تشغل الأعياد الوطنية والمناسبات السنوية مكانة خاصة في حياة المجتمعات، فلا تكاد تخلو أمة من مناسبة يقتطع ويحدد لها يوم من كل عام، حيث يتم الاحتفال فيه تخليدًا لحدث عظيم، أو تجديدًا لذكرى تاريخية، أو الاحتفال بمناسبة وطنية. إذ تقوم بترسيخ الوطنية وتعميق الانتماء والولاء للوطن، وكذلك تقوية التلاحم المجتمعي وتعزيز التفاعل الإيجابي بين أفراد الشعب. فمهما تنوعت الآراء وتباينت الأفكار واختلفت الأديان وتعددت المذاهب، تبقى الوحدة الوطنية هي السبيل لتحقيق مصالح الشعب والوطن وسلامة الجبهة الداخلية. غير أن قوى وجماعات وتيارات الإسلام السياسي توظف تلك المناسبات وفقًا لمصلحتها الفئوية وبما يتعارض مع المصلحة الوطنية العليا في هذه الدولة أو تلك، في كثير من الأحيان.
أنماط متعددة
تتباين أنماط تعامل تيارات وقوى الإسلام السياسي مع مسألة الاحتفال بالأعياد الوطنية في المنطقة العربية على مدار العقد ونصف الماضيين، لتندرج في ثلاثة أنماط رئيسية، هي:
1- إلغاء الاحتفال بذكرى وطنية مع استبدالها بمناسبة أخرى: هذا النمط جسدته الحالة السورية على أثر المرسوم الجديد رقم 188 لعام 2025، الذي أصدره الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، إذ عدّل من خلاله جدول العطلات الرسمية التي يحتفل بها في البلاد، حيث ألغى المرسوم عطلتين كانتا مخصصتين لذكرى حرب أكتوبر 1973، وذكرى إعدام السلطات العثمانية لعدد من الناشطين عام 1916، كما تضمن المرسوم إضافة يوم عطلة لإحياء ذكرى انطلاق الثورة السورية في 18 مارس، وهو اليوم الذي يواكب بداية الانتفاضة على حكم الرئيس السابق بشار الأسد عام 2011، وكذلك إضافة يوم للاحتفال بسقوط نظام بشار الأسد ووصول المسلحين المعارضين إلى دمشق في 8 ديسمبر 2024. وقد أثار هذا المرسوم جدلًا موسعًا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية العربية ومواقع التواصل الاجتماعي، باعتباره خطوة غير مسبوقة في تاريخ الأمة العربية، في الوقت الذي يحتفل فيه المصريون والعرب جميعًا بذكرى السادس من أكتوبر.
وصارت على النهج نفسه الحالة اليمنية خلال السنوات الماضية، فيذكر أنه قد تراجعت الاحتفالات بالأعياد الوطنية في عهد حكم الحوثيين في شمال اليمن لصالح الاحتفال بأحداث أخرى مهمة في تاريخ الجماعة، منها الذكرى السنوية للاستيلاء على صنعاء (الذي يصادف 21 سبتمبر) والذكرى السنوية لمقتل مؤسس الجماعة حسين الحوثي وذكرى وفاة والده بدر الدين الحوثي، حيث اقتصرت احتفالات الدولة اليمنية على أعياد وطنية تُحيي ذكرى أحداث سياسية بارزة في تاريخ البلاد، كذكرى ثورة 26 سبتمبر التي أطاحت بحكم الإمامة وأنشأت نظامًا جمهوريًا في الشمال، وذكرى اندلاع الشرارة الأولى لثورة 14 أكتوبر وضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، إلى جانب عيد الجلاء أو إعلان استقلال جنوب اليمن في بريطانيا الذي يصادف 30 نوفمبر، ثم أخيرًا ذكرى توحيد شطري اليمن وقيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو.
2- الاستعاضة عن المناسبات الوطنية بالاحتفالات الدينية: اتخذت المناسبات العامة في عهد الحوثيين منحى دراماتيكيًا يختلف بشكل جذري عن التي جرت في عهد الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح، حيث تم الاستعاضة عن عدد من المناسبات الوطنية بالاحتفالات الدينية. ويذكر في هذا الشأن أنه خلال الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بصفة خاصة، يستغل الحوثيون الفرصة لجمع قدر كبير من الأموال، والتي تعرف بأموال الجبايات التي يتم توجيهها لتعزيز ثراء القيادات الحوثية، بدلًا من إنفاقها على الخدمات العامة المنهارة وفي مقدمتها الصحة والتعليم. ولا تكمن خطورة الاستعاضة في المناسبات الوطنية بالاحتفالات الدينية باليمن في تحويل الدين لمرجعية وحيدة تستند إليها شرعية حكم الأمر الواقع لمليشيا الحوثيين، بل تقوض الالتزام بمفهوم دولة قومية تشمل كافة اليمنيين في مختلف الأقاليم الجغرافية.
3- إحياء أعياد وطنية قديمة والتمجيد بها: جسّدت الحالة الليبية في مرحلة ما بعد انهيار نظام معمر القذافي هذا النمط، حيث وافق المجلس الوطني الانتقالي في 9 يناير 2012 على اقتراح قدمته الحكومة الانتقالية بشأن الاحتفال بالأعياد الوطنية والدينية في ليبيا التي كان محظورًا الاحتفاظ بها في عهد القذافي، وشملت الأعياد التي اعتمدها المجلس عيد العمال في أول مايو وعيد الثورة في 17 فبراير وهي ذكرى انطلاق الثورة ضد نظام القذافي وعيد التحرير في 23 أكتوبر في إشارة إلى تاريخ سيطرة مجموعة من الثوار على طرابلس إضافة إلى عيد الشهيد في 16 سبتمبر الذي يصادف ذكرى إعدام بطل مقاومة الاستعمار الإيطالي عمر المختار بجانب عيد استقلال ليبيا في 24 ديسمبر، يضاف إلى ذلك تم إلغاء الاحتفال بثورة الفاتح التي تصادف ذكرى الانقلاب الذي قام به القذافي عام 1969 على النظام الملكي.
4- الاحتفال بالأعياد الوطنية بحضور قيادات مناوئة لها: ظهر هذا النمط جليًا في فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر (يونيو 2012 – يونيو 2013)، فقد خرج الرئيس الأسبق محمد مرسي عن المألوف خلال احتفالات نصر أكتوبر، حيث أقيم الاحتفال في استاد القاهرة الدولي وسط حضور الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى حشد من رموز التيار الإسلامي الذين أدينوا باغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، في يوم الاحتفال بنصر أكتوبر لعام 1981 وعلى رأسهم طارق الزمر القيادي في الجماعة الإسلامية. أما بالنسبة للاحتفالات التي كان يترقبها المصريون أمام شاشة التلفاز كل عام لمشاهدة الأوبريتات الغنائية والعروض المسرحية والفنون المختلفة، فقد استبدلت تمامًا بخطاب مرسي والذي استمر لمدة تفوق الساعتين، يشرح خلالهما ما أسماه بـ"الإنجازات" التي قام بها خلال فترة المائة اليوم، محاولًا التأكيد على مشروع النهضة.
ولعل ذلك أفقده طابعه الخاص وخرج عن نطاقه المعروف، فمنذ أوائل الاحتفالات بأكتوبر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات مرورًا بعهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك وصولًا إلى حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، كان الاحتفال ذا طابع خاص اعتاد عليه المصريون، حيث كانت تقيم الدولة احتفالًا كبيرًا وأوبريتات فنية قوية يشارك فيها كبار الفنانين وبرعاية وتنظيم الشئون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، وبمشاركة وزارتي الإعلام والثقافة وبحضور رئيس الجمهورية كقائد أعلى للقوات المسلحة، ووزير الدفاع وكبار القادة بالجيش.
5- التأكيد على استمرارية الاحتفالات الخاصة بالقوى الجماهيرية: وهو ما ينطبق على حركة النهضة في تونس والبيان الذي أصدرته في 1 مايو 2024 على خلفية عيد الشغل العالمي وارتباطه بعيد العمال في البلاد ودعمها المستمر لما تسميه بـ"حقوق المستضعفين"، حيث خاطبت الرأي العام التونسي لاستمالته في ظل أزمتها العميقة مع الرئيس قيس سعيّد قائلة: "لقد كان البعد الاجتماعي حاضرًا دائمًا وبقوة في مشروع حركة النهضة طيلة كفاحها ضدّ الدكتاتورية وبالخصوص منذ أحداث 26 جانفي 1978 حيث تأكد انحياز الحركة للمحرومين والعاملين بالفكر والساعد .. وأصبحت بعد ذلك إحدى القوى المعبرة عن المستضعفين والمؤطرة لنضالهم من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية". وأضافت: "وقد دافعت حركتنا عن الحق النقابي ورفضت كل مخططات ومحاولات استهداف المنظمة الشغيلة ورموزها والسعي إلى احتوائها وضرب استقلاليتها في العهدين البورقيبي والنوفمبري من طرف سلطة متغولة رفضًا لأي معارضة جادة أو سلطة مضادة (المجتمع المدني) وتتملص من أي رقابة أو محاسبة".
رؤى متباينة
تعددت رؤى التيارات الإسلامية المناوئة لفكرة الاحتفال بالأعياد الوطنية في المنطقة العربية، حيث انطلقت من عدة اعتبارات، وهي:
1- التكيف مع متطلبات مرحلة التحول السياسي والاجتماعي: قد يكون قرار إلغاء بعض الاحتفالات الوطنية ضمن حزمة من القرارات التنظيمية الرامية إلى إعادة ترتيب الأولويات الوطنية بعد فترة طويلة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية للبلاد، على غرار ما أكده الرئيس أحمد الشرع بأن المرحلة المقبلة لسوريا سوف تركز على إعادة الإعمار وإرساء أسس دولة مدنية قوية قائمة على العمل والإنتاج، موضحًا أن إعادة تنظيم الأعياد الوطنية والدينية تأتي في إطار رؤية جديدة لترشيد الإنفاق، وتوحيد المناسبات ذات الطابع الوطني الجامح، بما يعكس تحولًا في أولوية عناصر من الدولة من رمزية الانتصارات العسكرية إلى التركيز على التنمية والاستقرار، وهو ما ردت عليه اتجاهات عديدة انتقدت هذا القرار، بقولها أنه لا يوجد تعارض بين الأمرين، في ظل وجود نماذج دولية تركز على الربط بين رمزية الانتصارات العسكرية وعنصرى التنمية والاستقرار على غرار الصين.
2- تحرير رموز الدولة الجديدة من إرث الأنظمة السابقة: أكد الرئيس الشرع أن حرب أكتوبر على سبيل المثال كانت معركة عربية جماعية ضد إسرائيل شاركت فيها دول عدة، غير أن نظام حافظ الأسد استغلها لاحقًا لترسيخ حكمه في سوريا، واتخذها ذريعة للسيطرة على البلاد وقمع شعبها لعقود طويلة، وبالتالي فإن دمشق تسعى من خلال هذا القرار، إلى إعادة صياغة الذاكرة الوطنية السورية لتتواكب مع التحولات السياسية والاجتماعية الراهنة، وربط الأعياد بمناسبات تمثل كل السوريين، لا نظامًا بعينه. ويمكن دحض هذه الرؤية السورية، بأن الأعياد التي تم إلغاؤها لا ترتبط بنظام بعينه أو زعيم بعينه، بل تشكل جزءًا من الذاكرة الجمعية والثقافة الوطنية السورية.
3- محاولة إكساب المناسبات الدينية أهمية جديدة: وذلك انطلاقًا من أنها تتمتع بأصل شرعي وباعتبار أن كلمة "عيد" تقتصر فحسب على أي مناسبة خصصها الشارع الحكيم (مثل الأعياد الإسلامية والأيام الفاضلة)، يضاف إلى ذلك أن هذه المناسبات الدينية تهدف إلى ترسيخ الهوية الدينية وتقوية الروابط الاجتماعية والروحية بين المسلمين من خلال الاحتفال بذكرى أحداث مهمة وتذكيرهم بالقيم والمبادئ الإسلامية، كما أنها توفر فرصة لتعزيز الانتماء للأمة وتكون بديلًا أصيلًا للتقاليد غير الدينية، وتشجع على التمسك بسيرة النبي "ص" والاقتداء به، ويحمل ذلك إشارة إلى الحالة اليمنية.
إذ شهدت الاحتفالات الدينية زخمًا وأهمية جديدة، بما في ذلك الاحتفالات الطائفية كعاشوراء وعيد الغدير لعيد الولاية الذي يحتفل به الشيعة باعتباره اليوم الذي سمي فيه النبي محمد ابن عمه وصهره الإمام علي كخليفة له، وتذكر العديد من التقارير الإعلامية أن جماعة الحوثيين تخصص أموالًا كثيرة للإنفاق على فعاليات الاحتفال بالمناسبات الدينية دون غيرها وهو ما لا تتحمله ميزانية الدولة، وذلك لترسيخ رسالتهم الأيديولوجية وفرض عقيدتهم الدينية على البلد بأكمله، على النحو الذي جعل من المناسبات الدينية لا تعبر عن رمزية دينية فحسب، بل تحمل أبعادًا سياسية للتأكيد على شرعية حكم الحوثيين.
4- استمالة قوى مجتمعية في صراعها مع رموز الدولة الجديدة: ولعل هذا التفسير ينطبق على سلوك حركة النهضة في تونس التي تعمل على استدعاء الأعياد الوطنية كمدخل لإعادة تموضعها على الساحة الداخلية بعد تعثر مشروعها لحكم البلاد في أعقاب الثورة التونسية ودخولها في مواجهات مفتوحة مع الرئيس قيس سعيّد. ولذا، أشار بيان حركة النهضة بمناسبة عيد العمال في 1 مايو 2024 إلى أنه "رغم ما شاب العلاقة بين الطرف الاجتماعي وبين الحكومة المنتخبة بعد الثورة، فقد تمت مأسسة الحوار الاجتماعي واحترام الدور الوطني للمنظمات الاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، منظمة القائد الوطني والنقابي الكبير الشهيد فرحات حشاد، بما يرمم علاقتها مع الاتحاد العام التونسي للشغل".
خلاصة القول، إن قوى الإسلام السياسي ستظل تتعامل مع الأعياد الوطنية، وفقًا لمقتضيات الحال في كل دولة بالمنطقة العربية، وبما يراعي موازين القوة والضعف في الداخل من جهة، ويضفي شرعية على نظامها الجديد من جهة أخرى، ويعزز من إعادة تموضعها السياسي والمجتمعي في حال دخولها في مواجهات مع السلطة السياسية القائمة من جهة ثالثة.