اقتصرت الصورة الذهنية التقليدية للحمير – تاريخيًا - على تصنيفها كحيوانات تستخدم لأغراض النقل فقط Animals of Burden، وهو ما أدى إلى تجاهل إسهامها في التنمية، وذلك على الرغم من قيامها بأدوار اقتصادية واجتماعية - لاسيما علاجية - هامة في العديد من المجتمعات شبه الحضرية والريفية حول العالم، وتحديدًا في المناطق ذات البنية التحتية المحدودة أو الظروف المناخية القاسية في أفريقيا وآسيا ومنطقة البحر المتوسط.
وغالبًا ما مثلت ملكيتها المخرج الوحيد من الفقر المدقع في تلك المناطق؛ عن طريق توفيرها للدخل سواء الفوري أو طويل الأجل. كما لا يمكن تجاهل أهميتها في بعض المجتمعات الأورومتوسطية، نظرًا لقوتها وصمودها، ودورها في الحفاظ على سبل العيش.
ومع تزايد أهميتها، لم تعد الحمير مجرد حيوانات خدمية، بل تحولت إلى محور لتجارة لها تأثير على العلاقات بين العديد من دول العالم، وتمثل الصين وبعض الدول الأفريقية نموذجًا لذلك. إذ لم تعد الأولى تبدي اهتمامًا خاصًا بتطوير البنية التحتية وضخ استثمارات وإقامة مشروعات وتقديم قروض إلى تلك الدول فحسب، بل إنها أصبحت سببًا رئيسيًا في تفاقم ظاهرة تراجع عدد الحمير في العديد من تلك الدول، والتي تعتمد عليها مجتمعاتها الريفية بشكلٍ كبير.
طلب متزايد
برزت، مؤخرًا، تجارة جلد الحمير كأكبر تهديد للحمير والمجتمعات المعتمدة عليها، مدفوعة بالطلب المتزايد على المنتج الصيني "الإيجياو"، وهو جيلاتين مشتق من جلد الحمير، ويُعد مكونًا رئيسيًا في الطب الصيني التقليدي. وقد أدت زيادة الطلب عليه في الصين إلى تسريع وتيرة ذبح وتصدير- أو تهريب - الحمير من جميع أنحاء أفريقيا، على نحو يفرض ضغوطًا غير مسبوقة على عدة اقتصادات وطنية.[1]
الجدير بالذكر أن تلك الممارسة - عملية ذبح الحمير لاستخلاص زيوتها وجلودها - ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى ما يقارب آلاف السنين، حيث كانت المادة المستخلصة من جلود الحمير والمعروفة بـ"الإيجياو" جزءاً من الطب الصيني، والذي اكتسب سمعة جيدة بسبب نتائجه المرضية في علاج فقر الدم أو انخفاض عدد خلايا الدم أو مشكلات الإنجاب، على نحو جعل منه دواءً باهظ الثمن، لا يتمكن من شراءه أو تقديمه كهدايا فاخرة إلا الأغنياء، فقد كان يباع بنحو 780 دولارًا للكيلوجرام.[2]
وعلى مر الزمن، أدت تلك الممارسات إلى انخفاض عدد الحمير في الصين من 12 مليون في تسعينيات القرن الماضي إلى نحو 6.4 مليون في عام 2012، ثم إلى أقل من ثلاثة ملايين عام 2023. وفي سبيل مواجهة ارتفاع الطلب عليه، زادت الصين إنتاجها من "الإيجياو" بنسبة 160 في المئة منذ عام 2016. غير أن هذه الزيادة لم تكفِ لتلبية استهلاك السوق المحلية، مما دفع البلاد للاتجاه نحو أفريقيا بهدف سد الفجوة. وقد أسفر ذلك عن توسع سوق "الإيجياو" في الصين من 3.2 مليار دولار عام 2013 إلى نحو 7.8 مليار دولار عام 2020. [3]
تداعيات سلبية
يشير ذلك بوضوح إلى أن طبيعة العلاقات الصينية - الأفريقية تجاوزت نطاق البنية التحتية أو الاستثمارات، لتمس، بشكل مباشر، الأنظمة البيئية وسبل عيش المجتمعات المحلية. وبالتالي، إذا لم تأخذ الصين احتياجات سكان تلك الدول وأولوياتهم في اعتبارها، فإن ذلك قد يُقوّض سرديتها التنموية ويضعف على المدى البعيد من مستوى القبول الشعبي لسياساتها ونفوذها المتنامي في القارة.
وبشكلٍ عام، أدى ذلك الانخفاض السريع في أعداد الحمير إلى استياء المزارعين المحليين في تلك الدول، حيث ارتفعت سرقة الحمير بنسب كبيرة. وقد تسبب ذلك في تداعيات عدة مثل انخفاض الدخل، وتراجع القدرة على توفير الغذاء ودفع الرسوم المدرسية للأطفال، فضلاً عن انتقال المهام المنزلية التي كانت تعتمد على الحمير - مثل جلب المياه - إلى كاهل الأطفال.
وقد أدى فقدان الدخل الناتج عن العمل المتعلق بالحمير إلى تراجع المستوى المعيشي للأسر التي تعتمد عليها، حيث وفر استخدام الحمير في العمل دخلاً يوميًا يُمكِّن الأسر من تلبية احتياجاتها الأساسية والحفاظ على مستوى معيشي محدد. كما أن فقدانها أدى إلى انخفاض إمدادات المياه للاستخدام المنزلي والتي أصبحت تُحمَّل على ظهر الإنسان بدلًا من الحمير، وهو ما أسفر بدوره عن تقليص عدد رحلات جلب المياه، خاصة في المناطق الوعرة.[4]
وتُشير جمعية بروك Brooke الخيرية للحيوان إلى تحوّل ملموس في العديد من المجتمعات الريفية الكينية، فبعد أن كانت الحمير توفر الوقت والجهد في مهام نقل البضائع والمياه، مما كان يمنح النساء مساحة لرعاية الأطفال أو المشاركة في أعمال مُدرَّة للدخل، أصبحت هذه المهام تُلقى الآن على عاتق النساء والأطفال أنفسهم.[5]
وفي الكاميرون، شكّلت الحمير سابقًا عنصرًا أساسيًا لا غنى عنه في سبل كسب العيش للأسر الزراعية والرعوية، والتي تمثّل الغالبية العظمى من السكان. غير أن تراجع أعدادها حرم هذه الفئات من وسيلة نقل فعّالة وقوة جر بأسعار ميسورة، مما قيّد قدرتهم على تنويع مصادر دخلهم.
وقد أكد مسح اجتماعي واقتصادي حديث شمل عدة مناطق في الدولة، أن 91٪ من مالكي الحمير هم من صغار المزارعين الذكور الذين يعتمدون على هذه الحيوانات في أنظمة الزراعة المختلطة وتربية الماشية والوصول إلى الأسواق.[6]
وفي مالي، التي تمتلك حاليًا نحو 1.19 مليون حمار وهو ما وضعها بين أكبر 15 دولة من حيث امتلاك الحمير، أصبح هناك صعوبة في نقل المياه والحطب والحبوب، وكذلك في ربط القرى النائية بالأسواق الأسبوعية التي يتعذر للمركبات الوصول إليها.[7]
إجراءات مضادة
في سبيل مواجهة تهديد نقص عدد الحمير، قامت عدة دول باتخاذ تدابير عديدة. فعلى سبيل المثال، يُحظر الآن ذبح الحمير في تنزانيا حتى يصل عدد الحمير إلى عشرة ملايين. وقد جاء ذلك بعد انخفاض أعدادها من حوالي 1.5 مليون في عام 2016 إلى 595 ألفًا في عام 2018.[8]
وفي كينيا، وعلى الرغم من رفع المحكمة العليا الحظر المفروض على ذبح الحمير في ٢٠٢١، إلا أنه لم يتم استئناف ذبحها وذلك بعد أن جمّدت وزارة الزراعة إصدار تراخيص المسالخ استجابة لشكاوى المجتمعات المالكة للحمير.[9] وقد تم اتخاذ هذه التدابير بعد انخفاض الأعداد حاليًا إلى أقل من مليون حمار، مقارنة بـ 1.8 مليون قبل عقد من الزمن، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن المكتب الوطني للإحصاء في كينيا.[10]
وفي النيجر، أصدرت وزارات الزراعة والمالية والداخلية والتجارة قرارًا مشتركًا في سبتمبر 2016 يحظر تصدير الحمير وذبحها محليًا. ومع ذلك، لم يتم الالتزام بالقرار وتحول معظم النشاط التجاري إلى الخفاء. الجدير بالذكر أن النيجر كان المصدر الرئيسي للحمير الحية في غرب أفريقيا عام 2016. وسجلت الأرقام الرسمية تصدير 80,000 رأس خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر 2016، بزيادة من 27,000 رأس في عام 2015. ومع ارتفاع الطلب من المسالخ النيجرية والمشترين الصينيين للجلود، تضاعفت الأسعار ثلاثة أضعاف، حيث ارتفعت من حوالي 35-40 دولارًا أمريكيًا إلى 120-145 دولارًا أمريكيًا للرأس.[11]
وبينما اتضح للمجتمع الدولي عدم كفاية الجهود الوطنية في مجابهة تلك المشكلة، تنامت المطالبات ببذل جهود متعددة الأطراف. فعلى سبيل المثال، قامت اللجنة الفنية المتخصصة المعنية بالزراعة والتنمية الريفية والمياه والبيئة Specialized Technical Committee (STC) on Agriculture, Rural Development, Water, and Environment، التابعة للاتحاد الإفريقي، في اجتماعها الخامس، الذي عُقد في 2023، بتعزيز التزامها بحماية جميع الحيوانات وضمان أن يكون استخدام الموارد الطبيعية مستدامًا بيئيًا وإنسانيًا.[12]
وحديثًا، قام المكتب الدولي للثروة الحيوانية التابع للاتحاد الأفريقي (AU-IBAR) بالتعاون مع الائتلاف الدولي لحمير العمل (ICWE) - الذي يضم كلاً من بروك Brooke، وجمعية الحمار Sanctuary، وجمعية حماية الحيوانات في الخارج (SPANA)، ورعاية خيول العالم - بتنظيم مؤتمر الحمارPADCO 2025[13]، وذلك لمتابعة قرارات رؤساء دول الاتحاد الأفريقي المتعلقة بوقف الذبح للحفاظ على الحمير. ومن المفترض أن تعمل هذه المنصة على وضع استراتيجية قارية لحماية الحمير، وذلك بمشاركة أصحاب المصلحة الرئيسيين، بما في ذلك صانعي السياسات والأطباء البيطريين والمنظمات غير الحكومية وشركاء التنمية من جميع أنحاء أفريقيا.[14]
ختامًا، في ظل تزايد الانتقادات الدولية لدور الصين في استغلال الحمير- تحديدًا في أفريقيا- لإنتاج "الإيجياو"، سعت بكين إلى طرح رواية مضادة تهدف إلى إعادة صياغة الخطاب والتأكيد على الأبعاد التنموية لشراكتها مع أفريقيا. فعلى سبيل المثال، نشرت وكالات أنباء مثل "شينخوا" مقالات متخصصة بعناوين مثل "مرحباً أفريقيا، التروسيكل الصيني يحدث تحولاً في منطقة خليج الحمير بوسط كينيا".
وتفترض هذه الرواية أن إدخال التروسيكل صيني الصنع قد عمل على حل مشكلات التجار المحليين ومكنهم من التغلب على التحديات التي كانت مرتبطة بالنقل المعتمد على الحمير، مع الإشارة إلى أن استيراد هذه المركبات بدأ منذ حوالي عقدين، وهو ما وفر دعمًا للتجار الذين يفتقرون إلى رأس المال لشراء مركبات تقليدية مما أدى إلى استيعاب احتياجات الملايين من الكينيين، وتنمية اقتصادهم المحلي.[15]
وبذلك يمكن القول إن تجارة "الإيجياو" – على الرغم من بساطتها الظاهرة – تكشف عن تعقيدات عميقة تتعلق بمدى قدرة الدول الأفريقية على حماية مواردها الهشة، والتصدي لمنطق السوق النيوليبرالي الذي يتعامل مع الكائنات الحية كسلع قابلة للتداول والاحتكار. كما تُظهِر الخلل الموجود في موازين القوة في العلاقات الصينية-الأفريقية، وهو ما يفتح المجال أمام تساؤلات أعمق حول مفهوم السيادة البيئية والاجتماعية، مما يستوجب عدم مناقشتها كملف بيئي أو اقتصادي منعزل، بل كمدخل نقدي لفهم التحديات البنيوية التي تواجه دول الجنوب العالمي في مساعيها لتحقيق تنمية مستدامة وعادلة.
[3] "الحمير تشعل معركة اقتصادية بين أفريقيا والصين"، مرجع سابق.
[4] David Obiero Oduori et al., “Social and Economic Impacts of the Donkey Skin Trade on Donkey-Dependent Women and Communities in Kenya,” Human-Animal Interactions, June 26, 2025, 1–12, https://doi.org/10.1079/hai.2025.0013.
[6] “DONKEY SLAUGHTER AND SKIN TRADE IN AFRICA Post-Moratorium Trends across Some African Union Member States,” Brooke, accessed October 18, 2025, https://www.thebrooke.org
[10] Roman Goergen, “Skinned for Profit: How Global Trade Is Driving Africa’s Donkeys to the Brink • the Revelator,” The Revelator, September 24, 2025, https://therevelator.org.
[11] “Donkey Slaughter And Skin Trade In Africa A Post-Moratorium Trends across Some African Union Member States,” Brooke, accessed October 18, 2025, https://www.thebrooke.org.
[12] “Preserving Africa’s Donkeys: Key Outcomes from the 5th Specialized Technical Committee,” African Union (AU), accessed October 7, 2025, https://www.au-ibar.org.