يُلاحظ المراقب لتطورات النظام الدولي، حتى بعد صعود «الترامبية الجديدة» أن أفريقيا تتحول بسرعة من مجرد فاعل هامشي إلى قوة محورية في الساحة العالمية التي تميل إلى التعددية القطبية. وتعتمد القارة البكر، إذا تبنَّينا مصطلح المفكر د. جمال حمدان في قيادة هذا التحول، على مواردها الوفيرة، وأسواقها الواسعة، ونفوذها الدبلوماسي المتنامي من أجل إعادة تشكيل الديناميكيات الاقتصادية والاستراتيجية في النظام الدولي. وتُظهر هذه الدراسة بجلاء كيف أن أفريقيا، رغم إرثها الطويل من التهميش في السياسة الأمريكية والأوروبية، تدعم اليوم وضعها الجيوسياسي، وتُقيم شراكات جديدة، كما أنها تُعيد تعريف دورها في النظام الدولي للقرن الحادي والعشرين، في وقتٍ يتراجع فيه المانحون التقليديون، وتزداد فيه المنافسة العالمية على المشاركة الأفريقية.

وتطرح الدراسة تساؤلًا محوريًا حول قدرة أفريقيا على استثمار هذه التحولات لتوطيد أركان دورها في النظام الدولي المتعدد الأقطاب، وتحديد مسارات تنميتها بعيدًا عن التبعية والهيمنة الخارجية. وتتمثل الإضافة الأساسية هنا في طرح مقاربة متعددة المستويات تجمع بين التقييم التاريخي لصراعات السيادة في حقبة ما بعد الاستعمار، ودراسات حالة معاصرة للشراكات الاقتصادية مثل منتدى «بريكس»، وتحليل الأطر المؤسسية (كجهود الاتحاد الأفريقي)، مع توظيف نمذجة المستقبل كأداة استشرافية لتحليل الاتجاهات الطويلة المدى وتقدير السيناريوهات الاستراتيجية الممكنة. وعليه، فإن الدراسة تهدف إلى دمج التحليل التاريخي والاستشراف المستقبلي، إضافة إلى تقديم قراءة نقدية معمقة لمسارات القارة في ظل التعددية القطبية، مع إبراز الفرص والتحديات التي تتيحها هذه البيئة الجديدة أمام أفريقيا لتعزيز استقلاليتها ودورها العالمي.

ولا مراء في أن أفريقيا تقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي في ظل تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تتداخل فرص تعزيز النفوذ وتحقيق التنمية مع تحديات الانقسامات الداخلية والتنافس الدولي المتزايد. وفيما يتيح تراجع الهيمنة الغربية، والسياسات الانعزالية الجديدة لإدارة ترامب الثانية، وصعود قوى جديدة، مثل الصين وروسيا والهند ودول الخليج العربية، فرصًا لأفريقيا لإعادة تعريف دورها العالمي وتحقيق أهداف أجندة 2063، تظل القارة مطالبة بتثبيت أركان وحدتها وتطوير مؤسساتها لمواجهة اختلالات النظام الدولي وتفادي إعادة إنتاج أنماط التبعية وعدم المساواة. أيضًا، تؤكد الدراسة أهمية الشراكات المتعددة الأطراف والابتكار المؤسسي، مع إبراز دور مجموعة البريكس والتوجه نحو استراتيجيات عدم الانحياز كخيارات واعدة لتدعيم استقلالية أفريقيا في الحوكمة العالمية. في المقابل، تحذر الدراسات الاستشرافية من أن نجاح أفريقيا، في هذا السياق، يتوقف على قدرتها على التنسيق الداخلي، ومواجهة الأزمات، والمشاركة الفاعلة في صياغة النظام العالمي الجديد بدلًا من الاكتفاء بدور المتلقي للتغيرات الدولية.

وفي ظل نظام دولي يتسم بتعدد الأقطاب وتغير موازين القوى، تسعى أفريقيا إلى تعزيز فاعليتها من خلال تنويع شراكاتها الخارجية وتطوير أطر فعالة للأمن الجماعي. لم تعد القارة تعتمد على قوة مهيمنة واحدة، بل باتت تدير علاقاتها مع مجموعة متنوعة من الشركاء الدوليين، مستثمرة التنافس بينهم لتحقيق مصالحها الاستراتيجية. من خلال هذه المقاربة، تستطيع أفريقيا تقليل تبعيتها وتعظيم مكاسبها، ما يعزز مكانتها كفاعل ديناميكي في النظام الدولي الجديد.

 وترى الدراسة أنه يمكن لأفريقيا تجاوز فخ المساعدات من أجل التنمية المستدامة. إذ بالرغم من الاضطرابات الناجمة عن انسحاب الولايات المتحدة من المساعدات، تُضاعف الدول الأفريقية جهودها في تعزيز التجارة البينية الأفريقية، والشراكات البديلة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. وبدلًا من اعتبار هذا التحول أزمة، تغتنم أفريقيا الفرصة لتأكيد سيادتها الاقتصادية، مُعطيةً الأولوية للاستثمار المحلي في الطاقة الخضراء والتنمية القائمة على التجارة على حساب الاعتماد على المانحين.

من المتوقع أن تعيد الطفرة الديموغرافية في أفريقيا تشكيل المشهد العالمي، بحسبانها مصدرا للفرص الهائلة والمخاطر الجسيمة في آنٍ واحد. ومع النمو السكاني السريع، وزيادة أعداد الشباب يُمكن للقارة أن تُصبح قوةً دافعةً للنمو الاقتصادي والابتكار، شريطة وجود استثمارات كبيرة في التعليم وتوفير فرص العمل والبنية التحتية. إن النجاح في تسخير هذه الإمكانات الديموغرافية قد يُحوّل أفريقيا إلى مركزٍ رائدٍ للتصنيع والتكنولوجيا، ما يجذب الاستثمارات العالمية ويُعالج نقص العمالة في جميع أنحاء العالم. في المقابل، قد يُفاقم عدم توفير فرصٍ كافيةٍ لشباب أفريقيا من مشكلة البطالة وعدم الاستقرار وضغوط الهجرة، مع عواقب بعيدة المدى على الأمن الإقليمي والعالمي.

وتقترح الدراسة بالاعتماد على نمذجة المستقبل ثلاثة سيناريوهات -سيناريو استمرار الوضع القائم، والسيناريو المتفائل، والسيناريو المتشائم- ترسم معالم مجموعة واسعة من الاحتمالات المستقبلية لأفريقيا بحلول عام 2063. في سيناريو بقاء الأوضاع على ما هي عليه، تُحرز أفريقيا تقدمًا مُطردًا، ولكنه غير كافٍ. وفي السيناريو المتفائل، تنهض أفريقيا حقًا كقوة عالمية مؤثرة وآخذة في الصعود. وفي السيناريو المتشائم، تظل غارقة في التحديات والتهميش. وعليه، تُعدّ نمذجة المستقبل، باستخدام أدوات، مثل نماذج التنبؤات المستقبلية، بالغة الأهمية في رسم هذه السيناريوهات وتحديد آثارها كميًا. فهي تُمكّن صانعي القرار وأصحاب المصلحة الأفارقة من تصوّر العواقب الطويلة المدى للاتجاهات الحالية وخيارات السياسات. 

وأخيرا، توصي الدراسة بوضع إطار عمل استراتيجي شامل يُدمج أدوات الاستشراف المستقبلي في عمليات صنع القرار على جميع المستويات، مع التركيز على دعم وترسيخ قواعد الحوكمة الرشيدة، والاستثمار المكثف في التعليم والبنية التحتية، وتسريع التكامل الإقليمي. كما يجب على صانعي السياسات تأسيس الشراكات المتوازنة والمتعددة الأطراف التي تحترم السيادة الوطنية وتدعم التنمية المستدامة، مع تبني مقاربات مرنة قادرة على التكيف مع التحولات الجيوسياسية العالمية. أضف إلى ذلك الأخذ بسياسة مشاركة الشباب والنساء في صياغة السياسات لضمان شمولية التنمية واستدامتها. ولا يخفى أن تبنّي هذه التوصيات سيُمكّن أفريقيا من استثمار فرص التعددية القطبية بفعالية وتحقيق رؤيتها التنموية الطموحة لعام 2063، ما يضمن لها مكانة فاعلة ومحورية على الساحة الدولية.