د. معتز سلامة

رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

السؤال الذي يقع في قلب الحوارات الدائرة بشأن المستقبل اليمني حاليا يتعلق بما إذا كانت اليمن ستنجح في بناء الدولة المدنية الحديثة أم لا؟ وقد يبدو هذا السؤال نوعا من الترف الفكري أو السياسي، في ظل أوضاع اليمن التي تمثل الحرب الأهلية، واحتمال انفصال الدولة وانهيارها، أحد السيناريوهات المطروحة في ظل ثلاثي الصراع المزمن (الحوثيين، الجنوب، القاعدة)، وفي ظل تعثر مختلف محاولات بناء الدولة المدنية في العقود السابقة (تجربة الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي 1974 – 1977 الذي سعى لتأسيس الدولة المدنية والتحرر من سلطة القبائل، وتجربة الحكم الاشتراكي في دولة الجنوب قبل الوحدة)، وهي المحاولات التي اصطدمت بالواقع القبلي الذي عرض كل مشروعات المدنية والتحديث للفشل.

وعلى الرغم من أن سؤال الدولة المدنية تجدد بقوة بعد ثورة 2011، كهدف أساسي لائتلافات قوى الثورة الشبابية وكأحد الأهداف الرئيسية التي أكد عليها برنامج حكومة الوفاق الوطني الحالية، إلا أن الصراع بين القبيلة ومشروع الدولة المدنية يظل قابلا للتجديد -بل مؤكد حدوثه- في ظل أي محاولة جديدة للانتقال إلى نمط الدولة العصرية.

وتعود أهمية سؤال الدولة المدنية إلى أن اليمن هي إحدى أكثر الدول العربية من حيث التركيبة الاجتماعية التقليدية القبلية والمناطقية، التي ظلت المرجعية الأساسية لمراكز سلطة القرار منذ ما يقارب 1100 سنة ووقفت حجر عثرة أمام تطوير بنية الدولة في العقود الماضية، وبعض مناطق اليمن لم يتخط أوضاع سكانه حالة مجتمعات ما قبل الدولة؛ لم تنل منها أطوار الحداثة سواء من ناحية: طبيعة الهياكل والأبنية الاجتماعية، أو التقاليد والثقافات السائدة، أو أنماط الإنتاج وتوزيع الموارد بين القبائل والمناطق وبين البوادي والريف والحضر.

وباستثناء عدد من المراكز الحضرية -خصوصا عاصمة دولة الجنوب السابقة عدن وبعض المراكز والمناطق بالعاصمة صنعاء وعواصم المحافظات التاريخية- لا تزال أغلب مناطق اليمن نائية ومشتتة جغرافيا وبعيدة عن جوهر الحياة العصرية وسلطان المركز، وباختصار خارج العصر، وبعضها الآخر تعرض للتشوه، فلم يبق على طابعه التقليدي، ولم يفلح في الانخراط في عمليات التحديث، وشهد البعض الآخر مأسسة للقبيلة في ظاهرة عرفها البعض بـ"القبائل الدول" التي تعيش في "دولة كالقبيلة"، كرست ثنائية تبادلية وإحلالية في الأدوار بينهما.

فهل يمكن أن ينجح هذا البلد في إرساء دولة القانون والديمقراطية والمواطنة المتساوية وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية وتمكين المرأة على غرار ما تفترضه الدولة المدنية العصرية؟ وهل يتمكن من إنهاء حالة دول القبائل وميراث قبلية الدولة؟ البعض يؤكد أن قيام المجتمع المدني باليمن يبدو أمرا شبه مستحيل، لأن القبيلة ستبقى في صدام مع مشروع الدولة المدنية، وسترفض الاندماج في المجتمع المدني وسيمنع نفوذها أي إمكانية لتطبيق القانون المدني، ومن ثم ستبقى القبيلة "خط أحمر لا يمكن تجاوزه".

- الدولة – الأمة: قد لا يكون سؤال الدولة المدنية هو الأهم بشأن الحالة اليمنية الراهنة التي تجمع بين مؤشرات ومظاهر الدولة اللانظام والدولة الفاشلة أو اللادولة، حيث أن هذا السؤال يمثل قفزة كبيرة تتجاوز الواقع السياسي.

فمن المنطقي أكثر أن يكون حديث الدولة المدنية تال على الحديث عن الدولة، أو عن الدولة –الأمة، التي تعترف أطرافها بحكم وسلطان المركز.

بينما يطرح الكثيرون سؤال الدولة المدنية في اليمن وكأن الدولة الأمة متحققة أو معطى سياسي قائم، وهو أمر لا يؤيده تاريخ اليمن.

فلقد جسدت اليمن تاريخياً هوية وأمة في الإطار الإقليمي الأوسع، لكن ثمة اختلافا بشأن رسوخ مفهوم الدولة - الأمة ضمن كيان سياسي واحد تاريخيا.

فبينما يؤكد البعض أن الفترة التي كانت فيها اليمن موحدة في الألف الماضية لا تزيد عن 200 سنة (ما نسبته 20% من مجمل الفترة)، يؤكد آخرون أن وحدة اليمن منذ دخول الإسلام بها تجاوزت سبعة قرون، ويختلف الحساب بحسب زاوية التحليل، وأي مناطق اليمن محل الانضواء ضمن سلطان الدولة.

ولكن إذا كان تاريخ الكيان السياسي الموحد محل اختلاف، فإن ما لا شك فيه أن اليمن شهدت في تاريخها الأطول العديد من الكيانات الممالك والسلطنات والأقاليم التي كان لكل منها تاريخ وسلاطين ومشايخ مستقلين في حالة أشبه بدول السلطنات والطوائف، التي تكرر وجودها وسقوطها في بقع ومساحات مكانية متفاوتة، وذلك ما جعل بعض مناطق اليمن تعاني ضعفا في الولاء والارتباط بالدولة، وبعضها -المجاور للسعودية- رفع علم المملكة، في ظل صراعه الداخلي مع السلطة السياسية في أوقات مختلفة.

لكن على الرغم من التاريخ المتنوع والواقع المأزوم، فإنه لا خلاف على هوية اليمن الكبيرة بمناطقها المختلفة، وفي ذلك يتمثل جوهر التناقض؛ أنه على الرغم من التسليم باليمن كدولة – أمة، بمعنى اتفاق مناطقها على هويتها من الناحية الثقافية، إلا أن هناك اتجاها للانعزال عن المركز والصراع معه، ولا تمتلك بعض المناطق الرغبة في الاندماج في كيان الدولة، بل يشهد بعضها تنامي نزعات الانفصال، ويفضل بعضها البقاء في ظل فيدرالية أو كونفيدرالية، بحيث لا تخضع لحكم دولة مركزية واحدة.

- الضرورة والاختيار: لم يقدم حصاد الثورة اليمنية حتى الآن دلائل مؤكدة على إمكانية الخروج من معادلات الحكم الفاسدة التي رسخها الرئيس علي عبد الله صالح، خلال فترته التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاما (1978 – 2011)، والتي لعب فيها على التوازنات القبلية في ظل سياسة فرق تسد، حيث لا تزال نتائج تلك السياسات ومعادلاتها المعقدة تلقي بظلالها على المشهد الجديد وإن كان بأشكال مختلفة، وهو ما جعل بعض اليمنيين لا يرون تغييرا في المشهد الجديد بعد الثورة.

فلقد قام صالح خلال فترة حكمه بتوزيع سلطة اتخاذ القرار على أساس الولاء والزبائنية، وأعاق تغلغل الدولة في المجتمع، وفوض بعض مهامها للبنى القبلية، بهدف تكوين شبكات من علاقات الولاء والتبعية الشخصية مع رموز النخبة التقليدية من شيوخ القبائل، وكل ذلك يفترض أن يقف حجر عثرة أمام مشروع الدولة المدنية.

وعلى الرغم من أن تجربة الشباب والشيوخ والنساء والأطفال من مختلف القوى والمناطق الذين تجمعوا في الميادين العامة تعد تجربة مضافة إلى تاريخ اليمن الوطني والمدني الحديث على نحو يضع حجر أساس لبداية قوية لمشروع الدولة المدنية الحديثة، إلا أن الواقع ينطوي على عقبات كثيرة.

لقد أخذ مشروع الدولة المدنية طريقه أيضا إلى برنامج حكومة الوفاق الوطني، لكن المشهد اليمني لا يشير إلى أن هذا الهدف سيكون الأساس الذي يوجه القوى السياسية والحكومة خلال الفترة المقبلة، وإنما من المتوقع أن يقع بشأنه خلاف -وربما صراع- كبير، فإلى جانب طرح شعار الدولة المدنية في ميادين الثورة، فقد شهدت تلك الميادين حضورا مكثفا للقبيلة وانخراط جزء كبير من مشايخ القبائل في الثورة، وعلى رأسهم شيوخ قبيلة حاشد من أبناء الشيخ عبد الله الأحمر، وهذه القوى القبلية لم يكن دافعها من وراء الانحياز لجانب الثورة الإيمان بالتغيير السياسي الشامل، بل الوصول إلى السلطة لتحقيق أهدافهم وفق أجندة تقليدية تناقض مشروع الدولة المدنية.

وعلى جانب آخر، طرحت في ميادين الثورة الشعارات والخطب الدينية بكثافة، خصوصا من جانب حزب التجمع اليمني للإصلاح ذي الخلفية الإسلامية الإخوانية.

وينظر الإسلاميون بتوجس إلى خيار الدولة المدنية لما ينطوي عليه من دلالات علمانية، وفي هذا الصدد يؤكد الشيخ عبد المجيد الزنداني رئيس مجلس شورى "التجمع" أن: مفهوم الدولة المدنية هو مفهوم غربي وافد على البلدان العربية والإسلامية، كما أنه مفهوم مشبع بدلالات فكرية واستراتيجية ترتبط باستراتيجيات علمنة المجتمعات المسلمة، وإزاحة النموذج الإسلامي في السياسة والحكم.

ويعزز قوة هذه التوجهات أن الكفة تميل لمصلحة الإسلاميين، وهم الأكثر قدرة على التعايش مع الواقع القبلي التقليدي المناهض لتوجهات الدولة المدنية الحديثة.

فقد تمكن الإسلاميون من القبض على مفاتيح التغيير والسيطرة على منصات الثورة في الميادين المختلفة، وإلى حد كبير استولى الإسلاميون على ثورة الشباب، وغدوا يتحكمون بإيقاعها، وقدموا أنفسهم -بعد الإطاحة بصالح- كمدافعين عن الكيان اليمني الموحد، على نحو ما برز في صراعهم مع الحوثيين في الشمال خلال مواجهات معهد الحديث السلفي في دماج بمحافظة صعدة، أو خلال انخراطهم في مواجهات مع قوى الحراك الانفصالية في الجنوب.

لذلك لم يكن غريبا أن لا يرى أغلب اليمنيين تغييرا كبيرا في المشهد العام، حتى بعد نهاية حكم الرئيس علي صالح.

فلم تسفر الثورة عن حراك مجتمعي وثقافي نافذ في قلب التربة الاجتماعية اليمنية، وإنما بقي الصراع منحصرا في ذات القوى القديمة وحول نفس المعادلات والصيغ، وإلى حد كبير تعرضت الثورة للتعطيل، ولم ترد القوى التقليدية -سواء في النظام أو في المعارضة- أن تجعل من شباب الثورة شركاء في توزيع وتقاسم السلطة والمناصب أو طرح الرؤى والمبادرات، وبدا اتفاق نقل السلطة وكأنه إعادة توزيع للحصص والمناصب على أسس سياسية بين القوى القديمة نفسها.

هكذا يشير الواقع اليمني بعد الثورة، إلى أن الدولة المدنية، وإن كانت مطلباً أساسياً وهدفاً لشباب التغيير والقوى الليبرالية، إلا أنها قد لا تكون الخيار الرئيسي الذي تتفق عليه القوى صاحبة النفوذ العتيق في المشهد اليمني، للاعتبارات الخاصة بالقراءة الدينية السلفية المناهضة للدولة المدنية، أو لأسباب تتعلق بالمصالح القبلية والعسكرية والتجارية المستفيدة من الواقع التقليدي القائم، والتي ستحارب القوى التي تسعى لإفراغ وضعيتها وسلطاتها من مضمونها.

فهناك شيوخ القبائل الذين ينظرون للدولة المدنية على أنها سوف تجهز على سلطانهم ونفوذهم القبلي، وتفقدهم حصصهم وامتيازاتهم من المال العام والشراكة مع السلطة على حساب قبائلهم، وهم الذين حصلوا على امتيازات هائلة في ظل نظام علي صالح وسوف يقاتلون من أجل إبقائها، وهناك رجال الأعمال والتجار الذين سينطلقون في معاداتهم للدولة المدنية من خوفهم على أوضاعهم المميزة وأعمالهم في ظل حكم القانون والمواطنة المتساوية ومفاهيم العدالة الاجتماعية، وما يمكن أن تفرزه من قوانين وتشريعات جديدة معادية للاحتكار والامتيازات الخاصة، وهناك العسكريون الذين يعادون الدولة المدنية من منطلق خوفهم على تحالفاتهم مع شيوخ القبائل وشبكاتهم الخاصة بتجارة السلاح، وهناك -إلى جانب كل ذلك- المشهد القديم الذي يرفض أن يغادر متمثلا في: أبناء الرئيس السابق وأشقائه وأقاربه وأصهاره الذين لا يزالون يتحكمون بالمفاصل الاستراتيجية المدنية والعسكرية، بل الرئيس السابق نفسه الذي عاد إلى العمل السياسي وينتوي قيادة دفة المعارضة للحكومة.

جميع هذه القوى التقليدية المتشابكة والمرتبطة بتحالفات مقدسة سوف تقاوم مشروع التغيير والتحول إلى الدولة المدنية.

ويبقى الأهم من كل ذلك تركيبة الحكم القبلي العسكري البيروقراطي قبل الثورة، والتي لا تزال متغلغلة ونافذة في الأحزاب والوزارات والمؤسسات والجيش وقوات الأمن والإدارة والإعلام، والأهم من الأشخاص النهج والثقافات والسياسات وفلسفة الحكم والإدارة، وهي كلها سوف تقف كعثرات -أو على الأقل قد تدخل في اختبارات- مع مشروع الدولة المدنية.

إن اتفاق نقل السلطة الذي وقعه الرئيس والمعارضة في 23 نوفمبر 2011، تأسس على صفقة تناقض في جوهرها كل قيم الدولة المدنية.

لقد أبرم الاتفاق على محاصصة بالتساوي بين الأحزاب والقوى القديمة دون أن يكون هناك دور –مؤثر- لشباب ساحات التغيير، وأسفر الاتفاق عن حكومة وفاق وطني مناصفة بين قوى النظام والمعارضة، وتأسست المبادرة الخليجية على صفقة اتفق بمقتضاها الطرفان على ترشيح نائب الرئيس لرئاسة الجمهورية كمرشح توافقي، ولم يكن لأطراف الاتفاق حرية اختيار المرشح أو ترشيح بديل للنائب، وإنما ألزمت بترشيح النائب واختياره، في عملية بعيدة تماما عن ممارسات الديمقراطية وقيم الدولة المدنية.

ووافق مجلس النواب في 21 يناير 2012 على مشروع قانون منح الحصانة القضائية الكاملة للرئيس صالح، ومنح حصانة سياسية لمساعديه باستثناء كل من ارتكب عملاً إرهابياً أو ثبتت عليه قضايا جنائية.

وهكذا حرم اتفاق نقل السلطة الشعب اليمني وقوى التغيير الشبابية من تنفيذ مطالبها بمحاكمة الرئيس، ومعرفة أسرار ما يتجاوز ثلاثين عاما من الحكم.

لكن على الرغم من أن التحليل السابق، يوحي وكأن الدولة المدنية مستحيلة في ضوء تناقضات الواقع اليمني، إلا أنها تظل الخيار الضروري في ظل مشكلات هذا الواقع، فالتحول إلى الدولة المدنية ليس اختيارا يمتلك اليمنيون ترف الاتجاه إليه من عدمه، وإنما ضرورة للتعامل مع واقع الدولة التي خلفها علي صالح، ولمعالجة ميراث قرون من سطوة الواقع التقليدي المسؤول عن كثير مما آلت إليه أوضاع اليمن.

وعلى الرغم من أهمية أن يسبق التحول إلى الدولة المدنية إرساء أسس الدولة - الأمة، إلا أن الاندفاع نحو هدف الدولة المدنية يمكن أن يكون مدخلاً لتكريس واستقرار الدولة – الأمة.

فأحد الأمور التي دفعت إلى معاودة مطالب الانفصال في الجنوب تعلق بالأساس بأوضاع الحقوق والحريات والمظالم التي تعرض لها الجنوبيون من جراء سياسات الإقصاء من المؤسسات والمصالح ونهب ثروات أراضيهم لمصلحة الشماليين، وهو ما لخصه أبو بكر العطاس (آخر رئيس وزراء لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقا) بقوله أنه: "لم تكن هناك وحدة وإنما اغتصاب، حيث تم استعمار الجنوب وإقصائه عن ثروته، ولم تعد أغلب المصالح بالجنوب بأيدي الجنوبيين"، و"ألغى صالح القوانين والأنظمة التي أرساها الرئيس الحمدي لبناء دولة مدنية، واحتكر كل شيء ولخص الدولة كلها في شخصه وأسرته، وحول الجنوب إلى استقطاعات لكي يكسب الناس، وأوجد شبكة من المشاكل لكي يدافع بها عن وضعه، ولعب بكل الأوراق كالحاوي الذي يرقص على رؤوس الثعابين".

هكذا لم يكن ظهور ثلاثي الصدع الأكبر لزلزال الانهيار في اليمن (الحراك الجنوبي، الحوثيون، القاعدة) إلا بسبب غياب الدولة المدنية، والذي كان السبب الرئيسي في التشكيك في كيان الدولة - الأمة.

هكذا يمكن أن يكون مشروع الدولة المدنية الحديثة –التي تعالج قضية الحقوق والحريات والمظالم- أحد المداخل الوظيفية المهمة لخلق الدولة – الأمة، ولإتاحة الفرصة لإعادة انطباق الكيان السياسي على الكيان الجغرافي، في إحدى المرات القلائل في تاريخ اليمن، يساعد على ذلك أن أصوات العديد من عناصر النخبة والحراك في جنوب اليمن لا تزال تعلن عن رغبتها في الفيدرالية، كفترة مؤقتة لتكون مقدمة للاستفتاء على مستقبل الإقليم بعد 5 سنوات، وبعضها يريد منح الوحدة الفيدرالية فرصة للاختبار أو إثبات ذاتها، فإما تنجح أو تفشل، وقد تقنع سنوات الفيدرالية المقترحة الأطراف التي ترغب بالانفصال حاليا بإعادة الالتفاف حول دولة الوحدة.

- الثقافة والقانون: تعني الدولة المدنية في الواقع اليمني ما هو أكثر من مجرد سن قوانين وإصدار تشريعات جديدة؛ تعني: التحرك على ساحة العمل المجتمعي بهدف إخراج القبيلة والواقع التقليدي من أوضاعه ومعتقداته وموروثاته نحو الانفتاح على قيم جديدة والتدريب عليها، واستدراج مزيد من الأميين إلى عالم المعرفة، وإنهاء العادات القبلية السيئة (مثل الثأر والاحتكام إلى عادات وتقاليد وأعراف وقضاء القبيلة)، ونقل السلطات من القبيلة إلى الدولة، كما تعني الدولة المدنية تأسيس الأحزاب والمنظمات والفاعلين الاجتماعيين على أسس عصرية، وليس قبائل في أبنية ومنشآت حزبية، وتعني عمل منظمات المجتمع المدني في الأماكن النائية لإخراجها من الفقر والأمية، وتعني مد قدرة الدولة على الوصول لكل أقاليمها عبر شبكات مواصلات جيدة، وخدمات ضرورية للحياة العصرية، وشمول جميع المواطنين بعوائد التنمية، وتطوير قدرات الدولة الإنتاجية، وإنهاء ظواهر قطاع الطرق، وتأسيس جيش عصري حديث يأتمر بأمر الدولة وليس جيوش احتياط لقبائل لها استقلالها العسكري، أو ميليشيات قبلية يقضي أبناؤها فترة خدمتهم العسكرية في مواقع قبائلهم، كما تعني الدولة المدنية المساواة وعدم التمييز والاحتكام للقانون، و احترام حق الاختيار والاختلاف، والحرية والأمن، والتغير السلمي والتنافس المشروع، وتكافؤ الفرص والمشاركة، ووضع معايير وقواعد ولوائح مؤسسية واضحة في التعاملات في الدوائر الحكومية، وهي كلها أمور يفتقدها الواقع اليمني.

والهدف النهائي من ذلك إخراج السكان من دائرة سلطان القبائل دون القضاء تماما على أعراف القبيلة وتقاليدها الإيجابية بشكل لا يكرس حالة العداء بينها والدولة.

هكذا يبدو الانتقال إلى الدولة المدنية مسألة في عمق عمليات التحول الثقافي والاجتماعي والسياسي، وهي مسألة قد لا تجري على نحو سلمي تماما في اليمن، وإنما من المتوقع أن تشهد أعمال عنف، ويظل الأمر معتمداً على مدى التجاوب من جانب المجتمع.

وذلك لا يتحقق عبر صيغ إقصائية، وإنما صيغ تزاوج بين الحديث والقديم وتتدرج في الانتقال بينهما، وتستفيد من بعض القديم في تطبيع وتطويع الجديد، بحيث لا تقوم الدولة المدنية على تشويه الأصول الإيجابية لقيم القبيلة، وإنما الاستفادة من طبيعتها وخصائصها في تحقيق المشروع المدني والتحديثي.

ويمكن للدولة المدنية أن تكون عاملاً أساسياً في إعادة تأكيد الوحدة اليمنية، والتماسك بين المناطق –على مستوى آخر-، فبعض مطالب الانفصال مبعثها ليس فقط عوامل خاصة بأوضاع الحقوق والحريات والمظالم، وواقع ما يسمى الاستعمار أو الاحتلال الشمالي في الجنوب أو التمييز ضد الحوثيين في الشمال، وإنما اختلاف وتباين الوضع الثقافي والتعليمي بين شمال قبلي وجنوب أقرب إلى التعامل وفق آليات وتقاليد الدولة الحديثة، وبين مناطق حضرموت وتعز ..

واليمن الوسطى وصنعاء،.

ويضاف إلى ذلك التوزيع غير المتكافئ للموارد، وغياب العدالة الاجتماعية المتمثل في التفاوت الكبير بين الريف والحضر؛ فوفقا للأرقام الواردة في تقرير التنمية البشرية الوطني الثالث 2004 الصادر عن وزارة التخطيط والتعاون الدولي اليمنية، فإن نسبة البطالة في المحافظات الجنوبية من بين النسب الأكبر بين كل المحافظات: شبوة 43.8%، عدن 28.9%، لحج 26.3%، أبين 19.9%، حضرموت 15.8%، المهرة 13.9%، الضالع 12.2%.

بينما تبلغ معدلات البطالة في: صنعاء 8.6%، وفي تعز 15.2%، وفي الحديدة 7.7% وفي إب 10.8%، مما يشير إلى فوارق شديدة.

وتزداد التفاوتات بين الحضر والريف في كل المحافظات، على نحو يؤكد أن أغلب التفاوتات بين المحافظات يتركز في الاقتطاع من نصيب الريف من التنمية.

وأخطر الأمور التي بعثت حركة الانفصال الجنوبية هي الخاصة بعدم العدالة الاجتماعية، ونهب الثروات الطبيعية في الجنوب وتوزيعها على الشماليين بما في ذلك آبار النفط عبر تمليك حقول نفط جنوبية بأكملها لمشايخ من الشمال.

هذه المظاهر لعدم العدالة يمكن أن يتم معالجتها في إطار الدولة المدنية، حيث من شأن الفيدرالية والمواطنة والعدالة الاجتماعية كبح هذه العوامل الداعية للانفصال، وهذه كلها يمكنها أن تكون مداخل مهمة للدولة في تحقيق الاندماج القومي.

- أسئلة أساسية: إذا اتجهت اليمن نحو مشروع الدولة المدنية بجدية ستكون في الفترة المقبلة إزاء أسئلة رئيسية، فهل تبدأ بإنفاذ مشروع الدولة المدنية وتنتهي من تشريعاتها أولاً، أم تتعامل مع مشكلاتها المزمنة المتمثلة في ثلاثي الخطر (الحوثيون والحراك والقاعدة) قبل أن تفرغ لمشروع الدولة المدنية، أم تتحرك في الاثنين معا؟.

الحقيقة أنه ليس ثمة تعارض بين الاثنين، ولكن حسم هذه الإشكالية سيشغل جانبا مهما من المستقبل اليمني في السنوات المقبلة، فقد يؤدي انشغال الدولة في مواجهتها مع ثلاثي الصراع إلى إغراقها في معارك تنتهي إلى تكريس هذه الصراعات وليس حلها، خصوصا وأن هناك شبكات ومركبات مصالح معقدة تعتاش وتتربح من استمرار هذه الحالة، ولكن لو اتجهت لبناء الدولة المدنية العصرية أولا فإن أمامها فرصا حقيقية للقضاء على المشكلات الثلاث، خصوصا أنها جميعها نتاج واقع الفقر والفاقة وعدم العدالة الاجتماعية.

وعلى الرغم من صعوبة إقرار أولوية ومنهج التعامل مع الثلاثي المزمن ومشروع الدولة المدنية، إلا أنه لا يجب لأحد الهدفين أن يلغي أو يؤجل الآخر.

وتبقى المشكلة الرئيسية في حصاد الخبرة والتجربة الماضية، الذي يفيد بأن اليمن حين سعى إلى دمج الجنوب بالوحدة الإندماجية أدى إلى نفور الجنوب وكرس الشعور بالظلم والتمييز، وانتهى الأمر بتنامي النزعة الانفصالية والحراك المطالب بإعادة الدولة الجنوبية، وبالمثل فإن السعي لبناء الدولة المدنية يمكن أن يلاقي معارضة شديدة في الشمال، خصوصاً من جانب القبائل وشيوخها والمناطق غير المتأثرة بسلطان الدولة، والذين لا يرغبون بوجود الدولة المدنية التي سوف تقضي حتما على سلطانهم وامتيازاتهم واستقلالهم.

ومن ثم يحل شعور التذمر والإقصاء من جانب قبائل الشمال -في ظل الدولة المدنية- محل معاناة وإقصاء الجنوب في ظل دولة الوحدة.

ويبرر ذلك أن القبائل اليمنية تشكل ما يقرب من 85% من إجمالي سكان اليمن في المحافظات الشمالية، بعدد يقدره البعض بما بين 160 و 200 قبيلة، ويقدره آخرون بأكثر من ذلك في ضوء بعث القبيلة في المحافظات الجنوبية أيضا.

ومن ثم سيبقى على الحكومة اليمنية تقديم صيغة مبتكرة تمزج بين التقاليد العصبوية القبلية -التي ينبغي التعامل معها بالحكمة والتدرج- ومشروع الدولة المدنية الذي يجب الانطلاق فيه بالسرعة والهمة الكافية، مع الأخذ في الاعتبار خصوصيات المناطق.

فهل تمنح أوضاع اليمن وأزماتها المزمنة الحكومة الجديدة الوقت للتفكير في كل ذلك؟ وهل تمنح أوضاع الجنوب الساخطة، والشمال الملتهبة، والقاعدة المستفحلة، الحكومة فرصة لإعداد مشروع توافقي يحظى بثقة اليمنيين من مختلف الأطياف والمناطق؟ وهل يكون اتجاه اليمن إلى دولة مدنية وعصرية مما لا يخلق مشكلات على صعيد الإقليم -خصوصا في جواره- مع مملكة مترامية الأطراف محافظة تقليدية وغنية في الشمال(السعودية)؟ كل هذه الأمور تتطلب قدراً كبيراً من الحيطة والحذر، وتفرض على صانع القرار اليمني حسن مواجهة التحديات قبل التعامل مع الفرص.

وهو سوف ينجح في كل ذلك إن خلق لدى الجميع –في الداخل وفي الجوار والعالم- مصلحة في مشروع الدولة المدنية.

وعلى الرغم من صعوبات ذلك، في ضوء الواقع اليمني المتعدد والمخترق إقليميا ودوليا، إلا أنه ليس مستحيلا، وهو في النهاية مطلب الثورة الرئيسي الذي تلتقي عليه أغلب النخب المدنية والسياسية في بلاد الحكمة اليمانية.