يستمر الرئيس دونالد ترامب في ولايته الثانية في تبني مقاربة «أمريكا أولاً» كأساس للسياسة الخارجية الأمريكية، وهي مقاربة تضع المصالح الوطنية الأمريكية فوق أي اعتبارات دولية أو التزامات متعددة الأطراف ومسئوليات القيادة العالمية. وتعني إعادة تقييم التحالفات، وتقليص الالتزامات الخارجية، والتركيز على الصفقات الثنائية بدلًا من الأطر الجماعية، مع ميل واضح لاستخدام أدوات الضغط الاقتصادي والعقوبات بدلًا من التدخلات العسكرية المباشرة. وسيكون ترامب في ولايته الثانية أكثر واقعية ومرونة من ولايته الأولى، لكنه لا يزال يفضل الحروب الاقتصادية ورفع تكلفة الالتزامات الدفاعية على الحلفاء، خاصة في حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو). وفي الوقت نفسه، قامت الإدارة بتقليص المساعدات الخارجية بشكل كبير، والانسحاب من اتفاقيات دولية، والسعي إلى إعادة التفاوض أو الانسحاب من الشراكات المتعددة الأطراف التي لا تخدم المصالح الأمريكية بشكل مباشر.
وتحتل الصين موقع الصدارة في أجندة ترامب الخارجية، حيث ينظر إليها كمنافس استراتيجي طويل الأمد. وقد اتسمت العلاقة في بداية الولاية الثانية بتصعيد في الحرب التجارية، إذ فرضت واشنطن رسومًا جمركية مرتفعة على الواردات الصينية، وردت بكين بإجراءات مماثلة. ورغم ذلك، تدرس الإدارة تخفيض الرسوم الجمركية في بعض القطاعات، في محاولة لإدارة التصعيد من دون انهيار كامل للعلاقات التجارية. ويهدد ترامب أيضًا بحظر الاستثمار المتبادل مع الصين وإبقائها خارج الصناعات الحيوية الأمريكية، ويضغط على تايوان لتعزيز قدراتها الدفاعية وتقليل اعتمادها على واشنطن. وفي ملف الأزمة الأوكرانية، تتبنى إدارة ترامب الثانية نهجًا أكثر واقعية وأقل التزامًا بالدعم العسكري لكييف، حيث تربط أي دعم عسكري أو مالي بتحقيق مصالح أمريكية واضحة. وهناك ضغوط متزايدة على الأوروبيين لتحمُّل نصيب أكبر من الأعباء الدفاعية. وهو ما أحدث حالة من عدم اليقين لدى الشركاء الأوروبيين والآسيويين حول مدى استمرارية المظلة الأمنية الأمريكية.
وتواصل إدارة ترامب الثانية الضغط على الحلفاء في حلف الناتو لزيادة إنفاقهم الدفاعي، مع إعادة تقييم الالتزامات الأمريكية تجاه الدفاع المشترك. وتفضل الإدارة عقد صفقات ثنائية مع الدول الأوروبية بدلًا من الاعتماد على الأطر الجماعية، وتدفع باتجاه تقاسم الأعباء المالية والعسكرية بشكل أكبر. وفي الشرق الأوسط، تستمر إدارة ترامب في دعمها القوي لإسرائيل، مع تهميش شبه كامل للقضية الفلسطينية، وتبتعد الإدارة عن حل الدولتين الذي تبنته الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، وتفضل الإدارة الأمريكية حلولًا تعلي من المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. كما تتخذ إدارة ترامب الثانية موقفًا أكثر تشددًا تجاه إيران مع عودة تبني استراتيجية «الضغط الأقصى» وفرض عقوبات إضافية للحد من النفوذ الإيراني الإقليمي، مع رغبة في إعادة التفاوض على اتفاق نووي جديد بشروط أمريكية أكثر صرامة، ويراعي المخاوف الإسرائيلية بشكل أكبر، إضافة إلى التركيز على تقليص قدرة إيران على تطوير برنامجها الصاروخي.
وقد شهدت سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال الأشهر الستة الأولى من ولايته الثانية تحوّلًا جذريًا عن وعوده الانتخابية لعام 2024، الأمر الذي يعكس غياب استراتيجية خارجية متماسكة لدي إدارة ترامب. فبين ضغوط المؤسسة التقليدية، ومتطلبات التكيف مع الواقع الجيوسياسي، ونزعة ترامب الشخصية نحو الاستعراض، باتت السياسات الخارجية الأمريكية في ولايته الثانية أكثر ارتجالية وتناقضًا، الأمر الذي يجعل من الصعب على حلفاء وخصوم واشنطن على حد سواء التنبؤ بمسار السياسة الخارجية لإدارة ترامب.
وفي النهاية، يمكن القول إن السياسة الخارجية لإدارة ترامب الثانية أعادت تشكيل دور الولايات المتحدة العالمي، من قوة قائدة للنظام الليبرالي الدولي إلى قوة تبحث عن مصالحها أولًا، حتى لو أدى ذلك إلى تراجع النظام الدولي القائم، الذي أسهمت بدور رئيسي في تأسيسه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور أنماط جديدة من التنافس والصراع على مناطق النفوذ. وفيما يرى بعض المحللين في هذه السياسات واقعية جديدة تفرضها التحولات الدولية، يعتبرها آخرون مصدرًا لعدم الاستقرار العالمي، وتراجعًا عن الدور القيادي الأمريكي التقليدي.