د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

 

في قاعة ضخمة بالعاصمة الفنزويلية كاراكاس، وعلى مدى يومين من النقاش المكثف (التاسع والعاشر من أكتوبر 2025)، بدا المشهد في "المؤتمر العالمي للدفاع عن أُمِّنا الأرض" أشبه بمرآة للعالم كما هو: شمال قلق على "كوكب يشيخ"، وجنوب يئن تحت وطأة ديون وفواتير لم يصنعها، ووسطهما شعوب تبحث عن معنى جديد للعدالة في زمن تغير فيه كل شيء، حتى مفهوم العدالة نفسه.

وخلال أعمال هذا المؤتمر، لم تلق الكلمات كخطب عابرة، بل كانت بمثابة محاكمات فكرية للنظام العالمي ذاته. ومن بين الأفكار التي تكررت كنغمة موحدة في كل الجلسات، برزت فكرة "الاشتراكية البيئية" كإعادة تعريف للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين التنمية والعدالة، وبين الجنوب والشمال. واعتبر غالبية المشاركين في المؤتمر هذه الفكرة بمثابة رد الجنوب العالمي على ما سمّاه المشاركون "الاستعمار البيئي الجديد"، الذي تمارسه دول الشمال تحت شعار "التحول الأخضر".

المؤتمر استضاف 173 وفدًا من أكثر من 62 دولة، إضافةً إلى أكثر من 1150 ممثلًا عن الحركات الاجتماعية والمجتمعات البيئية. وجاء انعقاد هذا المؤتمر قبل أسابيع قليلة من مؤتمر المناخ COP30 في مدينة بيليم دو بارا بالبرازيل، ما أكسبه أهمية سياسية مضاعفة، بوصفه تحضيرًا جماعيًا لموقف موحد لدول للجنوب في مواجهة ضغوط الشمال داخل منظومة التفاوض الدولي حول مواجهة تغير المناخ العالمي.

الاستعمار البيئي.. الوجه الجديد للرأسمالية

في كلمتها اللافتة، تحدثت نائبة الرئيس الفنزويلي ديلسي رودريجيز بلهجة حاسمة، مُنددة بما سمّته "الاستعمار البيئي"، وهو مفهوم يعكس إدراكًا متزايدًا في دول الجنوب بأن التحول الأخضر الذي تروج له الدول الصناعية المتقدمة ليس سوى إعادة إنتاج لعلاقات التبعية القديمة، لكن بأدوات جديدة.

فبينما ترفع دول الشمال شعارات حماية الكوكب، فإن هذه الدول، بحسب رودريجيز، تستولي على موارد الجنوب من معادن نادرة ومصادر للطاقة وأراضٍ خصبة، لتغذي صناعاتها "الخضراء"، وتواصل في الوقت ذاته تدمير البيئة والغلاف الجوي. وأضافت أن النظام الرأسمالي هو المسئول الأول عن الكوارث البيئية الكبرى، لأنه يقوم على الاستهلاك المفرط والاستنزاف المستمر للموارد.

وأشارت نائبة الرئيس الفنزويلي أيضًا إلى أن دول الشمال لم تفِ بتعهداتها المناخية، سواء في التمويل أو في توفير التكنولوجيا النظيفة، ولم تضع خارطة طريق موثوقة لتحقيق هدف "الانبعاثات الصفرية" بحلول 2050. ولعل أبرز صور المفارقة ما ذكرته رودريجيز من أن 1% من أغنى سكان العالم يستهلكون في عشرة أيام فقط نصيبهم السنوي العادل من الانبعاثات، بينما يعيش 366 مليون إنسان بلا كهرباء. هذا الاختلال في توزيع المسئولية والفرص يجعل من العدالة البيئية شعارًا فارغًا ما لم يُقرن بإصلاح جذري في بنية النظام الاقتصادي العالمي، حسبما أكدت نائبة الرئيس الفنزويلي.

البيئة كساحة صراع سياسي

تبدو البيئة، في ظاهرها، قضية علمية أو تقنية؛ لكنها في جوهرها مرآة تعكس بنية القوة في العالم. فالاحتباس الحراري ليس مجرد خلل في المناخ، بل هو خلل في النظام الدولي الذي صُمم ليكافئ الاستهلاك ويعاقب الفقر.

منذ الثورة الصناعية، صنعت دول الشمال الغني ثرواتها من الفحم والنفط والمعادن، وتركت لدول الجنوب ديونًا وأزمات بيئية يصعب محوها. واليوم، باسم "التحول الأخضر"، يُطلب من دول الجنوب التوقف عن مسيرتها التنموية أو دفع مقابل تكنولوجيا نظيفة صُممت في مصانع دول الشمال.

الاشتراكية البيئية، كما طُرحت في المؤتمر، تقلب هذه المعادلة. فهي لا تتحدث عن بيئة مجردة، بل عن "عدالة مناخية" تعيد توزيع المسئولية والفرص معًا، قائلة بوضوح: من لوّث أكثر، يجب أن يدفع أكثر؛ ومن حُرم من التنمية، يجب أن يُمنح فرصة عادلة لبناء مستقبله دون أن تزداد ديونه.

وأكدت فعاليات المؤتمر أن الجنوب لم يعد يريد أن يكون "الضحية الصامتة" في معركة المناخ، وهو الأمر الذي اتفقت عليه وفود من 63 دولة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز "تحالف استراتيجي" قائم على المعرفة التقليدية للشعوب الأصلية، وإطلاق حركة شعبية دولية للدفاع عن السلام والإنسانية و"أُمِّنا الأرض". وطالب الإعلان الختامي للمؤتمر بتعويضات عن الدين التاريخي المستحق على الشمال العالمي، باعتباره السبب الرئيسي في انهيار "المناخ الرأسمالي"، وأكد أن مؤتمر COP30 في البرازيل سيكون المنصة لرفع صوت الجنوب والمطالبة بـ"العدالة المناخية التاريخية". وفي هذا السياق، يمكن تلخيص أبرز نتائج المؤتمر في ثلاث نقاط رئيسية:

1- تعزيز التحالف بين المعرفة التقليدية والعلوم الحديثة لحماية التنوع البيولوجي والنظم البيئية، وتشجيع الزراعة الصديقة للبيئة.

2- إطلاق ثورة تعليمية مناهضة للاستعمار لتكوين "الأوصياء الاشتراكيين البيئيين" من الشباب، عبر محاضرات متعددة الثقافات ونشاط رقمي موجه للدفاع عن المناخ.

3- تأسيس حركة شعبية دولية للدفاع عن السلام والإنسانية و"أُمِّنا الأرض"، وتوحيد الجنوب العالمي في مواجهة الشركات العابرة للحدود التي تمارس "الافتراس البيئي".

بين أخضر الشمال وأخضر الجنوب

المفارقة الكبرى، التي كشفت عنها أعمال هذا المؤتمر، تكمن في أن "التحول الأخضر" في الشمال يمثل، في جوهره، تحوّلًا رأسماليًا جديدًا نحو السيطرة على سلاسل القيمة في مجالات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة والمعادن الاستراتيجية. بينما يعني "الأخضر" في الجنوب شيئًا مختلفًا، وهو الحق في الحياة، وفي الغذاء، وفي الماء، وفي الهواء النقي.

وبينما يطوّر الشمال خططًا لتصدير تقنياته وفرض "أسواق الكربون" لشراء حق التلوث، يسعى الجنوب إلى تصدير نموذج جديد للعدالة البيئية، يقوم على تقاسم الأعباء والمكاسب بصورة منصفة. فالعالم لا يحتاج إلى "صفقات كربونية"، بل إلى "صفقة حضارية" تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين الدول الغنية والفقيرة.

وفي هذا السياق، لم يكن من قبيل الصدفة أن تستضيف كاراكاس هذا المؤتمر. فلتاريخ أمريكا اللاتينية الثوري وتجربتها في مقاومة الإمبريالية أثر بالغ في تشكيل نموذج ملهِم للاشتراكية البيئية. ففي بوليفيا، أُدرجت "حقوق أُمِّنا الأرض" في الدستور، وفي الإكوادور طُرحت مبادرات لتعويض المجتمعات المحلية عن حماية الغابات بدل قطعها، أما فنزويلا فتحدثت عن "الاشتراكية البيئية البوليفارية"، التي تربط بين التحرر الاقتصادي والسيادة على الموارد الطبيعية، وبين كرامة الإنسان واستدامة الأرض.

وتؤكد كل هذه التجارب، رغم ما تعترضها من صعوبات، على أن حماية البيئة لا تتحقق بالانسحاب من التاريخ، بل بمواجهته، وأن التحول الأخضر لا قيمة له إذا لم يكن عادلاً اجتماعيًا.

نحو توازن كوني جديد

خلال النقاشات التي شاركت فيها، برزت قناعة بأن معركة البيئة ليست منفصلة عن معركة السيادة والاستقلال الاقتصادي. فكل طن من الليثيوم أو الكوبالت أو النيكل يُستخرج من الجنوب لصالح مصانع السيارات الكهربائية في الشمال، يمثل فصلًا جديدًا من تاريخ الاستعمار المقنّع. لذا دعت رودريجيز شعوب الجنوب إلى الاستماع للطبيعة بدل محاولة السيطرة عليها، وإلى تغيير النظام لا المناخ فقط. فالبشرية، كما قالت، إذا واصلت استهلاكها المفرط بنفس الوتيرة، فستحتاج بحلول عام 2050 إلى موارد ثلاثة كواكب لتلبية احتياجاتها، وهو ما يشكل حكمًا بالانقراض الذاتي.

الدروس المستفادة

يطرح عقد هذا المؤتمر، والنتائج التي ترتبت عليه، سؤالًا مهمًا، وهو: أين يقف العالم العربي من هذه المعركة الكونية في مواجهة تغير المناخ العالمي؟ نحن لسنا جزءًا من المشكلة، لكننا من أكثر المتضررين: ندرة المياه، والتصحر، وموجات الحر، ومخاطر تهدد الأمن الغذائي والمائي.

مصر، من ناحيتها، أدركت مبكرًا أن التغير المناخي قضية أمن قومي وتنمية شاملة. فحين استضافت مدينة شرم الشيخ مؤتمر COP27 ، كانت الرسالة واضحة: لا عدالة مناخية دون تمويل عادل، ولا تنمية خضراء دون شراكة حقيقية بين الشمال والجنوب. وفي ضوء ذلك، يمكن للمنطقة العربية أن تلعب دور الجسر بين عالمين: الشمال الذي يمتلك التكنولوجيا والتمويل، والجنوب الذي يمتلك الأرض والموارد والإرادة.

ومن ناحية أخرى، يقدم مؤتمر كاراكاس درسًا مهمًا آخر يتمثل في أن السياسات البيئية لم تعد ترفًا، بل أصبحت ركيزة اساسية للأمن القومي، وأن العدالة البيئية هي الوجه الآخر للعدالة الاجتماعية. ولعل الوقت قد حان لتبني نموذج مصري وعربي في التنمية المستدامة، لا يستنسخ خطط الشمال، بل ينطلق من واقعنا وثقافتنا ومواردنا.

وهنا، قد يكون في فكرة الاشتراكية البيئية نموذجًا ملهمًا للمصريين والعرب في هذا الخصوص. فهذه الفكرة ليست شعارًا أيديولوجيًا، بل دعوة لإعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة، وبين الشمال والجنوب، وبين الثراء المفرط والحاجة الملحّة. وفي ظل هذا التوازن فقط يمكن أن يولد عقد بيئي عالمي جديد لا يترك أحدًا خلفه، ولا يترك كوكبنا يموت.

وفي هذا السياق، استحضر صورة عدد من المشاركين من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، أثناء مغادرتي لمقر المؤتمر في كاراكاس، وهم يرفعون لافتة كتب عليها: "الأرض ليست سلعة.. إنها أُمِّنا جميعًا". فهذه العبارة تلخص جوهر الاشتراكية البيئية. كما تعكس أيضًا مقولة أحد المشاركين في الجلسة الختامية للمؤتمر، وهي: "أننا إذا لم نتعلم أن نحيا بعدل على الأرض، فلن يكون هناك كوكب يمكن أن نحيا عليه أصلاً."