د. إيمان مرعى

خبير ورئيس تحرير دورية رؤى مصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

 

شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولات جوهرية في بنية النظام الدولي، ألقت بظلالها على أولويات ومفاهيم التنمية في مختلف الدول، سواء المتقدمة أو النامية. وقد فرض هذا الواقع الجديد - الذي يتسم بتسارع الثورة التكنولوجية، وتصاعد التنافس الجيوسياسي، وتغير أنماط التمويل والاستثمار - مراجعة شاملة للمنظومات التنموية التقليدية التي سادت خلال القرن العشرين.

فمنذ نشأة مفهوم التنمية، تعددت المقاربات النظرية التي حاولت تفسير آليات النمو والتحديث، بدءًا من المدارس الكلاسيكية والنيوليبرالية، مرورًا بالمدارس البنيوية والاعتمادية، وصولًا إلى نظريات التنمية البشرية والمستدامة. يعكس هذا التنوع في المقاربات التغير في فهم التنمية كعملية معقدة، متعددة الأبعاد، ترتبط بالقيم والسياقات المحلية بقدر ما ترتبط بالأنماط الاقتصادية المجردة.

في هذا السياق، برزت تجارب صاعدة، كالنموذجين الصيني والهندي، حيث قدّمت مقاربات تنموية مختلفة جمعت بين تدخل الدولة ومرونة السوق، وبين الخصوصية الوطنية والانفتاح العالمي.

وفي ظل هذه المتغيرات، أعادت مصر بناء رؤيتها التنموية من خلال «النموذج التنموي المصري الجديد»، القائم على تمكين الإنسان، والتحول الرقمي، وتوسيع الشمول المالي، مع التركيز على الاستدامة وتعزيز الإنتاجية.

ولأن التمويل يُعد العصب الأساسي لأي مشروع تنموي، بات من الضروري فهم التحولات التي طرأت على منظومة الابتكار المالي، ودور أدوات التمويل الجديدة (كالتمويل الأخضر، والسندات التنموية، والشراكات بين القطاعين العام والخاص) في دعم التنمية المستدامة.

انطلاقًا مما سبق، يهدف هذا العدد إلى تحليل تحولات الفكر التنموي في هذا السياق العالمي الجديد، وتفكيك أبعاده النظرية والتطبيقية، من خلال مقاربة مقارنة بين التجارب الصاعدة، مع تسليط الضوء على النموذج المصرى، إدراكاً بأن التنمية لم تعد رفاهية، بل ضرورة وجودية تتوقف عليها مكانة الدول في عالم متغير وسريع التحول.