شهدت السياسة الخارجية الإسبانية خلال العامين الأخيرين تحولًا نوعيًا في مقاربتها لأزمات الشرق الأوسط، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وأزمة غزة. فبعد سنوات من التماهي مع الموقف الأوروبي التقليدي القائم على الاكتفاء بالدعوة لحل الدولتين دون ترجمة عملية، انتقلت مدريد إلى نهج أكثر استقلالية وفاعلية. وقد تبلور هذا التحول مؤخرًا في إعلان الحكومة الإسبانية – في سبتمبر 2025 – حزمة من تسعة إجراءات ضد السياسات الإسرائيلية، شملت فرض حظر دائم على تصدير السلاح، دعم التحقيقات الدولية أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، تعزيز المساعدات الإنسانية لغزة والضغط داخل الاتحاد الأوروبي لتبنّي مواقف أكثر صرامة. كما شملت العقوبات حظر دخول شخصيات إسرائيلية تعتبرها مدريد "مسئولة بشكل مباشر عن الإبادة في غزة"، إذ شمل الحظر كلًا من وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
هذا الإعلان لم يكن معزولًا عن سياقاته؛ بل جاء امتدادًا لتطورات سابقة مثل تعليق صادرات السلاح في أكتوبر 2023، والاعتراف بدولة فلسطين في مايو 2024، وسابقاً لتطورات أخرى مثل مشاركة إسبانيا في قمة شرم الشيخ للسلام التي عقدت في 13 أكتوبر الجاري بعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة. لكنه يمثل في جوهره انتقالًا من مواقف نقدية متفرقة إلى سياسة مؤسسية متكاملة، تحمل أبعادًا دبلوماسية وقانونية وإنسانية. ومن هنا، يطرح هذا المقال تساؤلًا حول العوامل الداخلية والخارجية التي دفعت إسبانيا إلى هذا التوجه، وكيف ينعكس على مكانتها الأوروبية وعلاقاتها الإقليمية، وخاصة مع الدول العربية المعنية بأزمة غزة.
تحول استراتيجي تجاه فلسطين بعد 2023
مع اندلاع حرب غزة 2023 وما صاحبها من أزمة إنسانية كبرى، اتخذت إسبانيا مسارًا مميزًا داخل الاتحاد الأوروبي. ففي حين تبنت عواصم غربية كبرى خطابًا تقليديًا يؤكد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" مع غض الطرف عن الانتهاكات بحق المدنيين، اختارت مدريد النأي عن هذا الإجماع الضمني. برز ذلك جليًا في تصريحات رئيس الوزراء بيدرو سانشيز الذي ندد علنًا بـ"قتل المدنيين العشوائي" في غزة، ما أثار انتقادات حادة من قبل الحكومة الإسرائيلية التي اتهمته بتجاهل دور حماس في الصراع. كذلك انخرطت إسبانيا في قيادة كتلة أوروبية "تقدمية" ضمت إيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا وغيرها، طالبت بوقف إطلاق النار وزيادة المساعدات الإنسانية بدلاً من الاصطفاف التام مع الموقف الأمريكي والبريطاني. وقد اعتبرت تحليلات أوروبية هذا التوجه بمثابة "قوة موازنة" داخل الاتحاد يحدُّ من انحياز السياسة الأوروبية نحو إسرائيل منذ وقت مبكر، ويساهم في الحفاظ على بعض المصداقية الأخلاقية لأوروبا عالميًا عبر إظهار تنوع المواقف داخلها(1).
على الصعيد العملي، اتخذت الحكومة الإسبانية سلسلة خطوات ملموسة منذ أواخر عام 2023 في استجابتها لأزمة غزة. ففي أكتوبر 2023، أعلنت مدريد تعليق جميع صادراتها العسكرية إلى إسرائيل، بما في ذلك وقف إصدار أي تراخيص جديدة ومنع تنفيذ عقود قائمة، التزامًا بموقف رافض لاستمرار الحرب. وقد تأكد لاحقًا أن هذا الحظر كان مطبَّقًا فعليًا منذ اللحظة الأولى لاندلاع النزاع، رغم عدم تقنينه حينها. وفي أبريل 2025، ألغت الحكومة الإسبانية رسميًا عقدًا لشراء ذخائر من إنتاج شركة إسرائيلية، تنفيذًا لهذا التعليق. ثم توّجت هذه السياسة في سبتمبر 2025، حين أقرّ مجلس الوزراء الإسباني مرسومًا ملكيًا يُضفي الطابع القانوني والدائم على الحظر، ليشمل جميع أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية الموجهة لإسرائيل. وعلى المستوى البرلماني، صوّت مجلس النواب الإسباني في مايو 2025 على اقتراح غير ملزم يدعو إلى فرض حظر أسلحة شامل على إسرائيل، وزيادة الدعم الإنساني لغزة، وتعزيز الأدوات القانونية الدولية لمحاسبة المسئولين عن الانتهاكات. وقد اعتُبر هذا التصويت بمثابة غطاء سياسي إضافي لخطوات الحكومة المتقدمة(2).
وفي تطور لافت آخر عكس انتقال الموقف الإسباني من الدعم الدبلوماسي إلى الانخراط العملي، أعلن رئيس الوزراء بيدرو سانشيز في أواخر سبتمبر 2025 إرسال فرقاطة تابعة للبحرية الإسبانية "فورور" لمرافقة "أسطول الصمود العالمي" المتجه إلى غزة. وقد اعترضت البحرية الإسرائيلية لاحقًا بعض سفن "أسطول الصمود العالمي" واحتجزت مشاركين، بينهم مواطنون إسبان. وردّت مدريد باستدعاء القائم بالأعمال الإسرائيلي للتعبير عن احتجاجها الرسمي، مؤكدة أن الأسطول مهمة إنسانية لا تهدد أمن إسرائيل، وأنها ستواصل تقديم الحماية الدبلوماسية لرعاياها. كما أوضحت وزارة الدفاع أن الفرقاطة الإسبانية توقفت في المياه الدولية احترامًا للقانون الدولي وتفاديًا للتصعيد العسكري(3).
وكان هذا القرار خطوة رمزية واستراتيجية في آنٍ واحد، إذ يؤكد إصرار مدريد على ترجمة مواقفها السياسية إلى إجراءات ميدانية، ويعكس استعدادها لتحمل كلفة سياسية ودبلوماسية في سبيل الدفاع عن الموقف الأوروبي الإنساني تجاه غزة وهو ما حدث بالهجوم المستمر من المسئولين الإسرائيليين على إسبانيا، فقد شن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على سبيل المثال هجومًا حادًا على نظيره الإسباني بيدرو سانشيز، متهما إياه بتوجيه "تهديد إبادة جماعية ضد الدولة اليهودية الوحيدة".
ولم تكتفِ إسبانيا بذلك؛ بل رافقت هذه السياسات تحركات دبلوماسية نشطة قادها وزير الخارجية خوسيه مانويل ألباريس، الذي دعا مرارًا إلى مراجعة شاملة لعلاقات الاتحاد الأوروبي مع إسرائيل، بما يشمل استخدام الثقل الاقتصادي والدبلوماسي الأوروبي للضغط على تل أبيب من أجل وقف هجماتها على المدنيين في غزة واحترام القانون الدولي الإنساني. هذه التحركات توّجتها مدريد بخطوة ذات دلالات سياسية قوية في 28 مايو 2024 عندما أعلنت رسميًا اعترافها بدولة فلسطين وانضمامها إلى أكثر من 140 دولة تتخذ هذه الخطوة. وبرغم أن هذا الاعتراف ذو طابع رمزي وقانوني محدود، إلا أنه يحمل رسالة سياسية قوية في توقيت حرج، مفادها إصرار إسبانيا على حل الدولتين ووقوفها في صف العدالة الدولية في وقت أسبق عن دول أوروبية مركزية أخرى.
كما تبنّت مدريد، بالتنسيق مع البعثة الفلسطينية لدى الأمم المتحدة، مشروع قرار قُدّم إلى الجمعية العامة في 12 يونيو 2025، يدعو إلى حماية المدنيين في قطاع غزة ووقف الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، وضرورة ضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق (4). وقد حظي القرار بتأييد واسع من الدول الأعضاء، ما عُدّ تتويجًا للتحرك الدبلوماسي الإسباني المتواصل منذ اندلاع الحرب
كما لا يمكن إغفال دور صنّاع القرار الإسبان أنفسهم ممن يتمتعون بخبرة في قضايا الشرق الأوسط. فوزير الخارجية خوسيه مانويل ألباريس، على سبيل المثال، لديه خلفية دبلوماسية قوية وعلاقات مع مؤسسات بحثية أوروبية، وقد ظهر في عدة خطابات ومداخلات في مراكز بحث أوروبية (ضمن إسبانيا وخارجها) يشرح رؤية إسبانيا القائمة على "الدبلوماسية القيمية"(5) التي تضع حقوق الإنسان في قلب السياسة الخارجية. أيضًا، شخصية مثل جوزيب بوريل – رغم كونه بمنصب أوروبي (ممثل السياسة الخارجية للاتحاد) – لكنه إسباني وذو توجه اشتراكي، وكان لدعواته العلنية داخل أروقة بروكسل لوقف إطلاق النار وتقديم المساعدات أثرٌ في منح غطاء أوروبي أوسع للموقف الإسباني. ويُذكر أن بوريل نفسه تعرض لانتقادات من بعض دول الاتحاد لاتهامه إسرائيل باستخدام القوة المفرطة(6)، وهو ما يتماشى مع الخط الإسباني العام. كما ساهمت شخصيات فكرية وسياسية إسبانية معروفة (مثل وزير الخارجية الأسبق ميغيل أنخيل موراتينوس الذي أصبح مبعوثًا أمميًا للسلام لاحقًا) في بلورة مقترحات خلاقة، منها الدعوة لمؤتمر سلام دولي جديد "على غرار مدريد 1991" ولكن بمشاركة أوروبية وعربية أوسع، وهو اقتراح حاز اهتمامًا واسعًا.
لم يكن التحول في السياسة الإسبانية تجاه فلسطين وليد قرارات عشوائية، بل جاء مدعومًا برؤى وتحليلات عميقة قدّمتها مراكز أبحاث مرموقة وشخصيات نافذة في رسم السياسات. فقد لعب معهد إلكانو الملكي (أهم مراكز الفكر الإسبانية) دورًا بارزًا في هذا السياق عبر إصدار دراسات وتوصيات صبّت في دعم توجه أكثر نشاطًا إزاء القضية الفلسطينية. فقبل خطوة الاعتراف بأشهر، نشر المعهد تعليقًا تحليليًا لكبير الباحثين ألون ليئيل (المدير العام الأسبق للخارجية الإسرائيلية) اعتبر فيه أن حرب 7 أكتوبر 2023 مثلت "نقطة تحول watershed" وأن الاعتراف الفوري بدولة فلسطين أصبح ضرورة لاستغلال الزخم الدولي من أجل سلام مستدام. وقد جادل الخبير بأن اعتراف إسبانيا سيشكّل شرارة تدفع باتجاه اعتراف أوروبي وأممي أشمل، وتهيئة الظروف لحل الدولتين. مثل هذه الأصوات في دوائر التفكير الإسبانية أعطت زخمًا فكريًا للحكومة وسندًا يمكن الاستشهاد به لتبرير التحركات غير المسبوقة. وبالفعل نجد أصداء طرح إلكانو واضحة في خطاب سانشيز عند إعلانه الاعتراف، حيث أشار إلى أن هذه الخطوة "تأتي في وقتها لإحياء حل الدولتين" وأنها ليست موجهة ضد أحد بل لصالح السلام – وهي نفس الروح التي نادى بها خبراء المعهد(7).
جدير بالذكر أن هذا التحول لم يكن وليد اللحظة فقط، بل إن مقدماته سبقت حرب غزة. فمنذ سنوات وحكومات مدريد المتعاقبة تبحث فكرة الاعتراف بدولة فلسطين كخطوة لدفع عملية السلام، وبقيت مطروحة علنًا لعقد من الزمن قبل أن تنضج ظروف تنفيذها في 2023-2024. كما استفادت إسبانيا من رئاستها الدورية للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من 2023 لإبقاء زخم القضية الفلسطينية حاضرًا في الأجندة الأوروبية، رغم تحديات كون الحكومة آنذاك في وضع تصريف أعمال(8). كل ذلك يظهر أن سياسة مدريد الجديدة تجاه غزة وفلسطين ليست ردة فعل مؤقتة، بل تحول استراتيجي مدروس نحو لعب دور أكثر حضورًا وتأثيرًا في قضايا الشرق الأوسط، مدفوع بقناعة أخلاقية وسياسية بضرورة ملء الفراغ الذي خلّفه تردد القوى الغربية الأخرى. وفي بُعدٍ مؤسسي أعمق، أدرجت إسبانيا هذا التوجه ضمن "استراتيجية العمل الخارجي 2025–2028"(9)، التي تركز على بناء سياسة أوروبية أكثر استقلالًا وإنسانية في الشرق الأوسط، بما يعزز استمرارية هذا النهج وعدم اقتصاره على الظرف الراهن، ويجعل من مدريد فاعلًا ثابتًا في صياغة الموقف الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية.
العوامل الداخلية والخارجية خلف هذا التطور السياسي
يعكس التحول الإسباني في الموقف من غزة وفلسطين تفاعلًا معقدًا بين محددات داخلية ترتبط بالبنية السياسية والرأي العام والتاريخ الوطني، وبين معطيات خارجية فرضتها الحرب وتوازنات الاتحاد الأوروبي والساحة الدولية. ومن شأن فهم هذه العوامل المزدوجة أن يوضح لماذا تحوّلت مدريد من مجرد عضو في الإجماع الأوروبي التقليدي إلى لاعب نشط بما يعكس إدراكًا متزايدًا لدورها في محيطها
أولًا: العوامل الداخلية
1- التوجه الأيديولوجي للحكومة الائتلافية: يلعب المشهد السياسي الداخلي في إسبانيا دورًا حاسمًا في رسم سياستها الخارجية. فمنذ عام 2020 تولى السلطة ائتلاف يساري يقوده الحزب الاشتراكي العمالي (بيدرو سانشيز) مدعومًا بأحزاب يسارية راديكالية وتقدمية مثل بوديموس ثم حزب سومار (يوليو 2023)، إلى جانب أحزاب إقليمية باسكية وكتالونية. هذه الأطراف، بدرجات متفاوتة، تدعم بقوة الحقوق الفلسطينية وتتبنى سردية مناهضة للاستعمار بجميع أشكاله. وقد برز ذلك في مواقف علنية لمسئولي اليسار الإسباني: فمثلاً وصفت إيوني بيلارا (وزيرة الشئون الاجتماعية وزعيمة بوديموس آنذاك) في أكتوبر 2023 عمليات إسرائيل في غزة بأنها "ترقى الى إبادة جماعية" ودعت إلى فرض عقوبات عليها ومحاكمة نتنياهو بتهم جرائم حرب. ورغم اضطرار الحكومة لتوضيح أن هذه التصريحات لا تعكس الموقف الرسمي الإسباني بالكامل، إلا أنها تعكس اتجاهًا قويًا داخل الائتلاف الحاكم يدفع نحو سياسة أكثر صرامة مع إسرائيل. ما طرحه بعض وزراء إسبانيا اليساريين تجاه إسرائيل وضع سانشيز في موقف غير مريح لكنه دفعه للتحرك ضمن هذا الهامش التقدمي. وبشكلٍ عام، تمكن سانشيز من استثمار ضغط الجناح اليساري كورقة تفاوض في الداخل والخارج: فهو سمح لحلفائه برفع سقف الخطاب دون تجاوز الخطوط الحمراء على حد تعبير محللين، أي أنه استخدم حماس حلفائه لرفع سقف الموقف الإسباني ومن ثم توظيفه بحكمة في المحافل الأوروبية.
2- الرأي العام الإسباني: يحظى التحول الإسباني أيضًا بسند شعبي واسع. فقد كشفت دراسة حديثة لمعهد إلكانو الملكي (مايو 2024) أن 78% من الإسبان يؤيدون اعتراف الدول الأوروبية بدولة فلسطين، وهذه الأغلبية تشمل أنصار جميع الأحزاب الكبرى في البلاد. كما يبدي الشارع الإسباني تعاطفًا تقليديًا مع معاناة الفلسطينيين؛ إذ تتصدر إسبانيا بانتظام الاستطلاعات الأوروبية من حيث دعمها لحقوق الفلسطينيين وإدانتها للاستيطان الإسرائيلي. ولعل المشاهد المروعة للقصف والحصار في غزة عززت هذا التعاطف الشعبي ودفعته للضغط على الحكومة لاتخاذ خطوات ملموسة. ويمكن القول إن التلاقي بين حكومة يسارية وقاعدة شعبية مؤيدة لفلسطين خلق بيئة داخلية مواتية لتغيير الاتجاه التقليدي للسياسة الخارجية نحو مزيد من الجرأة والانحياز للحق الفلسطيني.
3- الإرث التاريخي والعلاقة مع العالم العربي: تتمتع إسبانيا بخلفية تاريخية فريدة في سياستها الشرق أوسطية تختلف عن كثير من دول أوروبا الغربية. فعلى سبيل المثال، تأخرت إسبانيا في الاعتراف بدولة إسرائيل حتى عام 1986 (كانت آخر دولة في أوروبا الغربية تقوم بذلك). وخلال حقبة الجنرال فرانكو (1939-1975)، وجدت إسبانيا المعزولة عن المعسكر الغربي نفسها منفتحة على تحالفات بديلة مع الدول العربية، فنسجت علاقات وثيقة مع دول كمصر والسعودية والمغرب لتعويض العزلة الأوروبية. ورغم أن إسبانيا الديمقراطية لاحقًا عدلت مواقفها وانضمت للإجماع الأوروبي، إلا أن إرث الانفتاح على العالم العربي خلّف تعاطفًا ضمنيًّا مع القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية. يُضاف إلى ذلك رواسب ثقافية وإيديولوجية مثل الحنين إلى الإرث الأندلسي والعلاقات التاريخية بين إسبانيا والعالم الإسلامي، والتي أسهمت في تشكيل رؤية أكثر تفهمًا للقضايا العربية مقارنة ببقية الشركاء الأوروبيين. اليوم، يُمكن رؤية هذا الإرث في خطاب مدريد الرسمي الذي يركز على احترام القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها وعدم التعرض للاحتلال أو المجازر. هذا الخطاب يتناغم مع رؤية عربية وإسلامية عامة تجاه القضية الفلسطينية، ما يجعل التحول الإسباني مفهومًا في سياقه التاريخي الإسباني الخاص.
ثانيًا: العوامل الخارجية
1- حرب غزة كعامل مُحفِّز: جاء التحول الإسباني مدفوعًا مباشرة بالهجوم الإسرائيلي واسع النطاق على غزة بعد 7 أكتوبر 2023، وما خلّفه من أزمة إنسانية غير مسبوقة. هذا الحدث وضع العواصم الأوروبية أمام اختبار أخلاقي صعب، إذ اكتفت دول كبرى في البداية بترديد خطاب "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، قبل أن تدفع الانتهاكات المستمرة حتى بعض الحلفاء التقليديين لإسرائيل إلى مراجعة خطابهم. في المقابل، برزت إسبانيا – إلى جانب إيرلندا وسلوفينيا والنرويج – منذ وقت مبكر كجزء من محور أوروبي نقدي يطالب بوقف إطلاق النار واحترام القانون الإنساني الدولي. هذا الموقف لم يقتصر على التصريحات، بل تُرجم إلى إجراءات عملية مثل تعليق صادرات السلاح إلى إسرائيل والاعتراف بدولة فلسطين في مايو 2024.
2- الانقسام الأوروبي وفرصة القيادة: أظهر الصراع في غزة حدود التماسك داخل الاتحاد الأوروبي، حيث انقسم الأعضاء بين تيار داعم بلا تحفظ لإسرائيل (بقيادة ألمانيا والنمسا والمجر) وتيار نقدي تقدمي تقوده إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا. هذا الانقسام أضعف قدرة الاتحاد على تبني سياسة موحّدة، لكنه في الوقت نفسه أتاح لمدريد فرصة الظهور كقائد لخط بديل. وبحسب تحليلات من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وGMF، فإن مواقف مدريد حالت دون انجراف الموقف الأوروبي بالكامل نحو الانحياز لإسرائيل، وأسهمت في الحفاظ على حد أدنى من التوازن يعزز مصداقية الاتحاد في نظر الرأي العام العالمي (10)
3- العزلة الغربية وتحدي الأغلبية العالمية: على المستوى الدولي، جاء التحرك الإسباني في ذلك الوقت المبكر استجابة لإدراك متزايد بأن المعسكر الغربي بات معزولًا في موقفه من القضية الفلسطينية. فقد أظهرت بيانات "مؤسسة مارشال" (German Marshall Fund - GMF)أن معظم الدول الغربية ترفض الاعتراف بفلسطين، مقابل أكثر من 140 دولة في الأمم المتحدة تؤيد ذلك(11). كما كشف تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أكتوبر 2023 – حين أيدت 120 دولة وقفًا فوريًا لإطلاق النار مقابل معارضة أو امتناع غالبية الدول الغربية – عن فجوة عميقة بين أوروبا وبقية العالم. إسبانيا، مدفوعة بهذا السياق، رأت في الاعتراف بفلسطين ورسائلها النقدية لإسرائيل وسيلة لتقليص هذه الفجوة والتأكيد أن أوروبا ليست كتلة متجانسة، بل تضم أصواتًا تتبنى القانون الدولي وتتفادى ازدواجية المعايير. ورغم تغير مواقف العديد من الدول الأوروبية مؤخرًا، إلا أن أسبقية الموقف الإسباني وضعتها في مكانة وحظيت بتقدير مختلف.
تقاطع المواقف الإسبانية مع المصرية والعربية بشأن غزة
حظي النهج الإسباني الجديد في غزة بترحيب وتشجيع ضمني من الدول العربية، خاصة تلك المعنية مباشرة بالأزمة كمصر والأردن وقطر. فالتقاطع واضح في عدة نقاط جوهرية بين الموقفين الإسباني والعربي تجاه الحرب على غزة:
1- الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار وحماية المدنيين: شاركت إسبانيا مصر وغيرها من الدول العربية المطالبة المستمرة بالتهدئة ووقف نزيف الدم في غزة. وقد دأب رئيس الوزراء سانشيز ووزير خارجيته ألباريس على الدعوة العلنية لوقف القصف الإسرائيلي ورفع الحصار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية دون قيود، وهي الرسائل ذاتها التي تكررها القاهرة في المحافل الدولية. وفي مؤتمر مدريد الدولي مايو 2025، الذي حضره مسئولون مصريون وعرب إلى جانب الأوروبيين، تساءل ألباريس بشكل استنكاري عمّا إذا كان البديل هو استمرار الحرب أو القبول بخيارات كارثية بحق الفلسطينيين، مؤكدًا أن لا حل إلا الدفع الفوري نحو وقف إطلاق النار ومسار الدولتين(12)، في تعبير يُظهر رفضًا قاطعًا لأي حلول كارثية كترحيل سكان غزة، وهو هاجس تشارك فيه مصر التي ترفض سيناريو تهجير الفلسطينيين. فهذا التطابق في الحرص على أرواح المدنيين ورفض التهجير الجماعي يمثل نقطة التقاء إنسانية وأخلاقية بين إسبانيا والدول العربية المعنية.
2- التمسك بحل الدولتين والشرعية الدولية: تلتقي إسبانيا مع مصر والأردن وغيرها في التشديد على أن الحل الوحيد المقبول هو قيام دولة فلسطينية مستقلة جنبًا إلى جنب مع إسرائيل وفق حدود 1967 والقدس الشرقية عاصمة لها. وقد أكّد سانشيز عند إعلان اعترافه بفلسطين أن الهدف الوحيد من هذه الخطوة هو "مساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على تحقيق السلام" عبر حل الدولتين. كما حرص على توضيح أن رؤية إسبانيا متناغمة تمامًا مع قرارات الأمم المتحدة ومواقف الاتحاد الأوروبي التقليدية. هذه الرسائل هي صدى لما تطرحه باستمرار الدبلوماسية المصرية والأردنية في كل المحافل، حيث تربطان أي تهدئة دائمة بالتزام إسرائيل بحل الدولتين وعدم فرض أمر واقع أحادي. كذلك فإن الخطاب الإسباني حول ضرورة التقيد بالقانون الدولي ومحاسبة من ينتهكه يجد أصداءً إيجابية لدى الدول العربية التي طالما انتقدت ازدواجية المعايير الدولية في التعامل مع إسرائيل. وقد شاركت مدريد بالفعل في دعم جهود قانونية قادتها دول عربية وأفريقية، مثل تأييدها لإحالة ملف الانتهاكات الإسرائيلية في غزة إلى محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، وهو موقف متقدم يتجاوز كثيرًا ما كانت تفعله الدول الأوروبية سابقًا وينسجم مع مطالبات معظم الدول العربية.
3- الدعم الإنساني وإعادة الإعمار: توافقت إسبانيا والدول العربية كذلك في التركيز على تخفيف معاناة سكان غزة عمليًا. فعندما قامت دول أوروبية بتجميد مساعداتها لوكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إثر ادعاءات بجدل حول موظفيها، بادرت إسبانيا والبرتغال بزيادة مساهماتها المالية للأونروا عوضًا عن التخفيض، في خطوة قوبلت بالترحيب عربيًا على اعتبارها انحيازًا لقيم المسئولية الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني. كما أعلنت مدريد استعدادها للمساهمة الكبيرة في جهود إعادة إعمار قطاع غزة ضمن أي خطة دولية لاحقة، وهو ما يتقاطع مع اهتمام مصر ودول الخليج بتنسيق مؤتمر دولي لإعمار غزة فور توقف القتال. هذا الاهتمام الإسباني بالشق الإنساني يعزز شراكة عملية مع القاهرة التي تعد ممر المساعدات الرئيسي، حيث يمكن لإسبانيا عبر الاتحاد الأوروبي الدفع نحو التزام أطول مدى بدعم غزة اقتصاديًا وتقنيًا.
وقد انعكس ذلك التقارب في تنسيق دبلوماسي غير مسبوق، مثل انخراط إسبانيا في "مجموعة مدريد" (Madrid+) إلى جانب مصر والأردن وقطر والسعودية وتركيا والنرويج وإيرلندا وغيرها، والتي اجتمعت في سبتمبر 2024 ومرة أخرى في مايو 2025 للضغط من أجل إنهاء الحرب في غزة ودفع حل سياسي. يمثل هذا المحور العربي-الأوروبي النشط تطورًا مهمًا تُحسب لإسبانيا المساهمة فيه، حيث وسّعت مدريد دائرة الحراك الأوروبي لتشمل القوى الإقليمية العربية. باختصار، وجدت إسبانيا أرضية مشتركة قوية مع مصر والدول العربية في التوجهات والأهداف المتعلقة بغزة. وقد أكسبها ذلك إشادة ضمنية من تلك الدول، بل إن بعض الأصوات العربية باتت تنظر لإسبانيا كـشريك موثوق يمكن أن يوازن الكفة داخل الاتحاد الأوروبي لصالح مقاربة أكثر إنصافًا تجاه القضية الفلسطينية. ويؤكد محللون عرب وغربيون أن هذا التلاقي الإسباني-العربي حول غزة قد يُمثِّل نواة لتحالف أوسع "أورو-عربي" في قضايا الشرق الأوسط، تتضافر فيه جهود دول أوروبية تقدمية ودول عربية مركزية لدفع حلول سلمية عادلة للصراعات الإقليمية.
لكن على الرغم من هذه القواسم المشتركة العديدة، هناك بعض نقاط الاختلاف أو التمايز في النهج قد تُذكر. فإسبانيا بوصفها دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تلتزم بتصنيف حماس منظمة إرهابية وتؤكد رفضها لأفعالها، وقد شدد سانشيز في خطاب الاعتراف بفلسطين على "الإدانة المطلقة" لهجمات 7 أكتوبر الإرهابية وأن الاعتراف ليس ضد إسرائيل، بينما تتعامل بعض الدول العربية مع حماس كمكوّن فلسطيني واقعي وجزء من الحل (مع تجنب تأييدها علنًا). كذلك، إسبانيا رغم نقدها الشديد لإسرائيل تحافظ على لغة دبلوماسية تؤكد رغبتها في أفضل العلاقات مع الشعب الإسرائيلي واحترامها له، سعيًا لتفادي القطيعة الكاملة في العلاقات. أما الخطاب العربي الشعبي خصوصًا فيظل أشد حدة تجاه إسرائيل. لكن هذه الفوارق في اللهجة لا تحجب التقارب الكبير في الجوهر بين الموقف الإسباني والمواقف العربية.
خاتمة
تمثل السياسة الإسبانية الراهنة تجاه غزة والقضية الفلسطينية تحولًا نوعيًا في نهج إحدى دول أوروبا الغربية، وهي تُبرز كيف يمكن للدوافع القيمية والضغوط الشعبية والعوامل الجيوسياسية أن تتضافر لإنتاج توجه جديد أكثر جرأة واستقلالية. فإسبانيا التي تأخرت طويلًا في الاعتراف بإسرائيل مقارنة بجيرانها الأوروبيين، باتت اليوم في طليعة الدول التي كسرت الإجماع الأوروبي التقليدي، معتمدة على خصوصيتها التاريخية وبنيتها السياسية الداخلية لدعم مقاربة مغايرة في التعامل مع هذا الصراع المزمن. ولا شك أن هذا التحول الإسباني لن يُنه وحده أزمة غزة أو يحقق المعجزة الدبلوماسية المأمولة، إلا أنه نجح في إعادة الزخم للقضية الفلسطينية داخل أوروبا وفي لفت انتباه العالم إلى أن هناك أصواتًا غربية مستعدة للوقوف في صف الحق وإن كان رمزيًا. ومع استمرار التوتر في الأراضي الفلسطينية، سيبقى على مدريد اختبار صلابة نهجها هذا في وجه الضغوط المرتقبة، سواء تغيرت حكومتها داخليًا أو سعت قوى كبرى للضغط عليها. ومن الممكن أن تواصل مدريد خلال عامي 2025 و2026 الدفع باتجاه مبادرات أوروبية – متوسطية مشتركة لإعادة إعمار غزة، وربما لاستضافة مؤتمر دولي جديد على غرار مدريد 1991، في إطار ما أصبح يُعرف بمحور مدريد الذي رسّخته السياسة الإسبانية الحديثة.
المراجع:
1- Kassam, A. (2024, Feb 13). Ireland and Spain among EU nations striking a different note on Gaza war. The Guardian.
2- Arab Center for Research & Policy (2025). Transformations in European Attitudes toward the Genocidal War on Gaza.
3- Verstrynge, L. (2025, Apr). Why Spain stands with Palestine. Le Monde Diplomatique.
4- Kausch, K. (2024, May 22). The Triple Message in Spain’s Recognition of Palestine. German Marshall Fund.
5- La Moncloa, Gobierno de España (2024, May 28). Institutional declaration by the President of the Government of Spain on the recognition of the State of Palestine.
6- Barbero, M. (2023, Nov 7). The Israel-Hamas War Is Dividing Europe’s Left. Foreign Policy.
7- Cole, J. (2025, May 26). Spain Convenes Int’l Conference to call for Arms Embargo on Israel. Informed Comment.
8- Real Instituto Elcano (Liel, A.) (2024, Apr 9). Spain’s recognition of the State of Palestine can make the difference.
9- Carnegie Europe – Judy Asks (2024, May 5). Should the EU Recognize a Palestinian State Now? (Hassan, K. contribution).
10- Arab Center DC (2025). Progressive European Axis on Gaza – ACW Analysis.
11- Spanish Ministry of Foreign Affairs, European Union and Cooperation. “Foreign Action Strategy 2025–2028.” Madrid, July 2025.
12- Cole, J. (2025, May 26). Spain Convenes Int’l Conference to call for Arms Embargo on Israel.