جاء الانقلاب العسكري الذي تعرضت له مالي خلال الأيام القليلة الماضية ليعيد من جانب طرح العديد من السيناريوهات التي اعتبرها الكثيرون توارت عن المشهد السياسي في أفريقيا بعد سنوات من تجارب التحول الديمقراطي، تلك التجارب التي وإن اتسم الكثير منها بالشكلية وعدم تبنى آليات حقيقية لتداول السلطة، إلا أنها تمثل إرهاصات للخروج من النمط الاستبدادي للسلطة، وليقدم من جانب آخر تداعيات جديدة على حالة الدولة في إقليم غرب أفريقيا تحديدا .
فقد تصدرت القارة الأفريقية باقي قارات العالم في أعداد الانقلابات العسكرية التي شهدتها دولها عقب الاستقلال فحتى بداية الألفية الثالثة شهدت أفريقيا ما يقرب من 83 انقلابا عسكريا ،حيث تعرضت نحو 20 دولة لأكثر من انقلاب عسكري، بلغ في بعضها ستة انقلابات مثلما حدث في نيجيريا - أوغندا - غانا - بوركينافاسو وبينين وموريتانيا ، فيما عرفت نحو 13 دولة انقلابا عسكريا واحدا فقط .
وقد أرجعت العديد من الدراسات انتشار ظاهرة الانقلابات العسكرية في هذه المرحلة التاريخية إلى محاولات التحرر من الاستعمار والتي قادها عسكريون في معظم الدول واستمر هؤلاء في الحكم بعد الاستقلال، فكان للمؤسسة العسكرية دورا محوري في قضايا الحكم والتنمية في هذه البلدان.
هذا إلى جانب عوامل الفقر والفساد والتحيز الاثني والطائفي .
ومع اتجاه الدول الأفريقية إلى تبنى التعددية السياسية كاستجابة للضغوط الدولية منذ منتصف الثمانينيات تراجعت موجه الانقلابات العسكرية في القارة، ففي عام 1980 كان العسكريون يحكمون 43 دولة أفريقية لكن العدد تقلص إلى تسع دول فقط عام 2001.
إلا أن العقد الأخير شهد عودة ظاهرة الانقلابات العسكرية من جديد في عدد من الدول الأفريقية وخاصة في إقليم غرب أفريقيا فتعرضت موريتانيا ومدغشقر لانقلاب عسكري في عام 2008 وغينيا بيساو في عام 2009 والنيجر في عام 2010 ثم جاء انقلاب مالي عام 2012 ليعبر عن تراجع عملية التحول الديمقراطي وتداول السلطة سلميا في عدد من مناطق القارة الأفريقية بل وليهدد الاستقرار في عدد من أقاليم القارة وليس في إقليم غرب أفريقيا وحده .
فقد قام مجموعة من العسكريين في 22 مارس الماضي باقتحام القصر الرئاسي والسيطرة على التليفزيون الرسمي في مالي، وأعلنوا استيلائهم على السلطة وأكدوا أن إطاحتهم بالرئيس أمادو تومانى تورى جاءت كنتيجة لتهاونه في السيطرة على تمرد الطوارق المتأجج في شمال البلاد منذ منتصف يناير الماضي، وإهماله لتسليح الجيش الوطني .
وتعرض الانقلابيين في مالي لانتقادات وإدانات دولية وإقليمية واسعة وخاصة من جانب المنظمات الإقليمية والإقليمية الفرعية الأفريقية ، فالاتحاد الأفريقي لا يعترف بالحكومات التي تأت عبر تغييرات غير دستورية ومن ثم علق عضوية مالي وفرض عقوبات على قادة الانقلاب، أما الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) فلم تكتفي بالتحذيرات وتعليق العضوية وفرض عقوبات اقتصادية على مالي بل قررت المنظمة في يوم 2 أبريل الجاري فرض حظر اقتصادي شامل على مالي يشمل إغلاق جميع الحدود لجميع الدول أعضاء الإيكواس مع مالي باستثناء الأسباب الإنسانية، ومنع مالي من استخدام موانئ هذه الدول وتجميد حساباتها بمصارف الدول الأعضاء.
ونجحت الإيكواس في التوصل إلى اتفاق على تسليم السلطة مع قادة الانقلاب في مالي في 6 أبريل الجاري ينص على تسليم السلطة إلى رئيس مؤقت وحكومة انتقالية، مقابل حصولهم على عفو عام، وتبدأ المنظمة فورا في الإجراءات الرامية إلى رفع العقوبات الصارمة التي تبنتها إثر وقوع الانقلاب، حيث سيُسلم قادة الانقلاب السلطة إلى رئيس الجمعية الوطنية دايوكوندا تراورى الذي سيشرف على انتخابات ديمقراطية ومعالجة الأزمة في شمال البلاد .
ويبدو أن تحركات الإيكواس السريعة لإسقاط الحكم العسكري واستعادة الشرعية الدستورية في مالي جاءت كنتيجة للتداعيات الخطيرة الناجمة عن الانقلاب، ففضلاً عن الآثار الاقتصادية والإنسانية السلبية للانقلاب والتي أسفرت عن فرار الآلاف من السكان الماليين الذين يبلغ تعدادهم 15 مليون نسمة إلى دول الجوار خوفاً على أرواحهم ونتيجة للنقص في المواد الغذائية والوقود وانتشار الفوضى الأمنية .
إلا أن نجاح قوات الطوارق تساندها بعض الجماعات الإسلامية مثل جماعة أنصار الدين في السيطرة على شمال البلاد بالكامل من كيدال إلى جاو مروراً بعاصمة الأزواد، موطن الطوارق التاريخي، وتومبكتو ثم إعلان الأمين العام لـلحركة الوطنية لتحرير الأزواد في 6 أبريل الجاري تأسيس دولة "الأزواد المستقلة"، قد أثارت مخاوف الإيكواس فيما يتعلق بمستقبل الاستقرار في مالي بعد أن أصبحت مهددة بالتقسيم، هذا إلى جانب ما تحمله هذه التطورات من تهديدات لإقليم غرب أفريقيا الذي يعانى من مشكلات أمنية وسياسية ترتبط في معظمها بسياسات تهميش بعض الجماعات الإثنية والطائفية داخل دول الإقليم، فكانت هذه الدول مسرحا للحروب الأهلية والصراعات منذ انتهاء الحرب الباردة ووصلت مستويات انتشار الفوضى في أجزاء منها إلى حد انهيار دولة مثل ليبيريا خلال التسعينيات والسنوات الأولى من الألفية الثالثة ، وخلال العامين الأخيرين برزت بعض الجماعات في الإقليم التي اتخذت من الاختلافات الدينية واجهة للمطالبة بحقوقها السياسية والاقتصادية، وأعلنت بعضها وجود روابط بينها وبين تنظيم القاعدة مثل جماعة بوكو حرام في نيجيريا، لذلك أسرعت الإيكواس في الإعلان عن رفضها لتقسيم مالي وهددت باستخدام القوة لاستعادة وحدة الأراضي المالية، وعقد قادة جيوش دول الإيكواس اجتماعاً لبحث فكرة إرسال قوات إلى مالي.
فالأمر لم يعد مجرد حركة تمرد تريد تحقيق حكم ذاتي في شمال مالي بل أصبح هناك " دولة " أعلنت استقلالها عن مالي وتطالب المجتمع الدولي أن يعترف بها، في الوقت الذي تدعمها جماعات متشددة تقاتل من أجل تكوين إمارة إسلامية في مدينة تومبكتو، كما تنتشر التقارير التي تؤكد مشاركة عناصر من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في قوات الطوارق، حيث أعلنت الحكومة الموريتانية قيامها بقصف أهداف للتنظيم في شمال مالي .
وكل هذه التطورات تجعل إقليم غرب أفريقيا يواجه تحديات صعبة، فمع وجود تجربة انفصال جزء من دولة يصبح الانفصال سابقة يمكن أن تنتقل عدواه إلى دول أخرى في الإقليم، كما أن الطوارق الموجودون في دول الإقليم أو خارجه في كل من الجزائر وليبيا والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد قد يطالبون بحقهم في الانضمام إلى الدولة الجديدة في مالي أو استقطاع أجزاء من دولهم والاستقلال بها استعدادا لتكوين دولة الطوارق الكبرى .
في الوقت الذي يمثل ظهور الجماعات المتشددة على واجهة الأحداث تحديا خطيرة في ظل المصالح الإستراتيجية للقوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا في الإقليم، حيث يحتوى إقليم غرب أفريقيا على ثروات معدنية ونفطية هائلة هذا فضلا عن الموقع المتميز على المحيط الأطلنطي الذي يدعم طرق التجارة، وتشارك الدولتين في عمليات مكافحة الإرهاب في الإقليم وتحديدا في مواجهة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، إلا أن تدهور الأوضاع الأمنية في مالي على هذا النحو ومساندة الجماعات المتشددة للطوارق يفتح مجالا للتدخلات الدولية في غرب أفريقيا.
فقد طالب قائد الانقلاب النقيب أمادو سانوجو الدول الكبرى للتدخل عسكريا في شمال مالي لمواجهة القوى الأصولية هناك على غرار تدخلها العسكري في أفغانستان .
ومن ثم أسفر انقلاب مالي عن نتائج كارثية، سواء لدولة مالي التي تعرضت للتقسيم وتواجه احتمالات نشوب حرب أهلية وتنتظر تدخلاً عسكرياً من الإيكواس لاستعادة الاستقرار ومنع انفصال شمال مالي بعد أن توصلت المنظمة لاتفاق مع قادة الانقلاب ينص على تسليمهم للسلطة مقابل حصولهم على عفو عام، أو على مستوى إقليم غرب أفريقيا الذي أصبحت دوله تترقب صعود جماعات جديدة مطالبة بالانفصال على غرار حالة الطوارق أو تدخلاً عسكرياً دولياً لمطاردة عناصر القاعدة في الإقليم.