د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

 

في الأول من نوفمبر 2025، يفتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي رسمياً المتحف المصري الكبير، بحضور عشرات من قادة وزعماء العالم. ويمثل هذا الافتتاح إشارة واضحة على أن مصر لا تعيد فقط عرض تاريخها القديم، من خلال واحد من أعظم الصروح الحضارية والثقافية في العصر الحديث، بل  أيضاً على أنها تعيد تشكيل دورها الحضاري والمعرفي في العالم.

فمنذ أن وُلدت فكرة هذا المتحف، كان واضحاً أن الأمر ليس مجرد مشروع سياحي، ولا هو توسعة لمتاحف قائمة. لقد بدا منذ اللحظة الأولى مشروعاً سياسياً وثقافياً في آن واحد، ينطق بلغة الدولة التي تعرف أن القوة ليست فقط بمدافعها أو بأسواقها، بل بروايتها وخطابها للعالم أيضاً. فهُوية الأمم ليست حدوداً تمسحها الخرائط، وإنما ذاكرة تصنعها الحضارات.

والمتحف المصري الجديد من هذا الباب خطاب يريد أن يقول للعالم إنّ هنا حضارة استقرت على ضفاف النيل منذ آلاف السنين، وإنها، رغم ما مر بها من متغيرات، ما زالت تمتلك القدرة على أن تُلهم وتُدهش، وأن تقدم نفسها نموذجاً في عالم يبحث عن مرجعياته وسط ضجيج الأحداث وتبدل موازين القوى في العالم والمنطقة التي نعيش فيها.

ليس المتحف المصري الكبير مجرد مبنى ضخم يجاور هضبة الأهرامات عند أعتاب محافظة الجيزة، ولا مشروعاً فنياً لتجميع التراث المصري في قاعات حديثة تتسم بهندسة زجاجية متقنة، وتكنولوجيا قادرة على تحويل الحجر إلى قصة، والضوء إلى زمان. إنه - في العمق - إعلان عن دخول مصر القرن الحادي والعشرين بأدوات جديدة، تستعيد عبرها تاريخاً ممتداً آلاف السنين وتحوله إلى رافعة استراتيجية للحاضر والمستقبل. إنه فصل جديد في سردية الدولة المصرية التي طالما كانت في قلب التاريخ، لكنه فصل يكتب هذه المرة بلغات الحداثة، والتكنولوجيا، والدبلوماسية الثقافية.

فهذا المتحف، الذي تكلف ما يقارب المليار دولار، وشارك في بنائه آلاف الخبراء والمهندسين وعلماء الآثار والمُرمّمين المصريين الذين عملوا لسنوات، يعد أحد أبرز المشاريع الثقافية في القرن الحادي والعشرين، ليس فقط على المستوى الوطني، ولكن أيضاً على الصعيدين الإقليمي والدولي. فمن خلال موقعه الفريد عند سفح الأهرامات، وحجمه الهائل، وثراء مفرداته المتحفية، يقدم هذا الصرح نموذجاً متكاملاً للقدرة المصرية على تحويل التراث إلى أداة فاعلة في بناء القوة الناعمة وتعزيز المكانة الدولية للدولة.

مصر و"دبلوماسية الاستقرار"

يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه في لحظة يختنق فيها العالم بالقلق. من غزة إلى البحر الأحمر، ومن أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي، تتنازع الأمم على النفوذ وتختنق السياسة بضجيج السلاح. وفي هذا المناخ، تظهر القاهرة كعادتها، لتقدم نموذجاً آخر، هادئاً، ومتماسكاً، يقول إن الحضارة يمكن أن تكون خطاباً للاستقرار، وإن الجمال في ذاته مقاومة للفوضى.

فمصر، وهي تطلق هذا الصرح الثقافي الهائل، لا تقول للعالم إنها تصنع المتاحف، بل تقول إنها ما تزال قادرة على صناعة الأمل. القاهرة تستثمر في الثقافة لا كترف، بل كخيار استراتيجي، كوسيلة لحماية الهوية في زمن السيولة، ولإعادة الثقة في قدرة الدولة على الإنجاز وسط عالم مضطرب. وهنا تتجلى "دبلوماسية الاستقرار" المصرية التي تُفضل التعمير على التدمير، والبناء على الصراع، والعقل على الغريزة.
فالمتحف جزء من خطاب حضاري شامل تتبناه القاهرة، حيث تكون الثقافة أداة للسلام، والهوية جسراً للتفاهم لا خندقاً للانعزال. افتتاح المتحف في تقديري صوت يقول للعالم: "في مواجهة ضجيج الحرب، هناك أيضاً فسحة للتاريخ… وللجمال".

المتحف كمنصة لإعادة تعريف القوة الناعمة المصرية

حين بُنيت الأهرامات، كانت مصر تمارس أول تجربة في القوة الناعمة عرفها التاريخ. لم تكن الأحجار المتراصة مجرد قبور، بل رسائل مكتوبة في لغة الخلود. وفي القرن الحادي والعشرين، تعود الفكرة نفسها في ثوب جدي. فالحضارة يمكن أن تكون وسيلة للتأثير، والثقافة يمكن أن تكون طريقاً إلى السياسة. وفي هذا السياق، لا يمثل المتحف المصري الكبير فقط مخزناً للآثار، بل منصة لتجديد صورة مصر في الوعي العالمي. وبالتالي، ومن خلال هذا المتحف، تستعيد الدولة المصرية إحدى ركائز قوتها التاريخية، وهي القدرة على الإلهام. فكما كانت مصر قديماً مركزاً للمعرفة والعلم والروح، تعود اليوم لتقول للعالم إنها لم تخرج من التاريخ، بل تنتظر الجميع عند بابه.

ومما يزيد من أهمية افتتاح هذا المتحف حالياً، أنه يأتي في سياق دولي يتجدد فيه الاهتمام بالتراث والهوية والثقافة بوصفها مصادر تنافس وتأثير بين القوى الكبرى. كما تحضر فيه مصر، بما تحوزه من عمق حضاري وقدرة على إعادة استثمار تاريخها، في موقع يمكنها من توظيف المتحف كبنية معرفية ودبلوماسية لتحديث صورتها الاستراتيجية، وتوسيع نطاق تفاعلاتها السياسية والاقتصادية مع النظام الدولي.

فالمتاحف العملاقة في العالم، مثل المتحف البريطاني ومتحف اللوفر الفرنسي وغيرها، أضحت أدوات تأثير في العلاقات الدولية. وفي السياق المصري، يأتي المتحف الكبير ليؤسس لمعادلة مماثلة، مسنودة بإمكانات تاريخية يتعذر لأي دولة أخرى محاكاتها. وفي هذا السياق، يمكن أن يلعب المتحف الجديد دوراً كبيراً في مساعدة الدولة المصرية على إعادة تقديم سرديتها التاريخية عالمياً عبر آلية رسمية ومؤسسية؛ وعلى توسيع حضورها في الصناعات الثقافية والسياحية؛ وعلى استخدام التراث كجسر دبلوماسي يجمع بين الحضارات، وبالتالي وقف اندفاع العالم حالياً نحو "صراع الحضارات".

ولعل عرض مجموعة توت عنخ آمون بشكل كامل تقريباً، ولأول مرة، يعد أحد أبرز أدوات القوة الناعمة التي من الممكن أن يوظفها المتحف. فالملك الشاب، الذي ما زال يحظى باهتمام عالمي استثنائي منذ اكتشاف مقبرته عام 1922، يمثل مدخلاً مهماً لإعادة تقديم التاريخ المصري عبر سردية موحدة تبرز التطور العلمي في مجالات التنقيب والترميم، وتكشف عمق الشراكات الدولية في علوم المصريات. وتعزز هذه المقاربة من كثافة الاهتمام العالمي بالمتحف، وتضعه في مكانة متميزة ضمن خريطة المتاحف الدولية الكبرى، بما يُمكِّن مصر من توسيع نفوذها الثقافي في المحافل العالمية.

المتحف كأداة في السياسة الخارجية المصرية

يدخل المتحف المصري الكبير أيضاً في جوهر الرؤية المصرية للسياسة الخارجية التي تسعى إلى تنويع أدوات التحرك الخارجي وتعزيز مكانة مصر كقوة حضارية. فالمتحف، إلى جانب دوره الثقافي، يمكن توظيفه ضمن أدوات الدبلوماسية الثقافية cultural diplomacy من خلال:

1- تعزيز العلاقات الثنائية: عن طريق استخدام المتحف كمنصة لاستقبال القادة والوفود رفيعة المستوى، بما يفتح مساحة دبلوماسية غير رسمية تسهل بناء التفاهمات السياسية.

2- بناء شبكات دولية حول التراث: عبر التعاون مع المتاحف الكبرى والمؤسسات البحثية العالمية، وخاصة في مجالات الحفظ وإدارة المقتنيات.

3- تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية: حيث يمثل التراث أحد المرتكزات المشتركة بين الشعوب الإفريقية، ويمكن للمتحف أن يكون نقطة جذب لصياغة برامج مشتركة في صون التراث الأفريقي، بما يعزز الحضور المصري داخل القارة.

4- إسناد التحرك في آسيا: حيث يمكن لمصر، عبر المتحف، استخدام قنوات التواصل الثقافي لدعم تفاعلها مع القوى الآسيوية الصاعدة، ولا سيما الصين واليابان وكوريا الجنوبية، استناداً إلى التعاون القائم في مجالات الآثار والتنمية.

وبذلك، يغدو المتحف نقطة ارتكاز في هندسة شبكات دبلوماسية مرنة، تُسهم في تنويع خيارات السياسة الخارجية المصرية وفي تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.

المتحف كقاطرة اقتصادية

لا ينحصر دور المتحف المصري الجديد في البعدين الثقافي والدبلوماسي فقط، على النحو سالف الذكر، بل يمثل أيضاً رافعة اقتصادية رئيسية ضمن التحولات الجارية نحو تنويع مصادر الدخل القومي المصري. فمن المتوقع أن يسهم المتحف في زيادة تدفقات السياحة الدولية، واستحداث فرص عمل جديدة، وتنشيط الصناعات الإبداعية، وتشجيع الاستثمار في منطقة الأهرامات.

ومن ناحية أخرى، يمثل الربط بين المتحف والمخططات التنموية في غرب القاهرة نموذجاً للتكامل بين الثقافة والسياحة والتنمية. إذ تقدم المنطقة، ببنيتها الفندقية والتجارية الجديدة، مساحة حضرية متكاملة تشجع على جذب السياحة طويلة المدى، بما يعزز القيمة الاقتصادية للمتحف ويضاعف تأثيره. وفي السياق ذاته، يوفر المتحف منصة لنمو الصناعات الإبداعية الثقافية، بما يدعم بناء اقتصاد معرفي يدمج التراث في قطاع إنتاجي مستدام.

المتحف يجعل مصر مركزاً إقليمياً للمعرفة

يمكن للمتحف المصري الكبير أيضاً أن يكون منصة لبناء شبكات إقليمية حول التراث والإبداع. فمن جهة، يتيح شراكات مع الدول العربية لتعزيز برامج الصيانة والحفظ والتوثيق. ومن جهة أخرى، يقدم نموذجاً قابلاً للاستفادة في إدارة المتاحف الإقليمية وتطوير الصناعات الثقافية في منطقة البحر المتوسط.

ويسهم التعاون في هذا المجال في تعزيز الدور المصري باعتبارها مركزاً معرفياً إقليمياً، ليس فقط بوصفها حاضنة للآثار، بل كدولة تمتلك خبرات مؤسسية وإدارية يمكن تصديرها. ويعد ذلك امتداداً لدور مصر التاريخي في بناء المؤسسات التعليمية والثقافية في المنطقة.

سردية الدولة: من الهوية إلى المستقبل

كما يمثل المتحف المصري الجديد أيضاً جزءاً من سردية وطنية تسعى إلى إعادة بناء الوعي بالهوية المصرية في لحظة عالمية مضطربة، حيث تشتد التحديات الناجمة عن صعود الشعبويات والتطرف وتآكل الهوية الوطنية. ومن هذا المنطلق، يقدم المتحف إجابة ثقافية على سؤال الهوية، وينسج خيطاً واصلاً بين الحضارة القديمة والدولة الحديثة. ومع ذلك، لا تقتصر السردية الوطنية على استعادة الماضي، بل تتسع لتشمل استشراف المستقبل. فالمتحف يدمج تقنيات العرض المتطورة، وأنظمة الحفظ الحديثة، وتجارب تفاعلية، بما يقدم نموذجاً لمزج التراث بالحداثة.

في المحصلة، لا يقف المتحف المصري الكبير عند حدود كونه صرحاً ثقافياً مهيباً، بل يتجاوزها ليغدو إحدى الركائز الأساسية في رؤية مصر لإعادة صياغة حضورها الدولي في القرن الحادي والعشرين. فهو منصة متقدمة للقوة الناعمة، ورافد داعم للدبلوماسية المصرية، ومحرك اقتصادي واعد، ومركز لإنتاج المعرفة وصون الهوية.

ومن قلب هذا المشروع ينهض صوت الحضارة المصرية العريقة، تلك التي شكلت جزءاً أصيلاً من ذاكرة الإنسانية، ليعيد اليوم تقديم نفسه للعالم في قالب يجمع بين جلال الماضي وحداثة العصر. وهكذا، يصبح المتحف بوابة تُطل منها مصر على المستقبل بثقة، ورسالة تقول للعالم: هنا عاش التاريخ… وهنا يُعاد بناؤه ليصنع الغد.