فشلت أحزاب المعارضة الإسرائيلية، في 11 يونيو 2025، في تمرير مشروع قرار يدعو إلى حل الكنيست لنفسه والدعوة لانتخابات مبكرة. مثّل هذا الفشل انتصاراً بارزاً لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي تحاول المعارضة الإسرائيلية إسقاطه منذ عودته للحكم مجدداً في يناير 2023. ورغم ذلك، أعلنت المعارضة الإسرائيلية أنها لن تستسلم وستجرب طرقاً أخرى لتحقيق الهدف نفسه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي تداعيات هذه المعركة بين نتنياهو وخصومه على المدى القصير؟، وكيف سيستغل نتنياهو انتصاره هذا في إدارة الكثير من القضايا الخلافية سواء تلك المتعلقة بالسياسة الداخلية أو الخارجية؟، وما الذي تملكه المعارضة الإسرائيلية من وسائل لتحقيق هدف الإطاحة بنتنياهو؟.
خلفيات تقديم مشروع حل الكنيست
مع اندلاع حرب إسرائيل المتعددة الجبهات، بعد الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر 2023، طفت على السطح القضية التي أثارت انقساماً واسعاً بين النخب السياسية والاجتماعية الإسرائيلية على مدى العقدين الماضيين، وهي قضية استثناء أبناء الطائفة الحريدية من التجنيد والذي تم في بداية تأسيس الدولة عام 1948.
ورغم تناقض قرار استثناء الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية مع مبدأ المساواة بين جميع مواطني الدولة، وواجب الجميع في تحمل عبء الدفاع عنها، إلا أن أحزاب المعارضة الإسرائيلية لم تثر أية اعتراضات قوية على هذا الوضع حتى قرب نهاية القرن الماضي، خاصة في ظل حقيقة أن نسبة الحريديم في المجموع الكلي للسكان لم تزد عن 8% في ذلك الوقت، مما قلل من الحاجة الملحة لتطبيق قانون التجنيد الإجباري عليهم، كما لم يكن الجيش الإسرائيلي نفسه متحمساً لإدماجهم في الخدمة بسبب معتقداتهم التي حتى وإن قبلت مبدأ التجنيد، فإنها تضع اشتراطات لذلك مثل عدم الخدمة في الوحدات القتالية، والامتناع عن مخالطة المجندات، وإعطاء الأولوية لأوامر الحاخامات على أوامر قيادات الوحدات التي يمكن أن يخدموا فيها.
بدأت المشكلة في التفاقم مع توجه الحريديم لتأسيس أحزاب سياسية جديدة في تسعينات القرن الماضي، لموازنة القوة المتزايدة للأحزاب العلمانية الصريحة مثل حزب إسرائيل بيتينو الذي يرأسه حالياً أفيجدور ليبرمان. ويقود هذا الحزب، بدعم من بعض أحزاب الوسط واليسار، حملة مستمرة من أجل إلغاء استثناء الحريديم من الخدمة العسكرية، والهدف من وراء ذلك إضعاف جبهة نتنياهو التي تعتبر الأحزاب الحريدية مكوناً هاماً داخلها على الأقل منذ عودة نتنياهو للحكم عام 2009، وكان اندلاع الحرب المتعددة الجبهات بعد 7 أكتوبر 2023 وظهور حاجة الجيش الملحة لزيادة عدد الجنود، لتغطية العجز في كافة وحداته، سبباً في استغلال أحزاب المعارضة الإسرائيلية لهذا الوضع، والضغط بقوة من أجل الإسراع بإصدار قانون يلزم الحريديم بالخدمة العسكرية.
وفي شهر مايو الماضي، أطلق الجيش الإسرائيلي، لأول مرة، عملية إنفاذ لقانون التهرب من الخدمة العسكرية في حق الممتنعين عن تنفيذ أوامر الاستدعاء. وكانت هذه هي المرة الأولى منذ بداية الحرب التي يتم فيها تنفيذ مثل هذا الاجراء، وكان من المتوقع أن تستمر الحملة عدة أيام في جميع أنحاء البلاد. واعتبرت الطائفة الحريدية أن العملية تستهدف أبنائها بالدرجة الأولى، ومن ثم تحركت أحزابهم (يهودة هتوراه، شاس) سريعاً لمواجهة الوضع، وهددت بالانسحاب من الائتلاف. كما شرع حزب يش عتيد في تقديم مشروع قرار بحل الكنيست في 4 يونيو الجاري، معتقداً أن الأحزاب الحريدية ستؤيده بسبب غضبها من نتنياهو، الذي لم يحاول التدخل جدياً لوقف حملة مطاردة المتهربين من الخدمة، تاركاً مهمة إعداد قانون جديد لتجنيد الحريديم لرئيس لجنة الأمن والشئون الخارجية يولي إدلشتاين وتقديمه للكنيست في يوليو المقبل.
عند تقديم مشروع القرار للكنيست في 11 يونيو الجاري، وافق عليه 53 نائباً فيما رفضه 61 عضواً، وبالتالي تم إسقاطه ولم يعد أمام المعارضة الإسرائيلية سوى الانتظار لستة أشهر قادمة (وفقاً لقانون أساس الكنيست) لتقديم طلب جديد بحل الكنيست، وهو ما مثل هزيمة كبيرة للمعارضة الإسرائيلية وانتصاراً هاماً لنتنياهو وائتلافه، مما سيكون له تداعيات هامة على السياستين الداخلية والخارجية في المدى المنظور.
تأثير فشل حل الكنيست على الوضع الداخلي
من المتوقع أن يؤدي فشل المعارضة الإسرائيلية في تمرير مشروع القرار بحل الكنيست إلى تعميق أزمتها بعد أن فشلت مراراً في مسعاها المتكرر للإطاحة بنتنياهو عبر المعارك التالية:
1- فشل المعارضة في وقف مشروع نتنياهو وحلفائه لتعديل التشريعات الخاصة بالهيئات القضائية بشكل كامل، رغم حشدها للشارع لأشهر طويلة في مواجهة نتنياهو منذ يناير 2023.
2- انقسام المعارضة على نفسها في مواجهة عرض نتنياهو بتشكيل حكومة حرب من كافة الأحزاب الإسرائيلية بعد اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، حيث قبل حزب معسكر الدولة بزعامة بني جانتس المشاركة في تلك الحكومة فيما رفض حزب يش عتيد (زعيم المعارضة) ذلك، وتراوحت مواقف بقية الأحزاب بين الرفض والتأييد من الخارج دون مشاركة.
3- فشل أحزاب المعارضة في منع نتنياهو من الإطاحة بمعارضيه من داخل حزبه ومن داخل الائتلاف الحاكم مثل يؤاف جالنت وزير الدفاع السابق، والذي قام نتنياهو بإقالته من منصبه في العام الماضي رغم تأييد المعارضة لبقائه.
4- فشل المعارضة في استغلال تأييد الشارع الإسرائيلي لإيقاف الحرب في غزة مقابل استعادة الرهائن من أيدي حركة حماس.
5- عجز المعارضة عن وقف قرارات نتنياهو بإقالة أو دفع رئيس الأركان السابق هرتسى هاليفي للاستقالة في فبراير الماضي، وما تلاه من قيامه بإقالة رئيس جهاز الشاباك الحالي رونين بار والذي اضطر في النهاية لإعلان تخليه عن منصبه في 15 يونيو الحالي، إذعاناً، ولو بشكل غير مباشر، لقرار نتنياهو بإقالته، وعلى الرغم من رفض المعارضة لهذا القرار.
كما ذكرنا من قبل، كرَّست تلك الوقائع، وآخرها فشل أحزاب المعارضة في حل الكنيست، من حقيقة الضعف الكبير الذي تعانيه تلك الأحزاب، وهو ما يصب في النهاية في صالح تقوية معسكر اليمين بقيادة نتنياهو، وحتى في حالة اختفاء نتنياهو لأى سبب في المستقبل القريب (إدانته في القضايا التي يحاكم فيها، أو توصية من لجنة تحقيق قومية ستشكل بعد الحرب للبحث في إخفاقاتها)، فإن الصورة المهتزة لتلك الأحزاب في عين الرأي العام الإسرائيلي ستقود حتماً لتدهور تمثيل أغلبها في الكنيست القادم، ربما باستثناء حزب يسرائيل بيتينو بزعامة أفيجدور ليبرمان الذي تبين معظم استطلاعات الرأي أنه سيعزز موقفه في أي انتخابات مقبلة، بسبب بقائه لسنوات طويلة على موقفه المعارض لنتنياهو رغم انتماءه أيديولوجياً لمعسكر اليمين، وبسبب أصالته على مدى تاريخه في المطالبة بإجبار الحريديم على الخدمة العسكرية، وهو مطلب يحظى بتأييد غالبية الرأي العام الإسرائيلي.
لكن الأكثر أهمية أن نجاح نتنياهو في منع حل الكنيست سيزيد من قدرته على تحدي الضغوط الداخلية، خاصة فيما يتعلق بملف معالجة أزمة الرهائن لدى حماس، مع عدم تجاهل مشكلة محتملة مع قيادات الجيش، التي تتفق مع نتنياهو في تحقيق هدف الحرب الأكثر أهمية وهو هزيمة حماس، ولكنها ترفض استمرار استثناء الحريديم من الخدمة العسكرية، خاصة في ظل النقص الذي يعانيه الجيش في إعداد الجنود المطلوبين للخدمة في ميادين القتال حالياً.
تأثير الفشل في حل الكنيست على السياسة الخارجية لنتنياهو
رغم تعرض نتنياهو لحملة دولية من أجل إدانته بارتكاب جرائم حرب في غزة، إلا أن تأثير ذلك على سياسته الخارجية يبقى ضعيفاً بسبب الحماية الأمريكية له ولإسرائيل من التعرض لعقوبات دولية. ولأن معظم الدول الغربية لا تزال متمسكة باحترام الحكومات التي تأتي عبر انتخابات ديمقراطية (وهو ما ينطبق على حكومة نتنياهو)، فإن فشل المعارضة الإسرائيلية في إسقاط نتنياهو سيعزز من موقفه الرافض لوقف الحرب في غزة، كما سيسمح له بتجاهل الدعوات الغربية لوقف محاولات تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
ويراهن نتنياهو على تأييد الداخل الإسرائيلي لسياساته، للوقوف أمام أية تدخلات خارجية في هذا الشأن في هذه المرحلة، طالما أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما تزال على تعهدها بحماية أمن إسرائيل، والوقوف أمام محاولات نزع شرعيتها في المحافل الدولية.
ولأن بقاء نتنياهو في السلطة بعد نهاية الحرب يبدو ضئيلاً (في ظل توقعات بأن توصي لجنة التحقيق القومية المزمع تشكيلها بعد نهاية الحرب للبحث في مسئولية الإخفاق في أحداث 7 أكتوبر 2033 بعزل نتنياهو من منصبه)، فإن تبعات ما سيحدث بالنسبة للدولة ستكون قليلة، وسيكون من السهل على أي حكومة إسرائيلية مقبلة بعد اختفاء نتنياهو، إصلاح الأضرار التي لحقت بإسرائيل في علاقاتها الخارجية أثناء حكمه.
خلاصة القولإن هزيمة المعارضة الإسرائيلية المتكررة في مواجهة نتنياهو تشير إلى حتمية الانتظار حتى رحيل نتنياهو عن المشهد السياسي بأكمله، لبحث تأثير سنوات حكمه الطويلة، على توجهات السياستين الداخلية والخارجية لإسرائيل في المستقبل.