سيظل هناك تساؤل مثار لفترة من الوقت يخص ماهية العوامل الرئيسية التي قادت إلى فوز المرشح المصري الدكتور خالد العناني بمنصب المدير العام الجديد لمنظمة اليونيسكو، خلفًا للفرنسية أودري أزولاي، بعد حصوله على 55 من 57 صوتًا بعملية التصويت بالمجلس التنفيذي لمنظمة اليونيسكو، بنسبة 96.4%، وهو ما جعله "فوزًا كاسحًا" في انتخابات واحدة من أهم وكالات الأمم المتحدة المتخصصة التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية لتعزيز السلام من خلال التعاون الدولي، في مجالات التعليم والعلوم والثقافة.
وعلى الجانب الآخر، تزداد أهمية التساؤل في ظل عدم نجاح مرشحين مصريين سابقين (مثل الوزير فاروق حسني والسفيرة مشيرة خطاب والدكتور إسماعيل سراج الدين) بل ومرشحين عرب (مثل السعودي غازي القصيبي والقطري حمد الكواري والجزائري محمد البدياوي واللبنانية فيرا الخوري والجيبوتي رشاد لفرح) في تحقيق ذلك رغم محاولاتهم السابقة خوض انتخابات مدير عام اليونيسكو.
أبعاد مُفسِّرة
ثمة مجموعة من العوامل المترابطة المُفسِّرة لفوز د.خالد العناني بمنصب المدير العام لليونيسكو، خلال الفترة (2025-2029)- ليصبح أول عربي يتولى رئاسة المنظمة، وثاني أفريقي بعد السنغالي أمادو مختار مبو (1974 - 1987)، على أن يعتمد تعيينه رسميًا خلال المؤتمر العام للمنظمة الذي سيُعقد في مدينة سمرقند في أوزبكستان في نوفمبر المقبل- على النحو التالي:
1- القدرات الشخصية للمرشح المصري: تعتبر الإمكانات الذاتية للدكتور خالد العناني العامل الأكثر تأثيرًا في حصوله على الدعم التصويتي من الدول الأعضاء في اليونيسكو، الأمر الذي حفّز الدولة المصرية للدفع بترشيحه، وهو ما عبّر عنه بوضوح الرئيس عبد الفتاح السيسي بقوله إن فوز العناني "يجسد مكانة مصر الحضارية... ويعكس ثقة العالم في الكفاءات المصرية التي تجمع بين العلم والخبرة والتفاني"، معربًا عن ثقته في قدرة العناني على "تعزيز الحوار الثقافي وحماية التراث الإنساني".
كما أشار د.مصطفى مدبولي رئيس الوزراء خلال إعلان ترشيح د.العناني للمنصب في 5 أبريل 2023 إلى أن اختياره لهذا المنصب الرفيع يأتي استنادًا للمؤهلات التي يحوزها، وإنجازاته الأكاديمية والتنفيذية الملموسة في مجالات عدة، فضلاً عن إسهاماته الكبيرة والقيّمة، على الصعيدين الوطني والدولي، في مجالات العلوم والتربية والثقافة، والتي تُعد نتاجًا لخبراته التي تمتد لأكثر من 30 عامًا في مجالات التدريس الجامعي، والبحث العلمي، وعلوم المصريات، والآثار والتراث والمتاحف والسياحة، بخلاف أنشطته وإسهاماته بالعديد من كبرى الجامعات والمؤسسات البحثية والعلمية، داخل وخارج مصر.
فقد حصل على شهادة البكالوريوس في الإرشاد السياحي من كلية السياحة والفنادق بجامعة حلوان، فضلاً عن درجة الماجستير في الآثار المصرية بالنوبة. وقد استكمل دراساته العليا في فرنسا وحصل بامتياز على شهادة دبلوم الدراسات المتقدمة (DEA)، ودرجة الدكتوراه في علم المصريات من جامعة "پول-ڤاليري مونپلييه". كما أنه عضو فخري في الجمعية الفرنسية لعلم المصريات، وعضو مراسل في المعهد الألماني للآثار، وباحث مشارك – المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة (2002-2016). وشارك في كتابة أوراقٍ بحثية تناولت الإدارة المستدامة للتراث، فهو يتقن اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية بما يعكس مهاراته في التواصل، وهو ما يجعله فاعلًا أساسيًا في تعزيز التعاون الدولي وحماية التراث والتعاون الثقافي.
وعلى مستوى المناصب العامة، شغل العناني منصب وزير الآثار في حكومة المهندس شريف إسماعيل عام 2016، قبل أن يتولى دمجها مع وزارة السياحة عام 2019، وأشرف خلال توليه المسئولية على بناء المتحف القومي للحضارة، الذي يعتبر أحد المشروعات الرائدة لليونيسكو، والمساهمة في أعمال إنشاء المتحف المصري الكبير، أحد أكبر متاحف العالم. وقاد عملية إعداد الاستراتيجية الوطنية للسياحة المستدامة واستراتيجية الترويج السياحي المصرى. كما أطلق مشروعات مبتكرة تعتمد على استخدام التكنولوجيا في قطاع التراث الثقافي، وشجع على استخدامها في أعمال البعثات الأثرية. وأكسبته خبرته وعمله تقديراً دولياً واسعاً، إذ توجت إسهاماته المتميزة بعدد من الجوائز المرموقة. وتقلّد وسام الاستحقاق من بولندا عام 2020، كما حصل على وسام "الشمس المشرقة" من اليابان عام 2021. ومنحته فرنسا عام 2015 لقب "فارس وسام الفنون والآداب"، ووسام "جوقة الشرف" في سبتمبر 2025. فضلاً عن شغله سفير منظمة الأمم المتحدة للسياحة الثقافية عام 2024.
2- الإمكانات المحدودة للمرشح المنافس: المنافس الكونغولي فيرمين إدوار ماتوكو (الذي يشغل حاليًا منصب نائب المدير العام المكلف بالعلاقات الخارجية في المنظمة الدولية) لا يتمتع بنفس قدرات الدكتور خالد العناني وخبرته في مجالات الثقافة والسياحة والآثار، وهو ما أضعف من حظوظه، في حين لو كان المرشح من دول مؤثرة مثل فرنسا أو اليابان، مثلما حدث في مرات سابقة مع مرشحين آخرين سواء من مصر أو دول عربية أخرى، لأخذت المنافسة بعدًا آخر. فضلاً عن انسحاب المكسيكية غابرييلا راموس من السباق على المنصب، الأمر الذي سهل نسبيًا المنافسة على العناني.
3- التحركات المبكرة للحملة الانتخابية: تعد الحملة الانتخابية للدكتور العناني أحد العوامل المرجحة لكفته. إذ أُديرت بالكامل من قبل وزارة الخارجية، تحت إشراف وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي، فضلاً عن الدور المحوري لمدير الحملة وهو الوزير المفوض في وزارة الخارجية وائل عبدالوهاب، ومن خلال دبلوماسيين داخل الوزارة، ينتمي أغلبهم إلى الأجيال الشابة، فضلاً عن عناصر أخرى من السلك الجامعي، وبعضهم من قسم اللغة الفرنسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، واتسم أداء الحملة بالمهنية والاحترافية، وفق رؤية متكاملة تراعي طبيعة المنافسة داخل المنظمة الدولية والعمل على إظهار العناني كمرشح حيادي قادر على إنقاذ المنظمة الدولية التي تعاني مشكلات متعددة، وعلى رأسها تراجع مواردها المالية وكذلك قدراتها في الحد من سياسات تدمير المواقع التاريخية، بسبب النزاعات العسكرية التي تجتاح العالم.
فعلى مدار عامين ونصف، شهدت الحملة عملًا مكثفًا شمل إعداد البرنامج الانتخابي، والتواصل مع الدول المؤثرة، والترويج للمرشح المصري، وترتيب الجولات الانتخابية للدكتور العناني بالخارج، حيث زار 65 دولة خلال تلك الفترة. وكان هو المرشح الوحيد الذي زار كل الدول الأعضاء في المجلس التنفيذي للمنظمة، وأجرى خلالها أكثر من 400 لقاءً رسميًا مع وزراء ومسئولين وممثلي منظمات ومجتمع مدني، وعرض خلالها رؤيته لـ"اليونيسكو من أجل الشعوب". علاوة على ذلك، نجحت الحملة في بناء دعم إقليمي قوي وتحالفات دولية للعناني، كما أنه المرشح المعتمد من جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، وحظى بدعم تجمعات دولية أخرى، فضلًا عن دول محورية مثل البرازيل، وتركيا، وألمانيا، وعدد كبير من الدول الأوروبية والآسيوية والأمريكية اللاتينية، وهو ما حمل دلالة كبيرة تعكس مدى الجدية والحرص على الفوز، وقوة الحملة الانتخابية.
وركزت الحملة في دعايتها على النقلات المؤثرة في المسار العملي للدكتور العناني، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه تحت قيادة الوزير العناني، لم يكتفِ المتحف القومي للحضارة المصرية بالافتتاح العادي، بل انبثق إلى الحياة في فبراير 2021 بحيويةٍ آسرة، وقد شهد المعرض الافتتاحي موكبًا مهيبًا للمومياوات الملكية، تخلله استعراض 22 فرعونًا- من سقنن رع تاو إلى رمسيس الثاني- وهم يعبرون شوارع القاهرة على عربات مذهبة، في مشهدٍ ارتقى ليكون موكبًا جنائزيًا فرعونيًا، يُحتفى بذكراه لأول مرة منذ آلاف السنين.
4- الإدارة الرشيدة للدبلوماسية الثقافية: يشير الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية المصرية على شبكة الإنترنت إلى أن القطاع الثقافي بالوزارة يضطلع بدور حيوى في تشكيل وتفعيل قوة مصر الناعمة مع الدول والشعوب الصديقة، وفى هذا الإطار يقوم القطاع الثقافي بالتنسيق مع العديد من الوزارات والهيئات المصرية لتحقيق ذلك الغرض. وكان للقطاع الثقافى دور حيوي في صياغة العديد من أوجه التعاون في مجالات الثقافة والفنون والتعليم والبحث العلمى بين مصر ودول العالم.
وفى إطار الاهتمام البالغ للدولة المصرية لاستعادة الآثار التي تم تهريبها إلى الخارج، والاهتمام بالحفاظ على التراث الثقافي العالمى، فقد نجحت مصر في استعادة عدد كبير من القطع الأثرية القديمة والتي جاءت ثمرة الجهود المبذولة على مدار سنوات من جانب وزارة الخارجية وبعثاتها الدبلوماسية في الخارج بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار ومكتب السيد النائب العام، حيث يمثل القطاع الثقافي حلقة الوصل بين السفارات المصرية في الخارج والجهات الوطنية المعنية بشأن القضايا المختلفة الخاصة باسترداد الآثار المصرية المهربة إلى الخارج.
كما يقوم القطاع الثقافي بالتنسيق مع السفارات المصرية في الخارج لأهمية الترويج للمتاحف المصرية بشكل عام وما هو مرتبط بافتتاح المتحف الكبير ولإبراز المكانة الفريدة التي يتمتع بها من حيث الموقع والمساحة والمحتويات وتنظيم المعروضات، حيث يحتوي على عدد كبير من القطع الأثرية المميزة والنادرة. علاوة على التواصل المستمر مع مكتبة الإسكندرية والتنسيق مع السفارات في الخارج لبحث سبل تعزيز وتعميق التعاون بين المكتبة ودول العالم في المشروعات البحثية ذات الاهتمام المشترك، وتبادل الخبرات بين الدول، وتنظيم المؤتمرات والندوات وورش العمل، وزيارات الوفود العلمية والأكاديمية والطلابية الى المكتبة.
وفي هذا السياق، ثمة تصاعد لأهمية المكون الثقافي في العلاقات الدولية بحيث أعطت وزارة الخارجية المصرية اهتمامًا رئيسيًا بمتابعة ملف ترشيح العناني لمنصب المدير العام لليونيسكو، بناءً على توجيه مباشر من القيادة السياسية. وقد جاء فوز الدكتور خالد العناني نتاج تنسيق مكثف بين وزارة الخارجية المصرية، ووفد مصر الدائم لدى اليونيسكو في باريس، وسفارات مصر بالخارج وشهدت الفترة (أبريل 2023-أكتوبر 2025) اتصالات مكثفة مع مختلف الدول الأعضاء بالمنظمة لضمان حشد التأييد الدولي.
5- العلاقات الوثيقة المصرية-الفرنسية: يعد تماسك العلاقات بين القاهرة وباريس (التي تحتضن المقر العام للمنظمة) أحد العوامل الداعمة لفوز العناني بمنصب المدير العام لليونيسكو، وهو ما ساعد على تواصل وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي، ولقاءاته مع سفراء وممثلي الدول الأعضاء في مجلس المنظمة الدولية لدعم المرشح المصري، ولفت إلى التاريخ الطويل الحافل بالإنجازات الذي يربط مصر بمنظمة اليونيسكو. بخلاف التنسيق الكامل مع السفير علاء يوسف مندوب مصر الدائم لدى اليونيسكو. وفي هذا السياق، قدّم خالد العناني رؤيته للمنظمة تحت عنوان "اليونيسكو من أجل الشعوب"، لتعزيز دور المنظمة الدولية في مواجهة التحديات الراهنة، وأكد التزامه بالعمل بروح الشراكة والتعاون مع جميع الدول الأعضاء، وبأن تكون المنظمة رسالة سلام وتفاهم بين شعوب العالم، وهو ما تكرر مع نخب واسعة من الفرنسيين.
تحديات ضاغطة
خلاصة القول، إن فوز العناني بمنصب المدير العام لمنظمة اليونيسكو يأتي معبرًا عن حزمة من العوامل أبرزها توافر القدرات الشخصية والخبرة المهنية، ودعم القيادة السياسية، وقوة الدبلوماسية الثقافية على الساحة الدولية، وتحركات مبكرة للحملة الانتخابية عبر رؤية علمية منهجية، والتوافقات المصرية مع الرؤى الرسمية الفرنسية بشأن جملة من القضايا الإقليمية والدولية. ويظل هناك تحديات تواجه اليونيسكو في عهد العناني، بعد انسحاب بعض الدول وتقليص المساهمات المالية، ما يتطلب طرح رؤية جديدة لإدارة الموارد وتنويع مصادر التمويل عبر شراكات مبتكرة مع القطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية، بما يضمن استقلال القرار الثقافي عن الضغوط السياسية، ويحافظ على حيادية المنظمة، أي الحفاظ على التوازن بين الاستقلال المؤسسي ومتطلبات التعاون الدولي، وتوسيع مشاركة الدول النامية في برامج اليونيسكو، فضلًا عن إعادة تعريف أولويات المنظمة لتواكب التحولات الكبرى التي يشهدها والتي تتمثل في الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، والتغير المناخي، وحماية التراث الإنساني المعرض للخطر خاصة في مناطق النزاعات ودعم العدالة الثقافية وتكافؤ الفرص في التعليم.