رانيا مكرم

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

عَكَس التصعيد العسكري الأخير بين أفغانستان وباكستان في 11 أكتوبر الجاري - والذي استمر أسبوعاً ووصف بأنه غير مسبوق- هشاشة العلاقات بين البلدين، كما شكل أيضاً تحولاً في ديناميكية العلاقات بينهما، حيث تحولت من تفاهم ضمني إلى مواجهة صريحة، على الرغم من الخطوات التي كانت قد أعلنت عنها باكستان في أغسطس الماضي وتعهد من خلالها بتسمية سفير لها في أفغانستان بدلاً من الاكتفاء بمنصب قائم بأعمال سفارة باكستان في كابول.

وعلى الرغم من نجاح جهود إقليمية ودولية في فرض هدنة مؤقتة كحل آنٍ للمواجهات العسكرية الدائرة بينهما، فإن جذور الخلاف لا تزال قائمة، مع احتمالات أن تعاد الأزمة إلى الواجهة مجدداً، في ظل وجود إشكاليات معقدة تتعلق بالحدود غير المعترف بترسيمها الحالي من قبل أفغانستان، ومحاولات مواجهة الإرهاب، والعلاقات المتبادلة بين البلدين اللذين تجمعهما روابط تاريخية متشابكة بقدر ما تفرقهما أزمات مزمنة.

ويستحضر التوتر الحدودي بين أفغانستان وباكستان، الخلفية التاريخية لعلاقات البلدين خلال العقود الأخيرة، حيث تعود جذور التوتر إلى عام 1947 حين حصلت باكستان على الاستقلال، وتصويت أفغانستان ضد قبولها في الأمم المتحدة، تلك التوترات التي لم تمنع نشأة علاقات قائمة على المصالح المتبادلة بين البلدين، لاسيما مع اعتبار باكستان حركة طالبان الأفغانية حليفاً محتملاً. ظهر ذلك من خلال ارتياح باكستان للإطاحة بحكومة أشرف غني في كابل، وتعليق رئيس الوزراء حينها عمران خان على استيلاء طالبان على حكم أفغانستان بقوله "الأفغان كسروا أغلال العبودية".

وعلى الرغم من ذلك، ظلت باكستان مترددة في الاعتراف بـ "إمارة أفغانستان الإسلامية" الثانية حتى الآن، على عكس موقفها السابق من حكومة طالبان الأولى عام 1996، حين كانت باكستان إحدى أولى ثلاث دول اعترفت بحكومة طالبان إلى جانب السعودية والإمارات.

هدنة هشة

شهدت العلاقات بين باكستان وأفغانستان خلال شهر أكتوبر 2025 واحدة من أكثر مراحلها توتراً منذ سيطرة حركة طالبان على السلطة في كابول عام 2021. إذ تصاعدت الاشتباكات المسلحة بين قوات البلدين على طول "خط دوراند" الحدودي، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى من الجانبين، فيما تبادل الطرفان الاتهامات حول المسئولية عن تفجير الصراع مجدداً، وذلك بعد أن فتحت قوات أفغانية النار على مواقع حدودية باكستانية، رداً على غارات جوية نفذها الطيران الحربي الباكستاني على مواقع في عمق الأراضي الأفغانية، بينما ردت باكستان على الهجوم الأفغاني الجديد بالمدفعية ما أدى إلى تدمير مراكز حدودية أفغانية. ومن جانبها، أعلنت أفغانستان سيطرة القوات على 25 موقعاً عسكرياً تابعاً للجيش الباكستاني، بينما أكدت باكستان سيطرتها على ما لا يقل عن 19 موقعاً حدودياً أفغانياً[1].

وقد سعت دول إقليمية إلى التدخل لتخفيف حدة هذا التوتر، أبرزها قطر والسعودية وتركيا، إلى جانب دعوات من الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، حيث دعت كل من الرياض والدوحة في بيان مشترك لهما إلى "وقف فوري لإطلاق النار وضبط النفس والعودة إلى الحوار المباشر". إلى أن أعلن الجانبان عن اتفاقهما على هدنة لمدة 48 ساعة لوقف إطلاق النار في 16 أكتوبر الحالي، شهدت توقفاً نسبياً لإطلاق النار، إلا أن الوضع ظل هشاً وسط تبادل إطلاق نار متقطع في بعض المناطق الحدودية.

ففي محاولة أوسع لاحتواء الأزمة، استضافت الدوحة اجتماعات لوفدي البلدين في 18 أكتوبر، شارك فيها مسئولون أمنيون ودبلوماسيون رفيعو المستوى، نتج عنها فرض هدنة إنسانية مؤقتة، وفتح معبر "تورخم" أمام مرور المساعدات والجرحى، كما تم الاتفاق المبدئي على تشكيل لجنة أمنية مشتركة بإشراف قطري–سعودي لبحث آليات ضبط الحدود[2].

غير أن اللقاء لم يسفر في النهاية عن تفاهمات مهمة ملزمة في هذا السياق، حيث لم يتم الاتفاق على تثبيت هدنة طويلة الأمد، مع استمرار تأكيد باكستان على أن الهدنة مع أفغانستان مؤقتة، كما لم يتم التوصل لترتيبات أمنية مشتركة يمكنها تقوية الوضع الأمني الهش القائم حالياً، بالإضافة إلى عدم مناقشة أي من الملفات الخلافية الكبرى بين البلدين، وعلى رأسها مصير الجماعات المسلحة على الحدود، ومدى تعاون البلدين في مواجهتها. فضلاً عن عدم وضع خطة للدور الذي يمكن للقوى الإقليمية مثل السعودية، قطر، الصين، أن تقوم به في مساعي إقرار الأمن على الحدود بين البلدين.

وبالتالي فإنه وفق هذه المعطيات، يبقى الوضع القائم حالياً بين البلدين مرشحاً لتجدد التصعيد العسكري بين الجانبين، اعتماداً على استمرار عدم التفاهم حول النقاط الخلافية الأهم التي تؤدي دائماً إلى تجديد المواجهات العسكرية، والتي تصادف أجواء مشحونة بالأساس بين البلدين بسبب وجود عدد من الملفات المتأزمة وتعارض المصالح الإقليمية فيما بينهما، وهي ملفات لا ترقي منفردة في الحقيقة إلى التسبب في تأجيج صراع عسكري، لكنها تظل دائماً في الخلفية كعامل مساعد على تأجيج الاحتقان المتزايد بسبب الملفات الأمنية العالقة.

أجواء مشحونة

تعددت الأسباب المباشرة وغير المباشرة لاندلاع المواجهات المتكررة بين باكستان وأفغانستان، والتي يمكن تلخيصها في محورين رئيسيين: الأول؛ يشير إلى مسببات أساسية لاستخدام السلاح على الحدود بين البلدين. والثاني؛ يشير إلى خلافات ثانوية تبقى كمحفزات لتأجيج الأزمات.

1- أزمات متجددة: وهي تلك الأسباب التي تشير إليها تصريحات الجانبين وتبريرهما للقيام بعمل مسلح في مواجهة بعضهما البعض، سواء في المناطق الحدودية أو في عمق أراضي البلدين، وتتمثل في:

أ- اتهام باكستان لطالبان أفغانستان بإيواء جماعات مسلحة تستهدف أراضيها: تؤكد إسلام آباد على أن حركة طالبان ومن قبلها الحكومات الأفغانية المتعاقبة قد سمحت بأن تصبح الأراضي الأفغانية ملاذاً آمناً لعناصر حركة "تحريك طالبان باكستان" (TTP) التي تنفذ هجمات ضد الجيش الباكستاني في المناطق الحدودية، وفي العمق الباكستاني من خلال عناصر لها قادرة على اختراق الحواجز الأمنية بين البلدين، كما تتهم باكستان الحكومة الأفغانية الحالية بالتقاعس عن تفكيكها وتسليم قيادتها، والسماح بتمويل الهند لهذه الجماعة بالتدريب والتخطيط.

وعلى الرغم من تأكيد حكومة طالبان أفغانستان أنها لا ولن تسمح لأي جهة باستخدام أراضي أفغانستان لاستهداف دول أخرى، فإن حركة طالبان باكستان كانت قد أعلنت في 11 أكتوبر الجاري مسئوليتها عن هجمات متزامنة استهدفت قوات الأمن الباكستانية في إقليم خيبر بختونخوا الحدودي مع أفغانستان، وأسفرت عن مقتل 23 شخصاً، بينهم 20 عنصراً أمنياً و3 مدنيين، ردت عليها باكستان بتنفيذ غارة جوية بطائرات حربية استهدفت منطقة مارغا، في ولاية باكتيا، جنوب كابول[3].

ب- محاولات طالبان أفغانستان فرض واقع جديد على الحدود: تشترك الدولتان في حدود يبلغ طولها 2640 كيلومتراً، تسمى بـ "خط دوراند" ويضم هذا الخط عدة معابر، فيما لا تعترف أفغانستان رسمياً وتاريخياً بهذه الحدود، وبالتالي أحقية باكستان في أغلبها، فيما تشير تقارير باكستانية إلى أن حركة طالبان أفغانستان قد أقدمت على بناء مواقع جديدة، ونقاط تفتيش داخل مناطق متنازع عليها قرب إقليم خيبر بختونخوا، ما اعتبرته باكستان تجاوزاً لخطوط التماس المتفق عليها.

وتجدر الإشارة إلي أن باكستان قد لجأت منذ سنوات منفردة إلي تسييج هذا الخط الحدودي، بتكلفة بلغت حوالي 532 مليون دولار، أنشأت عليه 1200 نقطة تفتيش. بينما يبلغ عدد نقاط التفتيش على الجانب الأفغاني حوالي 377 مركز تفتيش فقط، وهو ما رفضته أفغانستان وقتها ولا زالت ترفضه، وتعتبره تجاوزاً باكستانياً على حدودها، على خلفية عدم اعترافها بهذه الحدود أساساً. فيما يبرر كلا الجانبين نشاطه الأمني على الخط الحدودي بينهما بسبب طبيعته الجغرافية، حيث يعد من أكثر الحدود صعوبة في العالم، نظراً لوعورته وجباله الشاهقة، الأمر الذي يزيد من صعوبة مراقبة الوضع الأمني فيه. في حين خلق تفاوت النقاط الأمنية بين الطرفين على الخط الحدودي فجوة أمنية كبيرة ناحية أفغانستان، تستخدمها في الغالب باكستان للتأكيد على عدم قدرة طالبان أفغانستان على ضبط الحدود[4].

ج-تأثير عودة "طالبان أفغانستان" إلى الحكم على نشاط طالبان باكستان: تشير التقارير إلى أن عودة طالبان لحكم أفغانستان قد زاد من رغبة جماعة "تحريك طالبان باكستان" في العودة إلى باكستان مجدداً، وربما الوصول للحكم فيها، بعد لجوء الحركة للحدود الأفغانية منذ سنوات، ما يعني أن هناك رغبة لدى 6000 مقاتل على الأقل في العودة إلى باكستان، وهو العدد الذي أحصته الاستخبارات الباكستانية، وتؤكد تواجدهم على الحدود الأفغانية، فيما تشير دراسة سابقة لمعهد باكستان لدراسات السلام نشرت في 19 ديسمبر 2022، على موقعه الإلكتروني، إلى أن باكستان قد شهدت ارتفاعاً بنسبة 51% في الاستهدافات الإرهابية خلال عام من عودة حركة طالبان إلى حكم كابل في أغسطس 2021. وأن شهر أبريل 2022، قد شهد وحده 20 هجوماً إرهابياً، نفذته حركة طالبان باكستان في العمق الباكستاني عبر الحدود[5].

وعلى الرغم من أن باكستان قد استشعرت ارتياحاً وتفاؤلاً بإمكانية توسط طالبان أفغانستان لوقف إطلاق النار بين الحكومة الباكستانية وجماعة تحريك طالبان باكستان، فإن المباحثات التي جرت بهذا الشأن في مايو 2022 قد أخفقت في تحقيق نتائجها المرجوة، بسبب مطالب جماعة "تحريك طالبان باكستان" والتي اعتبرتها إسلام آباد غير مقبولة، شملت تخفيض التواجد العسكري الباكستاني في المناطق القبلية، وترسيم حدودي يخرج بعض المناطق القبلية من حدود باكستان في إقليم خيبر بختونخوا، فضلاً عن طلب عودة كوادر الحركة بأسلحتهم إلى الأراضي الباكستانية[6].

2- ملفات ضاغطة: وهي كما سبق الإشارة ملفات خلافية تبقى في خلفية الأزمات المتجددة بين البلدين، تسهم بين الحين والآخر في إعادة الخلافات إلى السطح بين البلدين، ومن بينها:

أ- تصاعد الخطاب القومي لدى البلدين لأهداف متعددة: استخدم كل طرف سردية خاصة به لتعزيز موقفه داخلياً، وذلك باستحضار فكرة التهديد الخارجي، في ظل تحديات داخلية تعاني منها الدولتان على اختلاف مسبباتها.

فمنذ صعود طالبان ثانياً إلى الحكم في أفغانستان، واجهت الحركة تحديين أساسيين؛ أولهما: افتقادها للشرعية الدولية وعدم الاعتراف بها رسمياً من قبل المجتمع الدولي، وثانيهما: اعتراض وتحفظ داخلي أبدته قبائل غير بشتونية مثل الطاجيك، والهزارة، والأوزبك، بسبب الحكم المطلق لعرق البشتون الذي تنتمي إليه طالبان. وبالتالي لجأت الحركة إلى التأكيد على فكرة الاستقلال الأفغاني، ورفض الوصاية الخارجية، مع تكرار التأكيد على أن أفغانستان لن تكون تابعة لباكستان، متهمة إياها بمحاولة إضعافها من استهدافها المتكرر[7].

أما على الجانب الباكستاني، فقد عاد الترويج لمقولة "الأمن القومي الممتد"، التي أنتجها الجيش الباكستاني منذ سنوات، مفادها أن أمن باكستان يبدأ خارج حدودها، لاسيما في أفغانستان، وذلك لتبرير العمليات العسكرية عبر الحدود، على الرغم من المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، مع التأكيد على أن الانتقادات الموجهة في الداخل لهذه الاستهدفات هي مجرد دعوات لخدمة أجندات خارجية، تريد باكستان ضعيفة ومستهدفة من جيرانها.

فيما تجدر الإشارة إلى أن التصعيد بين البلدين، يواجه تيارين متناقضين داخل كل منهما، حيث تشهد طالبان انقساماً بشأن التعامل مع باكستان والتصعيد ضدها، بين طرف مؤيد لإثبات الاستقلال الوطني عنها، وطرف آخر تمثله شبكة حقاني والمقربون منها، يدعو  إلى الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة معها تفادياً للانتقادات الدولية، وعدم الانجرار إلى صراع مفتوح أكبر من قدرات أفغانستان حالياً، وهو ما يفسر على الأرجح عن مراوحة سلوك الحركة تجاه باكستان بين التصعيد تارة والتهدئة تارة أخرى.

كذلك الحال في باكستان، حيث يدعو جناح في المؤسسة العسكرية إلى التصعيد مع طالبان أفغانستان بهدف دفعها إلى ضبط الحدود، فيما يرى جناح آخر أن هذا التصعيد يفتح جبهة جديدة في توقيت غير مناسب في الوقت الحالي بسبب الأوضاع الاقتصادية المتأزمة[8].

ب- العلاقات الهندية-الأفغانية وتأثيرها على الصراع الباكستاني-الهندي: يثير التقارب الهندي مع أفغانستان حفيظة باكستان بشكل كبير، نظراً للعداء التاريخي مع نيودلهي، لاسيما مع إبداء الأخيرة استعداداً للانفتاح على حركة طالبان والتعاون معها، الأمر الذي أثار تخوف باكستان من قيام تحالف إقليمي جديد ضدها في الجوار المضطرب، حيث يرى المراقبون أن التقارب الهندي-الأفغاني غير مسبوق وذلك على خلفية استقبال الهند وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي للمرة الأولى منذ العام 2021، في 10 أكتوبر الجاري، وإعلان وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار أن البعثة الدبلوماسية الهندية في كابول ستصبح سفارة كاملة.

جاءت زيارة متقي للهند في توقيت بالغ الحساسية، حيث تشهد العلاقات بين أفغانستان وباكستان توتراً شديداً من جانب، وبين باكستان والهند من جانب آخر، في حين ترى طالبان فرصة كبيرة لها للتقارب مع الهند، وفتح الطريق أمام تعزيز موقفها الدبلوماسي، وربما حصولها على أول اعتراف إقليمي بشرعية حكمها في أفغانستان، فيما ترى الهند في تعاونها مع أفغانستان فرصة لتحجيم دور باكستان في أفغانستان، وتقويض قوتها في منطقة جوارهما بدءاً من كابل، كما ترى الهند أن الفرصة حالياً سانحة للتعاون مع أفغانستان في مجال الاقتصاد على غرار الصين التي تُنشِّط مشروعاتها في أفغانستان، في مجالات التعدين والبنية التحتية، واستعادة حضورها في هذا الإطار، حيث شاركت الهند قبل عام 2021، في أكثر من 500 مشروع تنموي وبنية تحتية في أفغانستان، شملت قطاعات الكهرباء والمياه والتعليم والرعاية الصحية.

وعلى الرغم من أن الاشتباكات المتكررة بين أفغانستان وباكستان خلال الفترة الأخيرة، لم تتورط فيها الهند بشكل مباشر، فإن اتهامات باكستانية تطال نيودلهي، مفادها الوقوف على تمويل وتسليح حركة "تحريك طلبان باكستان" داخل الأراضي الأفغانية، وحملت تصريحات المسئولين الباكستانين رسائل عدة مفادها أنه "لا مساومة على الدفاع عن باكستان، وسيقابل كل استفزاز برد قوي وفعال"، كما أكد وزير الداخلية الباكستاني محسن نقفي أن "أفغانستان تلعب بالنار والدم، وأنها ستتلقى مثل الهند، رداً قوياً لن تجرؤ بعده على النظر بعدائية إلى باكستان" في إشارة منه إلى أكبر تصعيد عسكري-باكستاني منذ عقود مع الهند، الذي وقع في مايو الماضي 2025[9].

ج-طبيعة العلاقات الباكستانية-الصينية وانعكاسها على قدرة إسلام آباد على مواجهة هجمات حركة طالبان باكستان: لا تقتصر مسببات الصراع المتجدد بين باكستان وأفغانستان من وقت إلى آخر على الرد على هجمات حركة "تحريك طالبان باكستان" العابرة للحدود مع أفغانستان فقط، وفق العديد من المراقبين، بل تمتد لتشمل تلك الهجمات التي تشنها الحركة من خلال الممر التجاري بين الصين وباكستان، إذ يبدو أن الهدف من وراء هذا التصعيد الذي تقوم به حركة طالبان باكستان هو الضغط على إسلام آباد وبكين، لوقف تطوير هذا المشروع، الذي يمنح باكستان مخرجاً لموقفها الاقتصادي الحرج، ويوفر حضوراً قوياً للصين في المنطقة كشريك اقتصادي لكل من باكستان وأفغانستان والهند، الأمر الذي يمكن أن يسهم في المستقبل في تحقيق نوع من الاستقرار في هذه المنطقة المتأججة بالصراعات. وترى بعض التحليلات في هذا الإطار أن ثمة دوراً استخباراتياً غربياً يحرك طالبان باكستان لاستخدام هذا الممر التجاري تحديداً، لعرقلة التعاون الصيني-الباكستاني لخدمة مصالح غربية[10].

د- قضية اللاجئين الأفغان في باكستان: يعد ملف اللاجئين الأفغان في باكستان أحد أكثر القضايا تشابكاً في العلاقات بين إسلام آباد وكابول، بعد تجاوزه الطابع الإنساني وتحوله لأداة ضغط سياسي من قبل باكستان على حكومة طالبان، حيث تستضيف باكستان ملايين من اللاجئين الأفغان منذ عقود، فيما بدأت منذ عام 2023 في انتهاج سياسة أكثر تشدداً تجاه هذا الملف، وعملت على تنظيم حملات ترحيل جماعي فضلاً عن فرض إجراءات قانونية صارمة بحق المقيمين غير المسجلين، مبررة ذلك بـ"اعتبارات الأمن القومي".

من جانبها، تنظر حركة طالبان إلى هذه الخطوات الباكستية، بوصفها إجراءات عقابية جماعية لجأت إليها باكستان لاستهداف الأفغان في باكستان، كوسيلة ضغط لإرغامها على اتخاذ مواقف أكثر تجاوباً حيال مطالب باكستان الأمنية، المتعلقة بكبح نشاط حركة طالبان الباكستانية وتسليم قياداتها. في حين أن باكستان ترى في تدفق اللاجئين وبقائهم استمراراً لوجود أعباء اقتصادية وأمنية هي في غنى عنها في الوقت الراهن، وبالتالي يعكس هذا الملف حالة انسداد قنوات التفاهم بين البلدين، وانعدام الثقة المتبادلة في ظل التوترات الأمنية الراهنة[11].

أفق التصعيد بين باكستان وأفغانستان

تكشف التطورات الأخيرة أن التصعيد بين باكستان وأفغانستان لم يعد مجرد أزمة حدودية أو أمنية عابرة، بل بات يعكس تحولاً في طبيعة العلاقة بين الدولتين بعد عودة طالبان إلى الحكم في كابول عام 2021. فباكستان التي كانت ترى في طالبان حليفاً ممكناً لمكافحة الإرهاب، تجد نفسها أمام خيارات ضيقة للتعامل مع حركة طالبان في أفغانستان، التي تسعى بدورها إلى ترسيخ شرعيتها إقليمياً ودولياً، وفق نظرة خالصة لمصالحها، وسط سيادة لازالت غير مكتملة في ظل وجود جماعات إرهابية لازالت تسيطر على بعض المناطق في مقدمتها تنظيم داعش خراسان.

على المستوى الإقليمي، يفرض هذا التوتر مزيداً من التهديد لاستقرار منطقة جنوب آسيا، التي تضج باضطرابات عدة، وتتنافس فيها أطراف إقليمية متعددة للحصول على هامش أوسع لإعادة صياغة أدوارها فيها، وعلى رأسها الصين، وروسيا، والتي من المرجح أن تعيد حساباتها تجاه حركة طالبان أفغانستان، التي بدت عاجزة حتى الآن عن لعب دور الشريك المستقر والموثوق.

 فيما يظل مستقبل العلاقة بين البلدين مرهوناً بقدرة كل طرف على إدراك أن غياب حوار جاد، وتفاهمات معمقة حول القضايا الخلافية المهمة يؤدي إلى تآكل قدرات الدولتين على معالجة أزماتهما الداخلية، ويعمل على استمرار فرص تجدد الصراع، وفي هذا السياق يرجح أن يستمر سيناريو حالة "اللاحرب واللاسلم" بين الطرفين؛ لاسيما على المدي المتوسط، اعتماداً على محدودية النتائج التي أسفرت عنها الوساطات الإقليمية لحل الأزمة الأخيرة، دون الوصول –على الأرجح- إلى حد المواجهة الشاملة، في ظل وجود تحديات داخلية وخارجية متشابكة لدى الطرفين، تمنع الطرفين حتى الآن من فتح جبهات عسكرية موسعة.


[1]  ما الذي حدث بين باكستان وأفغانستان؟ وما علاقة الهند؟، موقع الجزيرة نت،، 12 أكتوبر 2025، على الرابط: https://h1.nu/1hKY6.

[2] Asif Shahzad and Mohammad Yunus Yawar, Pakistan and Afghanistan agree to immediate ceasefire after peace talks in Doha, reuters , October 19, 2025, https://h1.nu/1hKY8 .

[3] "طالبان باكستان" تتبنى هجمات أسفرت عن 23 قتيلاً في شمال غرب البلاد، الشرق الأوسط،11 أكتوبر 2025 على الرابط: https://h1.nu/1d1ew .

[4] أحمد دياب، الخيارات الصعبة: تصاعد المواجهات بين الحكومة الباكستانية و"طالبان باكستان"، مركز الأمارات للسياسات، 21 ديسمبر 2022، على الرابط: https://h1.nu/1hL0z.

[5] Terrorist Group TTP Is The Biggest Challenge To Pakistan – Analysis,  Eurasia review site, December 20, 2022,  https://h1.nu/1hKYL .

[6] Zia Ur Rehman, Why Pakistan and the Taliban are at war with each other, middle east eye site, 16 October 2025; https://h1.nu/1hKYV,

[7] Taliban government blames Pakistan for drone strikes on Afghanistan, PBS News site, October 16 2025, https://h1.nu/1d1ja.

[8] Maroosha Muzaffar ,Why Pakistan and the Afghan Taliban are fighting and what happens next, independent , 16 October 2025, https://h1.nu/1hL3k .

[9] الهند تعلن إعادة فتح سفارتها في كابول لتعزيز العلاقات مع طالبان، الشرق نيوز، 10 أكتوبر 2025، على الرابط: https://h1.nu/1d1ts.

[10] هل يتطور التصعيد بين باكستان وأفغانستان إلى مواجهة عسكرية مباشرة؟ موقع إرم نيوز، 12 أكتوبر 2025، على الرابط: https://h1.nu/1hLkT.

[11] Pakistan: Forced Returns Expose Afghans to Persecution, Destitution, Human Rights watch; https://h1.nu/1d1DK.