د. حسن أبو طالب

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بعد مشاورات بين القادة الميدانيين والقادة السياسيين لحركة حماس، ومشاورات أخرى مع فصائل فلسطينية مختلفة، أبرزها الجهاد الإسلامى، ومشاورات أخرى مع الوسطاء، قررت حماس قبول مبادرة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الخاصة بوقف الحرب في غزة، والمكونة من 20 بنداً، سبق طرح صيغة أوّلية منها على عدد من القادة العرب والمسلمين في لقاء خاص جمعهم مع الرئيس ترامب في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبعد لقاء تالٍ للرئيس ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو في واشنطن، تم تعديل بعض بنود الخطة، والتي قدمت للوسطاء لعرضها على مفاوضى حركة حماس لقبولها، في ظل تهديدات مباشرة من الرئيس الأمريكى بأن عدم قبول الخطة سيفتح أبواباً من الجحيم على القطاع، مع التشديد على أولوية الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين في زمن لا يتجاوز ثلاثة أيام.

مفاجأة قبول حماس خطة ترامب

جاء قرار حماس بقبول الخطة مفاجئاً للولايات المتحدة وحكومة التطرف فى إسرائيل التي راهنت على رفض حماس ومن ثم الاستمرار في تدمير القطاع وتشريد أهله، وهو ما نجحت حماس في تجنبه.

جاء الرد بطريقة دبلوماسية ركزت على ما يمكن قبوله من الحركة باعتبارها مسئولة عنه، ويمكنها التحرك منفردة، كالإفراج عن الأسرى. أما البنود الأخرى التي تتعلق بالمصير الفلسطيني ككل، رأت فيها حماس ضرورة أن تعالج في إطار فلسطيني تشارك فيه بمسئولية.

تضمن البيان تقدير الجهود المبذولة عربياً وإسلامياً ومن الرئيس ترامب "الداعية إلى وقف الحرب على قطاع غزة وتبادل الأسرى ودخول المساعدات فوراً ورفض احتلال القطاع ورفض تهجير شعبنا الفلسطيني منه"، وهى النقاط التي يمكن وصفها بالإيجابية ومراعاة بعض حقوق الشعب الفلسطيني في القطاع.

كما تضمن البيان قبول البند الخاص بالإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء يقابلهم أسرى فلسطينيون وكذلك تسليم جثث الأسرى القتلى، مع ربط هذه الخطوة بأمرين: الأول، "ما يحقق وقف الحرب والانسحاب الكامل من القطاع". والثانى، استعدادها للدخول فوراً من خلال الوسطاء في مفاوضات لمناقشة تفاصيل عملية الإفراج عن الأسرى من خلال الوسطاء.

وجددت الحركة موافقتها على تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة فلسطينية من المستقلين (تكنوقراط) مع ربط الأمر بشرط "التوافق الوطني الفلسطيني واستناداً للدعم العربي والإسلامي".

أما البنود المتعلقة بتسليم سلاح الحركة والخروج الآمن والعفو المشروط لعناصر الحركة ومغادرة القطاع، وما يتعلق بمستقبل القطاع وإدارته من "قبل حكومة انتقالية مؤقتة مكونة من تكنوقراط فلسطينيين، بإشراف هيئة دولية جديدة تقودها واشنطن بالتعاون مع شركاء عرب وأوروبيين، حتى تستكمل إصلاحات السلطة الفلسطينية"، و"تشكيل قوة استقرار دولية مؤقتة بقيادة أمريكية وعربية، للإشراف على الأمن وتدريب شرطة فلسطينية محلية"، و"صياغة خطة اقتصادية لإعادة بناء غزة، وإنشاء منطقة اقتصادية بضرائب ورسوم مخفضة"، و"الضمانات الأمنية من دول إقليمية لضمان التزام جميع الأطراف"، و"إطلاق برامج لتفكيك الفكر المتطرف"، و"فتح مسار نحو دولة فلسطينية مستقبلية"، و"إطلاق حوار سياسي بين إسرائيل والفلسطينيين"، فكلها بنود وردت في خطة الرئيس ترامب، ربطتها الحركة بـ"موقف وطني جامع واستناداً إلى القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، وأن يتم مناقشتها من خلال إطار وطني فلسطيني جامع ستكون حماس من ضمنه وستسهم فيه بكل مسئولية".

قبول جزئى مشروط

موقف حماس على النحو السابق لم يرفض خطة ترامب كلياً، ولم يوافق عليها كلياً. والمسألة ليست في مبدأ القبول أو الرفض، وإنما في طبيعة كل بند على حدة، ومدى إمكانية أن يكون لحماس القول الفصل فيه، بعيداً عن باقى الفصائل الفلسطينية. وهنا نلاحظ أن البنود التي تتعلق بحماس ذاتها، كالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وتسليم السلاح، ومغادرة بعض العناصر للقطاع، وجدت تبايناً في موقف الحركة، فبينما أعلنت صراحة قبول الإفراج الكامل عن الأسرى الإسرائيليين بعد ضبط وتحديد الخطوات اللوجستية عبر الوسطاء، فإنها تجاهلت تماماً ما يتعلق بالسلاح ومغادرة القطاع.

ويُذكر هنا أن تصريحات العديد من قادة الحركة تركز على أن تسليم السلاح مرهون أساساً بالدولة الفلسطينية، فإن ولدت هذه الدولة الموعودة، فسوف تسلم الحركة سلاحها لحكومة تلك الدولة. ونظراً لأن خطة ترامب لم تشر إلى دولة فلسطينية صراحة، بل إلى مجرد فتح مسار لدولة فلسطينية مستقبلاً، الأمر الذى يعنى أن حماس سوف تحتفظ بسلاحها إلى مدى زمنى غير محدد، ومع إصرار حكومة تل أبيب على عدم قيام دولة فلسطينية مستقبلاً، فالنتيجة المنطقية أن سلاح حماس سيظل تحت تصرفها لمدى زمنى بعيد.

وهنا تكمن مشكلة كبرى، فإسرائيل على لسان نتنياهو تؤكد على أن الخطوة التالية بعد الإفراج عن الأسرى هي نزع سلاح حماس وإخلاء القطاع من السلاح بشكل عام، أى سلاح حماس وسلاح الفصائل الأخرى معاً. فإن لم يحدث الأمر بالدبلوماسية فسيحدث عسكرياً، وفقاً لنتنياهو، الأمر الذى يفتح الباب أمام نية مبيتة من قبل إسرائيل بعدم الالتزام بأى بنود غير تلك التي تتعلق بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين وتسليم جثث الأسرى القتلى.

إشكالية حجم السلاح ونوعيته

ثمة إشكالية تتعلق بالإجراءات اللوجستية في موضوع تسليم السلاح ونزعه من كامل القطاع، والذى يُعد هدفاً إسرائيلياً وأحد شروط النصر الذى يصر عليه اليمين المتطرف الحاكم في تل أبيب، ذلك أن حجم ونوعية سلاح حماس وغيرها من فصائل المقاومة في القطاع يستحيل تحديده، بحيث إن تم تسليمه يتحقق بذلك الشرط الإسرائيلي. كما أن نوعية السلاح نفسه، ووفقاً لبعض الآراء، يتوزع على بندين رئيسيين: شخصى قد يُسمح بالاحتفاظ به لعناصر معينة، وهجومى ثقيل وورش تصنيعه، يجب التخلص منه كاملاً. وفى هذا السياق، فإن طبيعة حماس كحركة مقاومة، فرعها العسكرى يتحرك بطريقة سرية أثبت قدرته على الاختفاء بالرغم من كل الإجراءات التي طبقتها إسرائيل للوصول إلى هذه العناصر العسكرية، يجعل عملية تسليم السلاح الهجومى معقدة ويستحيل التيقن منها، في حالة قبول الحركة تسليم هذه النوعية من الأسلحة إن وجدت لديها.

القوة الدولية ونزع سلاح حماس

والوارد وفقاً لخطة ترامب أن تشكيل قوة أمنية دولية تعمل بإشراف مؤسسة تعنى بالسلام في غزة، يرأسها الرئيس ترامب ذاته، سوف يساعد في عملية نزع سلاح حماس، وهنا تبرز مشكلة عملية، فأى قوة دولية أو غير دولية يتطلب أولاً أن تجد القبول والتوافق والتعاون من كل الأطراف الفلسطينية بما فيها حركة حماس، وبما يمهد بالتعاون معها في قضية حساسة وتتعلق بوجود الحركة ذاتها. والمنطقى أن تتحفظ الحركة في الإشارة إلى نزع سلاحها فوراً، مع إحالته إلى الدولة الفلسطينية المستقلة، عند تشكلها مستقبلاً، وهو موقف يعنى بأن الحركة ليست في وارد التعاون في تطبيق هذا البند فوراً كما يصر نتنياهو، ما يجعل تطبيق البنود الأخرى مسألة قابلة للتراجع.

حدود الحياد في موقف الرئيس ترامب

لقد استقبل الرئيس ترامب بيان حركة حماس بقدرٍ من التقدير، إذ يسمح تعاون حماس في تنفيذ خطته ذات العشرين بنداً، بالتركيز على فك عزلة إسرائيل، والتقدم خطوات مهمة نحو الفوز بجائزة نوبل للسلام. كما أن الأولوية التي يُصر عليها الرئيس ترامب بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين دون التركيز على التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار لتيسير عملية تسلم الأسرى، تثير الشكوك بشأن الحرص على تنفيذ بنود الخطة في صورة كلية ووفق توازن إيجابي بين مسئوليات الأطراف المعنية، فالرجل لم يترك فرصة إلا ووضع العبء كله على حركة حماس، مع تجنيب إسرائيل أى مسئولية في إنجاح خطته، بالرغم من أن كافة بنود الخطة تتطلب التزامات إسرائيلية، ما يجعل تركيز الرئيس ترامب على مسئولية أحد الأطراف، أي حركة حماس، وتجاهل مسئولية الطرف الآخر، مسألة مثيرة للشكوك فيما يتعلق بالتزام الولايات المتحدة بالتعامل المنصف مع كل الأطراف، كما هو وارد في الخطة نفسها.

صحيح هنا أن الرئيس ترامب دعا إسرائيل إلى وقف إطلاق النار كتمهيد لعملية الإفراج عن الأسرى، ولكن تل أبيب رفضت الانصياع لدعوة ترامب، ومن جهته أصدر الجيش الإسرائيلى بياناً يتحدث فيه عن خفض عمليات تدمير غزة وقتل شعبها، دون وقف تلك العمليات تماماً. ومع ذلك لم يهدد الرئيس ترامب حكومة تل أبيب، ولم ينتقد تصرفها الساعى إلى استمرار الحرب، ومن ثم إفشال الخطة، في الوقت ذاته الذى تزداد فيه عزلة إسرائيل عالمياً وشعبياً.

ومن المثير ان يتصور الرئيس ترامب قدرته على تخليص إسرائيل من عزلتها الدولية المتصاعدة حالياً، لاسيما بين الأجيال الشابة في بلدان غربية كانت قبل عام أكثر ميلاً وتأييداً للإبادة الجماعية التي ما زالت إسرائيل تمارسها بكل عنجهية في القطاع. فتغيير اتجاهات الرأي بشأن القضية الفلسطينية يتطلب أكثر من تحرك على أكثر من مستوى؛ أبرزها أن يحدث تغير كبير في السلوك الإسرائيلى تجاه القضية الفلسطينية يلتزم بالحقوق القومية للفلسطينيين، وأن يختفى نتنياهو ورفاقه المتطرفون من المشهد السياسى الإسرائيلي مع محاسبتهم على مواقفهم وسلوكياتهم العنصرية ضد الفلسطينيين، وثالثاً أن يراعى الرئيس ترامب الالتزام بالحياد تجاه أطراف القضية الفلسطينية، وأن يلتزم الشفافية بشأن الطرف الساعى إلى إفشال خطته.

إن افتقاد تلك الشروط يُقيد كثيراً أى تحرك أمريكى يستهدف تغيير توجهات الرأي الأوروبى والأمريكى المتصاعد بين الأجيال الجديدة، للتخلص من حالة التعاطف مع الفلسطينيين، واستعادة مرة أخرى طابع التعاطف مع إسرائيل بغض النظر عن عنصريتها وعدوانها اللا إنسانى ضد الفلسطينيين، مع ملاحظة أن تغيرات الرأي العام لا تحدث بين يوم وليلة، بل تتطلب تغييراً في البيئة الكلية المحيطة بالحدث المعنى، وجهوداً نفسية جماعية، ومساحة زمنية ممتدة لبعض الوقت حتى يظهر التأثير المطلوب. فطالما لم يتغير مشهد الدماء في غزة والضفة الغربية، ستواجه إسرائيل المزيد من العزلة الدولية.

المراوغة الإسرائيلية المنتظرة

إسرائيل بدورها تثير الكثير من المواقف المتعارضة بشأن الالتزام ببنودها والشفافية في تطبيقها، ووفقاً للسوابق، فإن مبدأ إسرائيل يتلخص فى التنصل من أي بنود تجد فيها بعض القيود، وتحميل الطرف الآخر مسئولية الفشل، وبما يوفر لرئيس الوزراء نتنياهو مزيداً من الفرص للتخلص التدريجى من التزامات الخطة المعنية بمسار للدولة الفلسطينية وعودة السلطة لحكم قطاع غزة.

ويتلخص موقف نتنياهو في النظر إلى الخطة، وبعد وصفها بأنها اقتراح إسرائيلى تم طرحه بالتنسيق مع الرئيس ترامب، بأنها وسيلة تحقق الإفراج عن الأسرى كمرحلة أولى، وبعدها نزع سلاح حماس كمرحلة ثانية، وثالثاً استمرار بقاء جيش الاحتلال في مساحات واسعة من القطاع لدواعٍ امنية، وهى رؤية تسمح باستمرار حكومة التطرف إلى حين موعد الانتخابات في 2026، والهروب من المحاكمات الخاصة بفساده الشخصى.

مجمل القول، إن موافقة حماس المحسوبة بدقة، والمراوغة الإسرائيلية المعتادة والانحياز الأمريكي، يضع الكثير من العراقيل والعقبات أمام الوسطاء، وهم الحريصون على دفع الأمور نحو تركيبة ومزيج عملى، يقود المنطقة نحو مرحلة من الهدوء، تليها مرحلة لبناء سلام مستدام، ما زال يفتقد إلى الكثير من شروطه.