مثَّل وصول هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع "أبو محمد الجولاني سابقاً" إلى الحكم في سوريا -عقب عملية ردع العدوان التي قادتها مجموعة من الفصائل المسلحة التي نشطت في سنوات الحرب الأهلية السورية، وأدت إلى الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد- متغيرًا شديد الأهمية على مستوى تموضع الفاعلين المسلحين من دون الدول في إطار المعادلات السياسية والأمنية في العالم، خصوصًا في دول الأزمات، لا سيما أن هذا المتغير جاء بعد خمس سنوات تقريبًا من سيطرة حركة طالبان على مقاليد الحكم في أفغانستان.
ارتبطت خصوصية المتغير الأخير في سوريا بمجموعة من العوامل الرئيسية، خصوصًا أنه أنهى عقودًا من حكم حزب البعث في سوريا، كما أنه مثَّل نقطة تحول على جميع المستويات بالنسبة للدولة السورية، وعلى مستوى تبني الإدارة الجديدة في سوريا بقيادة أحمد الشرع أنماطًا مغايرة عن تلك التي كرس لها "البعث" في سوريا، فضلًا عن أن التغييرات الأخيرة كان لها انعكاسات كبيرة، ليس فقط على مستوى الجغرافيا السورية، وإنما على المستوى الإقليمي ككل. وعلى المستويين الأكاديمي والسياسي، طرح هذا المتغير أهمية متنامية لمسألة تحول الفاعلين المسلحين من دون الدول من مقاربة الجماعة إلى مقاربة ممارسة السلطة والسيطرة عليها.
أيضًا، ارتبطت أهمية الحالة السورية ووصول هيئة تحرير الشام إلى الحكم بحالة الهيئة نفسها وقائدها “أحمد الشرع”، والتحولات التكتيكية الكبيرة التي طرأت عليهما في السنوات الخاصة بالحرب الأهلية السورية، ارتباطًا بالعديد من العوامل الداخلية، خصوصًا ما يتعلق بالسيطرة على العديد من مناطق الشمال السوري وتشكيل إدارة ذاتية في المناطق التي خضعت لسيطرة الهيئة، فضلًا عن عوامل إقليمية ودولية أخرى مرتبطة بسعي الهيئة إلى كسب الشرعية وترجمة هذا النفوذ الميداني الكبير إلى نفوذ سياسي.
إتساقًا مع ذلك، طرحت سيطرة الهيئة على مقاليد الحكم في سوريا العديد من التساؤلات التي تحاول هذه الدراسة الإجابة عنها، خصوصًا فيما يتعلق بمدى قدرة الفاعلين المسلحين من دون الدول على التحول من منطق إدارة الجماعة إلى منطق ممارسة السلطة، فضلًا عن تساؤلات مرتبطة بمجمل السمات الرئيسية التي غلبت على تعامل الهيئة مع العديد من الملفات الراهنة في الحالة السورية، فضلًا عن أبرز التحديات والتهديدات التي تواجه الدولة السورية في ظل حكم الإدارة الجديدة، سواءً كانت التحديات والتهديدات البنيوية أو التحديات المرتبطة بعوامل خارجية.
في هذا الإطار، غلب على تعامل الإدارة السورية الجديدة مع الملفات والتحديات الراهنة في سوريا مجموعة من السمات الرئيسية، التي عبرت إجمالًا عن عدم القدرة بشكل كبير على تجاوز منطق الجماعة أو الفصيل المسلح والانتقال إلى منطق السلطة أو الدولة، ما تجسد في غلبة لون وطيف واحد على مفاصل الإدارة السورية الجديدة، واستحواذ قائد هذه الإدارة على صلاحيات واسعة، ما دفع العديد من التقديرات إلى طرح تخوفات مرتبطة بإعادة إنتاج حكم الفرد في سوريا. كذلك، كان هناك إشكاليات كبرى على مستوى تعامل هذه الإدارة مع ملف العدالة الانتقالية، والتعامل مع الأقليات العرقية المتنوعة في سوريا، بالإضافة إلى التحديات المرتبطة بالتموضع على المستوى الخارجي، وشكل التحالفات وأنماط التعاطي مع العديد من التهديدات المرتبطة بالعامل الخارجي، على غرار التعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة للسيادة السورية.
باستقراء الأوضاع في سوريا خلال المرحلة الانتقالية، وفي ظل حكم الإدارة الحالية، برزت العديد من التهديدات التي جمعت بين عوامل عديدة، حيث طفا إلى السطح مجموعة من الأزمات المرتبطة بالإرث الذي خلفه حكم “البعث” في سوريا، فضلًا عن أزمات مرتبطة بالطابع العقائدي والدوجمائي للإدارة السورية الجديدة، بالإضافة لأزمات ذات طابع بنيوي مرتبطة بالحالة السورية نفسها، على غرار أزمات الأقليات والعرقيات، ويُضاف إليها الأزمات المصاحبة للتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية في الملف السوري، وهنا يبرز التحدي الإسرائيلي كأحد أبرز التهديدات التي تواجه الدولة السورية في الحقبة الحالية.
في ضوء ما سبق، تحاول هذه الدراسة الإجابة عن بعض التساؤلات البحثية الرئيسية، خصوصًا ما يتعلق بالعوامل البنيوية والسياقات التي دفعت باتجاه الانهيار السريع للنظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد، فضلًا عن أهم السمات التي طغت على تعامل الإدارة السورية الحالية بقيادة أحمد الشرع مع الملفات والتحديات الراهنة في سوريا، مع التركيز على أبرز التهديدات والتحديات التي تواجه هذه الإدارة والمرحلة الانتقالية في سوريا بشكل عام.