البرلمان أو في الحزب أو في الحكومة، هو نفس البلد الذي يتبارز فيه اليوم عدد كبير من رجال الأعمال على تأسيس الأحزاب السياسية في السر أو في العلن، وهو نفس البلد الذي تتحلق فيه الأحزاب اليوم حول أشخاص مرموقين في عالم المال، لديهم القدرات المالية للإعلان عن أحزابهم في الصحف، أو عقد المؤتمرات السياسية باهظة التكاليف، والخوف هنا أن يكون للمال الدور الأكبر في مسيرة تشكيل الأحزاب الجديدة، وأن تكون أحزاب الأفكار والتيارات السياسية الحقيقية هي الأكثر فقراً، والأقل تأثيراً، فيعود المرض نفسه إلى جسد السياسة في مصر من جديد، فيصبح من يملك يحكم، ومن يستطيع شراء الأصوات هو الأكثر تأثيراً، وتدور الأحزاب الجديدة في دوائر المال بلا ضوابط قانونية حقيقية لحدود استخدام المال في السياسة، وبلا ضمانات فاعلة لعدم تأثير هذا المال على صناعة القرار السياسي لاحقا في البرلمان أو في الحكومة.

وفى مجمل القول، إن الدكتور محمد البرادعي وحزبه الجديد سيكون بلا شك فاعل رئيسي في مجريات الحياة الحزبية القادمة، ولكن الرهان الحقيقي سيكون على قدرة هذا الحزب في التماسك والاستمرار وتجنيده لكوادر جديدة على الأرض يستطيع به خوض المنافسة في أي عملية انتخابية مقبلة، حتى لا يصبح مثله مثل غيره من الأحزاب مجرد رقم يضاف إلى عدد الأحزاب الموجود في مصر.