أمل مختار

خبيرة في شئون التطرف والعنف - رئيس تحرير مجلة المشهد العالمي للتطرف والإرهاب - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تتوالى العقود وتتابع الأحداث السياسية العالمية والإقليمية والمحلية بسرعة كبيرة وبقدر أكبر من التشابك والتعقيد، بل والأهم إن صياغة المشهد العام باتت شديدة التعقيد حتى أصبح من المستحيل فك خيوط الأحداث والظواهر إلى مسارات محددة ومصنفة بين ما هو سياسى أو اقتصادى أو مجتمعى أو أمنى. تداخلت الخيوط واختلطت المسارات بدرجة أكبر بكثير من أى وقت مضى.

مع بداية القرن الحادى والعشرين بدأت بذور التحول فى شكل النظام العالمى تنمو بصورة واضحة، كما توالت على دول العالم عدد من الأزمات الكبرى التى وصل أثرها إلى معظم المجتمعات -بدرجات متفاوتة- حتى أصبحنا نعيش ما يُعرف بعصر «الأزمة الدائمة» Perma Crisis، وهو مصطلح جديد دخل القاموس منذ 2022، وقد ظهر المفهوم فى الأوساط البحثية السياسية والاقتصادية لفهم التطورات العالمية وأثرها على الدول والمجتمعات وتحديدًا بعد أحداث: البريكست ثم كوفيد-19 ثم الحرب الروسية/ الأوكرانية، وحاليًّا يمكن إضافة الحرب الممتدة على غزة. فضلًا عن أزمات ممتدة أخرى مثل (أزمة المناخ المتصاعدة، زيادة حدة النزعة القومية واليمين المتطرف، ارتفاع معدلات التضخم، زيادة أعداد اللاجئين قسريًّا فى العالم، اتساع هوة عدم المساواة وارتفاع معدلات الفقر). ومن ثم أصبح هناك شعور خطير بالتنقل من حدث غير مسبوق إلى آخر، مع استمرار المشكلات القديمة وامتدادها ومن ثم يمكن وصف الأزمات الدولية وامتداداتها الإقليمية والمحلية بأنها باتت «أزمات متراكبة» و»أزمات دائمة» أو «Perma Crisis»، تحتاج إستراتيجيات مختلفة لتحليلها وفهمها ووضع إستراتيجيات للتعامل مع تداعياتها. كل ذلك، إلى جانب الطفرات غير المسبوقة فى مسيرة الذكاء الاصطناعى التوليدى وتمثلاته فى جميع المجالات بدايةً من المحادثات اليومية بين الإنسان -غالبا الأطفال والمراهقون- والآلة وتطبيقاتها على الهاتف المحمول، وصولًا إلى تنفيذ حرب كاملة -أشبه بألعاب الفيديو جيم- على شعب أعزل فى غزة.

فضلًا عن تحولات ثقافية وأخلاقية وقيمية كبرى تتزامن مع حقبة تراجع «قيادة المنظومة الغربية للعالم» بكل ما حملته من قيم حاكمة وقوانين دولية مثل: القانون الإنسانى الدولى وقيم حقوق الإنسان ورفع سقف الحريات الشخصية ودعم التجارة الحرة بين الدول والعولمة والمنظمات والمؤسسات الدولية الضامنة للسلام العالمى. إلى جانب السطوع القوى للخلاصات السلبية لمرحلة (شيخوخة) المنظومة القيمية الغربية، من هذه السلبيات على سبيل المثال، التمادى الكبير فى الترويج لحقوق «مجتمع الميم» الآخذ فى الاتساع ليشمل أشكالًا مدمرة ليس فقط للأسرة التقليدية بل للمجتمع الإنسانى الطبيعي.

كل هذه التحولات الكبرى والأحداث السياسية والحروب والصراعات والأزمات الصحية والاقتصادية والثقافية والقيمية المتتالية والمتراكبة، جعلت دراسة الظواهر السياسية خصوصًا والظواهر الاجتماعية عمومًا، أمرًا شديد التعقيد، ويحتاج إلى أدوات ومناهج واقترابات علمية تناسب المرحلة.

الحوسبة ودراسة الظواهر الاجتماعية

شهد علم الاجتماع تطورًا مستمرًّا فى نماذجه البحثية، كما هو الحال فى العديد من العلوم الطبيعية، حيث استخدم علماء الاجتماع نماذج متعددة عبر مراحل مختلفة. كان تطور هذه النماذج فى علم الاجتماع يشبه إلى حد كبير التطور فى العلوم الطبيعية، بداية من المرحلة التقليدية، تليها مرحلة الأزمة، ثم مرحلة الثورة، وأخيرًا مرحلة التقليدية الجديدة. عندما يواجه علم الاجتماع مشكلات لا يمكن حلها باستخدام الطرق القديمة أو تظهر تقنيات وبيانات جديدة، يتم ابتكار نموذج جديد يتم تبنيه تدريجيًّا من قبل المجتمع الأكاديمى.

قدم دوركايم، وفيبر، وماركس ثلاثة نماذج رئيسية فى البحث الاجتماعى المعاصر، هى النموذج التجريبى والنموذج التأويلى والنموذج النقدى. خلال المائة عام الماضية، انتقل علم الاجتماع من التكهنات إلى التكامل بين العمل التجريبى والنظرى. إذ بدأ الباحثون فى استخدام أساليب مثل البحث النوعى والكمى فى محاولة لفهم الظواهر الاجتماعية بشكل أعمق.

تُعد الحوسبة الاجتماعية مجالًا تفاعليًّا حديثًا -نسبيًّا- يجمع بين تقنيات الحوسبة المتقدمة ومناهج البحث فى العلوم الاجتماعية، بهدف تقديم رؤى أعمق لفهم الظواهر الاجتماعية المعقدة. وتعتمد هذه المقاربة على تحليل البيانات الكمية باستخدام أدوات برامج الكمبيوتر وتطبيقات الذكاء الاصطناعى وتعلم الآلة، إلى جانب التحليل الكيفى للنصوص والخطابات الاجتماعية. كما تُمكِّن الباحثين من تطوير نماذج محاكاة حاسوبية تساعد على استكشاف التفاعلات الاجتماعية والتنبؤ بأنماط السلوك لدى الأفراد والمجتمعات والمؤسسات والدول. وتوفر هذه النماذج بيئة افتراضية تسمح باختبار تأثير المتغيرات وتفسير الآليات المؤثرة فى تشكيل السلوك الاجتماعى.

يرجع الاهتمام المتزايد بمجال الحوسبة الاجتماعية إلى قدرته على تجاوز الأساليب التقليدية، من خلال استغلال مصادر جديدة للبيانات وتقديم أدوات تحليل متطورة. كما يتيح المجال إمكانيات واسعة لصياغة نظريات جديدة تفسر السلوك المجتمعى بطرق غير مسبوقة، بالإضافة إلى تطوير الأطر النظرية الحالية.

القدرة على التوقع/ التنبؤ وقياس المخاطر

علم الاجتماع علم معنى بالأساس بالفهم التفسيرى للفعل الاجتماعى وهو ما يعني: تفسير الأسباب، والعمليات، والنتائج. لسنواتٍ عديدة، وبسبب قيود البيانات والقدرة الحاسوبية، ركز البحث الكمى فى العلوم الاجتماعية بشكلٍ أساسى على الجانب الإحصائى لتصنيف البيانات وتحليل الارتباطات وتقديم علاقة سببية (طردية أو عكسية)، مع إهمال جانب التوقعات والتنبؤات بشكلٍ كبير. اليوم يعتقد المتخصصون فى مجال الحوسبة الاجتماعية، أن تطبيقات التقنية ستمكننا من أن نشهد بزوغ عصر من التحول من مرحلة التفسير الارتباطى والسببى إلى مرحلة التنبؤ الاجتماعى، الأمر الذى يعتبره البعض أمرًا حتميًّا بحمله سمات العلمية والمعيارية، لاسيما إذا كان علم الاجتماع يسعى للعلمية!.

بصورة عامة، يعد التنبؤ الاجتماعى مرحلة متقدمة فى تطور البحث الكمى فى علم الاجتماع. ومع تطور التكنولوجيا، يفترض أن يصبح عنصرًا مركزيًّا فى الدراسات الاجتماعية، تحديدًا لدعم السياسات العامة، فلا يُعزز فقط قدرات علم الاجتماع على فهم المجتمع، بل يوسع أيضًا من دوره فى التأثير على السياسات العامة وصياغة خطاب معرفى محلى وعالمى أكثر تماسكًا.

الذكاء الاصطناعى التوليدى ودراسة الظواهر الاجتماعية

من الناحية الأكاديمية، تقدم برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعى إمكانيات غير مسبوقة فى تحليل الظواهر الاجتماعية المعقدة، وتتيح استنتاج مؤشرات يصعب الوصول إليها بالوسائل التقليدية. فهناك بيانات (كامنة) لا يُفصح عنها الأفراد فى المسوحات واستطلاعات الرأى، إما بسبب الحرج الاجتماعى أو الخصوصية. وهناك كذلك مؤشرات يصعب قياسها بشكل مباشر بسبب تعقيدها أو غموض بنيتها، لكن يمكن استنتاجها باستخدام الذكاء الاصطناعى التوليدى من خلال بناء نماذج تدريب دقيقة. كما يتيح هذا النوع من التحليل بناء فرضيات نظرية جديدة، إذ يسمح باكتشاف متغيرات وأبعاد تفسيرية غير متوقعة قد تؤدى إلى بلورة رؤى نظرية جديدة. وهذا يعزز الخيال السوسيولوجى ويفتح آفاقًا لفهم أعمق للتركيب الاجتماعي.

بالإضافة إلى ذلك، يُسهم التنبؤ فى تطوير أدوات الاستدلال السببى. ففى الحالات التى يصعب فيها تطبيق تجارب واقعية، يُمكن للذكاء الاصطناعى محاكاة سيناريوهات (الواقع المضاد)، وتقدير النتائج فى ظل تغير المعطيات، مما يعزز دقة النماذج السببية. كما يمكن استخدامه فى استكمال البيانات الناقصة فى الدراسات الاجتماعية. وفضلًا عن ذلك، فإن التنبؤ الاجتماعى الناتج عن استخدام مثل هذه التطبيقات، قد يدعم الابتكار فى حقل النظرية، إذ أن نتائج الخوارزميات قد تكشف عن أنماط غير متوقعة تسهم فى تعديل النظريات القائمة أو إنتاج تفسيرات جديدة لسلوك الأفراد والمجتمعات والدول.

على الجانب العملى، فإن التنبؤ الاجتماعى، المبنى على الدراسات الحوسبية الجديدة، يساهم فى تحسين السياسات العامة من خلال نماذج دقيقة تستند إلى البيانات الواقعية. وفى ظل التحولات الاجتماعية السريعة التى نمر بها فى مصر، تتزايد الحاجة إلى أدوات فعالة تسهم فى فهم التغيرات، والتخطيط الاستباقى.

مع تطور تقنيات التنبؤ الاجتماعى المرتكزة على برامج الحوسبة عمومًا وتطبيقات الذكاء الاصطناعى تحديدًا، يتم تقسيم صياغة التوقع/ التنبؤ إلى ثلاث مراحل: الدراسة النوعية، الدراسة الكمية، وأخيرًا التنبؤ الكمى. يتم إدخال آلية (النقاط العمياء) فى التنبؤ، مما يعنى أن النماذج لا تسعى لتفسيرات واضحة، بل تركز على التنبؤات الدقيقة بناءً على البيانات. ثانيًا، على مستوى نطاق المشكلة، لا يهتم التنبؤ الاجتماعى بعلاقات السبب والنتيجة المباشرة بل يسعى إلى تقدير المتغيرات المستهدفة بدقة. ثالثًا، من حيث منهجية البحث، يقلل التنبؤ الاجتماعى من الاعتماد على النظريات التقليدية والتركيز على الفرضيات، ويعتمد بدلًا من ذلك على الخوارزميات والبيانات لاختبار النماذج وتدريبها.

ختامًا: تعد الحوسبة الاجتماعية وتطبيقاتها الكمية والتحليلية وتطبيقات الذكاء الاصطناعى، إضافة قوية لعلم الاجتماع المعاصر. فهو يفتح آفاقًا جديدة لفهم الظواهر الاجتماعية، ويمكن أن يسهم فى تطوير نماذج بحثية تساهم فى تعزيز دقة التنبؤ وفهم العلاقات المعقدة فى المجتمع. من خلال الدمج بين الأساليب القديمة والتقنيات الحديثة.

كما أن هذا لا يعنى التقليل من قيمة النماذج التقليدية أو إضعاف الأساليب البحثية التى تعتمد على الفرضيات النظرية. لكن الانتقال إلى فهم أدق وأكبر لمثل هذه الأدوات والاقترابات العلمية، قد يؤدى إلى طرح نظريات جديدة، وفهم أفضل للظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعقدة. ولذلك، يجب أن تكون هذه التحولات فى الأساليب جزءًا من استمرار تطور علم الاجتماع وليست بديلًا عن القيم الأساسية التى قام عليها هذا المجال.