في تطور لافت، سارعت باكستان عقب تصاعد حدة الحرب بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة وإيران من جهة أخرى، إلى الإعلان عن تضامنها مع الأخيرة، من خلال عدة قنوات. فقد أدانت إسلام أباد، في 23 يونيو 2025، قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقصف المفاعلات النووية الثلاثة، بعد يوم واحد فقط من تأييدها منحه جائزة "نوبل" لدوره في تسوية النزاع الأخير مع الهند في كشمير.
وفي اتصال هاتفي بين رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أدان شريف الهجمات الإسرائيلية علي إيران، فيما أكد وزير الدفاع خواجة آصف دعم بلاده الكامل لإيران، مشيراً إلى أن باكستان ستحمي مصالح إيران في ظل العدوان الإسرائيلي، داعياً إلى عقد جلسة طارئة لمنظمة التعاون الإسلامي لوضع استراتيجية مشتركة للرد على العدوان الإسرائيلي. ثم لاحقاً صادق مجلس الشيوخ الباكستاني على مشروع قرار بدعم إيران ضد الهجمات الإسرائيلية، كما وقع وزير الخارجية الباكستاني بياناً مشتركاً لوزراء خارجية 20 دولة منها مصر، وتركيا، والأردن، ودول مجلس التعاون الخليجي، والعراق، ودول أفريقية، نددوا فيه بالهجمات الإسرائيلية، وشددو على ضرورة احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها ومبادئ حسن الجوار وتسوية النزاعات بالطرق السلمية.
دوافع عديدة
يمكن تفسير هذا الموقف الذي اتخذته باكستان في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- احتمال استهداف دول أخرى: يبدو أن باكستان ترى أن تحقيق إسرائيل أهدافها من مواجهاتها مع إيران يعني أنها ستسعى لاستهداف دول أخرى من بينها باكستان نفسها بسبب حيازتها للقدرات العسكرية النووية. وفي هذا الإطار، أكد وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف، على هذا المعني في خطابه يوم 14 يونيو الجاري خلال جلسة للجمعية الوطنية الباكستانية، حيث قال أنه "إذا لم يتضافر العالم الإسلامي في مواجهة إسرائيل، فإن كل دولة في النهاية ستكون هدفاً لها"، مؤكداً أن "الطريقة التي استهدفت بها إسرائيل اليمن وإيران وفلسطين تُظهر مخططاً أكبر، وأن معظم الدول الإسلامية تواجه بالفعل مخاطر أمنية".
وقد أعلنت باكستان قيامها بتفعيل أنظمة الدفاع الجوي ونشرها طائرات مقاتلة على مقربة من منشآتها النووية، ومن حدود البلاد مع إيران، وذلك في أعقاب شن إسرائيل هجماتها على المنشآت النووية الإيرانية، مؤكدة أن أنظمة الدفاع الباكستانية على أهبة الاستعداد كإجراء احترازي.
2- التحسب من توتر الداخل الباكستاني: وهو ما يمكن أن ينعكس في خروج تظاهرات أو وقوع أحداث عنف قد تطال السفارات والقنصليات الدبلوماسية الأجنبية في البلاد، الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم التوتر في علاقات باكستان مع الغرب، في وقت تحتاج فيه إلى استعادة توازنها عقب مواجهتها الأخيرة مع الهند، حيث قامت السلطات الباكستانية بتعزيز الإجراءات الأمنية لحماية السفارة الأمريكية في العاصمة إسلام أباد، والقنصليات الدبلوماسية التابعة لها في عدد من المدن. ومن الجدير بالذكر أن السلطات الباكستانية لم تستبعد، على ما يبدو، أن يتجه الشيعة في باكستان إلى حشد تجمعات للتنديد بما تتعرض له إيران من هجوم من قبل إسرائيل.
3- التخوف من الانفلات الأمني على الحدود: تبلغ الحدود المشتركة بين إيران وباكستان حوالي 900 كيلو متر تتقاطع في المنطقة التي يقطنها البلوش وتنشط فيها الجماعات الانفصالية المسلحة على طول الحدود، في مقاطعة بلوشستان الباكستانية من جهة، ومحافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية من جهة أخرى، مما يجعل هذه الحدود مضطربة طول الوقت، وسبق وأن تسبب هذا الاضطراب الحدودي في أزمة بين البلدين، كان آخرها في يناير 2024، عندما شن كل منهما ضربات داخل أراضي الآخر، بحجة استهداف انفصاليين.
وفي هذا السياق، تدرك باكستان أن خروج إقليم سيستان بلوشستان من قبضة النظام الإيراني، سواء بإنهاكه بهذه الهجمات الإسرائيلية أو إسقاطه، يعني أن الفوضى الناتجة عن ذلك ستنتقل لا محالة إلى الداخل الباكستاني. وفي خطوة استباقية لتلك الهواجس، أقدمت باكستان على إغلاق جميع معابرها الحدودية مع إيران لفترة غير محددة، باستثناء الأنشطة التجارية، وذلك بعد إجلاء 450 من الرعايا الباكستانيين من إيران في خطوة أولى يوم 16 يونيو الجاري، فيما يرجح وزير الخارجية الباكستاني إسحق دار تزايد أعداد الباكستانيين العائدين إلى بلادهم من إيران والعراق، لا سيما في ظل هجرة قاطني العاصمة طهران إلى الشمال، وبعض الدول المجاورة وعلى رأسها تركيا هروباً من الضربات الإسرائيلية.
محددات رئيسية
على الرغم من تعدد محفزات اصطفاف باكستان إلى جانب إيران في مواجهاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، فإن ثمة محددات أخرى تجعل من هذا الاصطفاف نظرياً على الأقل وغير قابل للتطبيق بالكيفية ذاتها التي صرح بها المسئولون الباكستانيون، وتتمثل في:
1- احتمال تجدد المواجهات مع الهند: في ظل الموقف الداعم الذي تبنته إسرائيل إزاء النزاع العسكري الأخير بين باكستان والهند، فإنه من غير المستبعد أن تجدد الهند مواجهتها مع باكستان في ظل انشغالها بمواجهة تداعيات تصاعد حدة الحرب بين إسرائيل وإيران على مقربة من حدودها، بما يعني أن إسلام أباد ما زالت حريصة على منح الأولوية لإدارة التصعيد مع الهند، حتى مع إبداء دعمها لإيران في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
2- العلاقات القوية مع الولايات المتحدة: يرى مراقبون أن باكستان لا تمتلك هامشاً واسعاً من حرية الحركة فيما يتعلق بتقديم دعم إلى إيران، سواء على المستوى السياسي أو على الصعيد العسكري، في ظل العلاقات القوية التي تؤسسها مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تمر حالياً بمرحلة تحاول فيها باكستان إعادة ترسيم حدود تلك العلاقات، بالتوازي مع حرصها على تطوير التعاون معها على المستوى الدفاعي. وفي هذا الإطار، جاءت زيارة رئيس أركان الجيش الباكستاني عاصم منير إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في 12 يونيو الجاري، بهدف مناقشة آفاق التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب، والأمن السيبراني، والتكنولوجيا العسكرية.
حدود الدور
على الرغم من ترجيح الخبراء أن تكون تصريحات المسئولين في باكستان بشأن دعم إيران غير المحدود إنما تأتي في إطار محاولة إسلام أباد توجيه رسائل ردع لمنع محاولات زعزعة أمنها بشكل مباشر أو غير مباشر، فضلاً عن الرد على الدعم الإسرائيلي للهند في النزاع الأخير، إلا أن ذلك لا ينفي أنها قد تسعى إلى تقديم دعم لإيران بأنماط مختلفة، على غرار تأييد الموقف الإيراني في المحافل الدولية، أو التحول إلى جسر لإيصال الدعم العسكري الصيني لإيران، حال قررت الصين تقديم المساعدات اللوجستية لإيران، فضلاً عن إمكانية تقديم باكستان تعاوناً استخباراتياً أو لوجستياً لإيران.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى ما ورد في لقاء على قناة "الجزيرة" مع وزير الدفاع خواجة آصف يوم 16 يونيو الجاري، من إشارات أقل حدة عن تلك التصريحات القوية التي صدرت عن بعض المسئولين الباكستانيين في بداية المواجهات، فعندما سُئل آصف حول إمكانية تقديم باكستان دعماً عسكرياً لإيران حالياً، لم يذكر أى خطة معدة مسبقاً لدعم إيران عسكرياً، مؤكداً أن الحديث عن تدخل عسكري لباكستان في هذه المواجهات سابقاً لأوانه، وأن الدعم الذي تقدمه إسلام أباد إلى طهران حالياً هو دعم دبلوماسي غير محدود.
وقد عبر قائد سلاح البحرية الإسرائيلي الأسبق تشيني ماروم عن قلقه إزاء الدعم الباكستاني المحتمل لإيران، خلال لقاء له على القناة الثانية الإسرائيلية، حيث أكد على أنه ينبغي على إسرائيل أن تنتبه للمساعدات التي يمكن أن تتلقاها إيران من الصين وباكستان، والتي يمكن أن تحتوي على صواريخ ووحدات دفاعية لم تعتد إسرائيل التعامل معها، ما يعني إمكانية تغيير موازين القوى في هذه المواجهات لبعض الوقت، أو على الأقل إطالة أمد الحرب بشكل كبير على نحو لا يتوافق مع حسابات تل أبيب.
في النهاية، يمكن القول إن ثمة اعتبارات محددة هى التي دفعت إسلام أباد إلى المسارعة بدعم موقف إيران في الحرب الحالية التي شنتها إسرائيل، إلا أنها لا تمثل محفزاً لها للانخراط عسكرياً فيها وبشكل مباشر، في ظل الكلفة العالية التي يمكن أن تنتج عن ذلك، فضلاً عن وجود عوامل عدة إقليمية ودولية تضبط حدود التحرك الباكستاني في هذا الصدد.