افتتاح المتحف الكبير الذى جرى أول أمس، مساء الأول من نوفمبر 2025، لم يكن حدثا عاديا، الأمر يتجاوز مجرد كونه أكبر متحف فى العالم مخصص لحضارة واحدة. الأمر بالنسبة للمصريين وللدولة المصرية يحمل دلالات ومعانى كثيرة أخرى، سواء لجهة التوقيت الذى جرى فيه بناء وافتتاح المتحف، أو لجهة السياق العام الذى جرى فيه كل ذلك. كل ما يجرى على أرض مصر منذ عام 2014 حتى الآن يجب أن ننظر إليه ككل متكامل، فلا يمكن فهم ما يجرى من إصلاحات على المستوى الاقتصادى بعيدا عما يجرى على مستوى المراجعات التشريعية المهمة التى تخص سياسات أو قطاعات أو شرائح اجتماعية بعينها، أو بعيدا عما يجرى على مستوى العلاقات مع العالم الخارجى والسياسة الخارجية المصرية، الأمر نفسه على المستوى الثقافى. إن ما يجرى على أرض مصر هو مشروع نهضوى متكامل، لا يقتصر على عملية التعمير والتوسع العمرانى فقط، لكنه يتجاوز ذلك ليشمل أيضا إصلاحا اقتصاديا وماليا، ومراجعة للأبنية والأطر التشريعية التى اتسمت بدرجة كبيرة من الجمود عبر عقود متتالية بشكل وضع هذه التشريعات فى تناقض كبير مع الواقع الاقتصادى والاجتماعى ومع عمليات التحديث. كما شمل على المستوى الاقتصادى تسريع عملية التصنيع، واستحداث قطاعات وأنشطة اقتصادية جديدة تؤسس لتغييرات مهمة فى طبيعة الاقتصاد المصرى ومصادر النمو الاقتصادى، وطبيعة العلاقات الاقتصادية التقليدية بين الأقاليم المصرية، بل وتغيير طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة فى جانبها الاقتصادى. ومع هذه السمة المهمة لهذا المشروع النهضوى، كان من الطبيعى أن يولى هذا المشروع اهتماما مُقدَرا بالمكون السياسى والإنسانى، والذى عكس نفسه فى المراجعات التى جرت، ومازالت، على مستوى ملف حقوق الإنسان، وملفى التعليم والصحة. ثم جاء افتتاح المتحف الكبير ليؤكد حضور المكون الثقافى فى هذا المشروع الضخم، والذى سبقه افتتاح المتحف القومى للحضارة المصرية فى أبريل 2021. تلك دلالة أولى من المهم استحضارها فى نظرتنا لذلك الحدث العالمى المهم. ورغم أن فكرة إنشاء المتحف القومى، ومن قبلها المتحف الكبير تعود إلى ما قبل عام 2014، لكن وجود إرادة قوية خلف هذين المشروعين المهمين، وغيرهما، ضمنت تحويلها إلى واقع ثقافى مهم على الأرض.
الدلالة الثانية، وهى محصلة للأولى، أن مشروع المتحف الكبير، وحفل الافتتاح الأسطورى الذى تم، هو جزء من عملية منهجية لإحياء وتأكيد الحضور والدور العالمى لمصر. المتحف الكبير هو مشروع كاشف، ليس فقط عن الوزن النسبى الكبير لمصر فى صناعة وتشكيل الحضارة الإنسانية، بل وفى تشكيل التاريخ الإنسانى، وكاشف أيضا عن تجذر مساهمة الحضارة المصرية فى تشكيل العديد من القيم الإنسانية التى لم يعرفها العالم إلا فى عصره الحديث، وأبرزها قيم العلم، والسلام، واحترام وتمكين المرأة، سياسيا واقتصاديا، وقيم العدل والحساب والتوحيد، وغيرها من القيم الإنسانية المهمة التى احتاج المجتمع الدولى قرونا متتالية حتى يُقرَّها ويعترف بها، وتطلب الأمر بالنسبة لبعض هذه القيم صراعات وحروبا طويلة داخل بعض الحضارات. المتحف الكبير هنا هو حلقة فى سلسلة من النجاحات المصرية التى أحيت وأكدت هذا الحضور المصرى الدولى. من بين هذه النجاحات انخراط مصر فى عضوية عدد من المجموعات الاقتصادية والمالية الدولية؛ مثل «البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية» و«بنك التنمية الجديد» وبريكس، وحضور مصر اجتماعات مجموعة العشرين والقمم المصرية مع قوى دولية عدة، وغيرها. أضف إلى ذلك الدور المحورى الذى لعبته مصر فى الحفاظ على استقرار وأمن إقليم الشرق الأوسط، والذى عبر عنه بوضوح مؤتمر شرم الشيخ للسلام 2025. إن بناء وافتتاح المتحف الكبير جعل هذا الحضور الدولى لمصر يتجاوز الحضور السياسى والأمنى والاقتصادى ليجعل منه حضورا ثقافيا يستند إلى حزمة مهمة من القيم الإنسانية الرفيعة التى صنعتها وشكلتها الحضارة المصرية القديمة.
الدلالة الثالثة، ترتبط بما أثاره افتتاح المتحف الكبير من تعزيز الشعور بالهوية الوطنية لدى الأمة المصرية. هذا الشعور أخذ مسارين؛ أولهما تعزيز الشعور بالانتماء والهوية الوطنية المصرية بشكل عام، وثانيهما تعزيز الشعور بالهوية الفرعونية بشكل خاص باعتبارها أحد مصادر الهوية الوطنية المصرية، التى تستند إلى مصادر عدة، وتنهض على طبقات متكاملة، لا يتعامل معها المصريون بوعى متناقض، وهذه هى أحد مصادر عبقرية تاريخ الأمة المصرية والجغرافيا السياسية للدولة المصرية. ما يميز الهوية الفرعونية لمصر أنها لا تستند فقط إلى إنجازات عمرانية وعلمية مازال يعجز العالم عن فك أسرارها رغم ما وصل إليه من تقدم تكنولوجى، لكنها تستند - وذلك هو الأهم- إلى حزمة من القيم الإنسانية العظيمة، على نحو ما سبقت الإشارة إليه، والتى احتاج العالم قرونا متتالية حتى يستلهمها ويسجلها فى مواثيق دولية ملزمة. لعل تفاعل المصريين مع حدث افتتاح المتحف الكبير وتوظيفهم لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعى للظهور بالملابس الفرعونية خير مؤشر على اعتزاز المصريين بتلك الهوية. الأهم من ذلك، أن المصريين لا يتعاملون مع الحضارة الفرعونية على أنها أساس للانغلاق أو الانعزال، لكنهم تعاملوا معها على أساس أنها أساس للتواصل والتفاعل مع باقى الحضارات، وأنها مكون مهم فى اسهاماتهم فى الحضارة الإنسانية، وهو ما عبر عنه بذكاء الشعار الذى استخدمه المصريون مع افتتاح المتحف (هدية مصر إلى العالم).
المتحف الكبير سيساهم بالتأكيد فى وضع مصر فى مكان مختلف على خريطة السياحة الثقافية العالمية، وتأمين الحصة التى تستحقها مصر فى هذه السوق المهمة، لكن بجانب هذا التأثير المهم لا يمكن إغفال الدلالات والمعانى السابقة فى قراءتنا لمشروع المتحف الكبير.
________________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 3 نوفمبر 2025.