أعلنت كريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، في 26 مايو 2025، أن اليورو يمكن أن يصبح بديلاً عملياً للدولار. وقد جاءت هذه التصريحات في ظل واقع دولي أقل ما يوصف به أنه مضطرب على الصعيد الاقتصادي بأبعاده المختلفة بما فيها النقدية والمالية والتجارية. ولعل هذا الاضطراب هو ما دفع لاجارد إلى ما ذهبت إليه باعتبار أن الولايات المتحدة هي المتسبب الرئيسي في تلك الاضطرابات. لكن الأمر لا يقف عند مجرد الظرف الاقتصادي الراهن، والذي بات يتميز بحالة من عدم اليقين يحذر الكثيرون من تداعيات استمرارها على الاقتصاد العالمي، بما في ذلك تراجع معدلات النمو، وما يمكن أن يحدثه تراجعها على معدلات الفقر والجوع، وغيرها من أهداف التنمية المستدامة، وإنما يطال الجانب السياسي والاستراتيجي العالمي، في ظل توجهات واضحة نحو زيادة الإنفاق العسكري، وتقليل الموارد المتاحة لمؤسسات الإغاثة الدولية التي تعمل في ظروف صعبة وسط مخيمات اللاجئين والنازحين، كما أن هناك مؤسسات حكومية دولية تعرضت لضغوط كبيرة بعد توقف تمويل أحد الأعضاء المساهمين بنصيب كبير في ميزانيتها، والذي ترافق مع انسحابها منها مع عدم دفع المتأخرات، وهو ما حدث تحديداً مع منظمة الصحة العالمية في ظل الموقف الأمريكي منها.
ما صرحت به لاجارد في محاضرة لها بكلية هرتي ببرلين كان موضوع جدل كبير بين المختصين منذ سنوات. وقد نوقش في أكثر من مناسبة على صفحات إصدارات صندوق النقد الدولي بينما كانت لاجارد تديره قبل أن تستقيل لتنتقل لقيادة البنك المركزي الأوروبي، ومن بين هذه الإصدارات مجلة التمويل والتنمية التي يصدرها الصندوق، حيث كان هناك نقاش عميق حول جوانب كثيرة لتلك القضية في العدد الصادر في يونيو 2019 بمناسبة مرور 75 عاماً على إنشاء الصندوق. ويبقى السؤال إلى أي مدى يمكن أن يتحول ما طرحته لاجارد إلى واقع؟، ومتى يمكن أن يحدث ذلك؟، وهل الأمر قاصر على العملة الأوروبية أم أن هناك عملات أخرى يمكن أن تقوم بنفس الدور الذي تحدثت عنه لاجارد؟، وهل المسألة مرتبطة بإحلال كامل محل الدولار أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تحسين أوضاع بالنسبة لليورو وغيره من العملات؟، ثم كيف سيكون السلوك الأمريكي حيال هذه التوجهات والدعوات والتي يمكن أن تتحول إلى سياسات؟
طرح كريستين لاجارد
ذهبت رئيسة البنك المركزي الأوروبي إلى أن هناك اضطرابات شهدها النظام الاقتصادي العالمي مؤخراً على وقع الإجراءات الأمريكية التي ضربت الانفتاح والتعددية. هذان العنصران اللذان طالما دافعت عنهما واشنطن، وكانا من عناصر دعم قيادتها العالمية، بما في ذلك هيمنة عملتها على التبادلات الدولية وكعملة احتياط، وأن كل هذا كان مما "مهد الطريق لازدهار التجارة والنمو المالي". هذا النظام الذي استمر لمدة ثمانية عقود عاد بالنفع على الدول الأوروبية، وخدم مصالح الاتحاد الأوروبي. هذه الفوائد بدأت بالتراجع في ظل ما وصفته لاجارد بـ"التصدع" في هذا النظام خاصة بعدما بات "التعاون متعدد الأطراف يستبدل بصراعات ثنائية، وتحل الحمائية مكان الانفتاح".
هذه الاضطرابات تسببت فيها السياسات الأمريكية وما ترتب عليها من تصدع هددت "الدور المهيمن للدولار". ومن ثم فإن ما يحدث للدولار "يفتح الباب لليورو للعب دور دولي أكبر". هذا التزايد في دور اليورو على الصعيد الدولي من شأنه التخفيف من تكلفة الاستدانة من قبل دول الاتحاد الأوروبي، ويسهم في حماية الاتحاد من تذبذبات أسعار الصرف. ووصل الأمر بلاجارد إلى اعتبار تحول اليورو إلى العملة الرئيسية في العالم بمثابة ضمانة لأوروبا لكي "تتحكم في مصيرها بشكل أفضل"، معتبرة أن الأمر سيتطلب التزاماً أوروبياً لا يتزحزح بالنسبة للتجارة الحرة. ومن أجل تحقيق ذلك، سيحتاج الاتحاد الأوروبي إلى "التزام ثابت حيال التجارة المفتوحة". وقد اعتبرت لاجارد أن الأمر لن يكون سهل الحدوث، ويحتاج إلى عمل جاد حتى يمكن تحقيقه بجدارة.
ما طرحته كريستين لاجارد بخصوص البحث عن بديل للدولار ليس بالجديد، وهنا يجدر ذكر أمرين مهمين: أولهما يتمثل في أنه ومنذ سنوات قد كثر الحديث عما يمكن تسميته بـ"اهتزاز عرش الدولار". الجدل بخصوص هذه القضية كان مرتبطاً بمسائل كثيرة تتعلق بمسارات تطور النظام الاقتصادي العالمي، وموازين القوى فيه، وهو ما سيرد الحديث عن بعض ملامحها لاحقاً. وثانيهما يتعلق بما يمكن تسميته بإشكالية فوائد وخسائر المحافظة على وضع الدولار القوي بالنسبة للاقتصاد الأمريكي ذاته. وفي هذا السياق، فقد تناول البعض الخلل الذي شاب تسبيب القرارات الأمريكية الخاصة برفع الرسوم التجارية من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، حيث أن مسألة قوة الدولار كانت من ضمن مسائل أخرى تم إغفالها كعوامل داخلية للعجز التجاري الأمريكي، وليس مجرد السياسات التجارية للدول الأخرى. فالمحافظة على دولار قوي تزيد من ثمن المنتجات الأمريكية، ومن ثم تقل تنافسيتها في الأسواق الخارجية، وفي نفس الوقت فإن الدولار القوي يضمن ثقة أكبر في العملة الأمريكية مما يجعله يستمر في المحافظة على وضعه كملاذ بالنسبة للمستثمرين، خاصة في سوق السندات الأمريكي الضخم، وكذلك بالنسبة للسندات التي تطرحها الكثير من دول العالم مقومة بالدولار.
ربما لو كانت العلاقات الأمريكية-الأوروبية على تناغمها الذي اعتادت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية - دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال غياب الخلافات - لما وصل الحال بالمسئولة الأوروبية إلى طرح عملة الاتحاد الأوروبي كبديل للدولار الأمريكي، علماً بأن لاجارد كانت من قبل تشغل منصب المديرة العامة لصندوق النقد الدولي. وفي هذا الصندوق كانت المقاومة الأمريكية على أشدها بالنسبة لأي محاولات لتغيير أو حتى تحسين الواقع فيما يتعلق بحصص التصويت في الصندوق رغم كل التطورات التي حدثت على صعيد موازين القوى الاقتصادية العالمية. وهذا ما جعل الكثير من الخبراء، بما فيهم بعض الخبراء في الصندوق نفسه، يحذرون من استمرار التباطؤ في عملية إصلاح الصندوق.
كما أن هناك مسائل أخرى مهمة تتعلق بما طرحته لاجارد، من بينها إلى أي مدى سيتحول طرحها إلى نهج تتبناه مؤسسات الاتحاد الأوروبي وتدافع عنه من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية كيف سيكون رد الفعل الأمريكي على مثل هذا التوجه الأوروبي؟، هل سيكون هناك المزيد من التشدد الأمريكي حيال الاتحاد الأوروبي أم سيكون هناك مهادنة أمريكية؟. كما أن الأمر لن يقف عند مجرد تصريحات للمسئولة الأوروبية وردود الفعل الأمريكية عليها، وإنما سيمتد إلى تفاعل قوى أخرى على رأسها الصين، وحتى روسيا التي حرمت في السنوات الأخيرة من التعامل بنظام التحويلات الدولية (سويفت)، ومسائل أخرى كثيرة.
تفاعلات دولية
هيمنة الدولار كعملة دولية تتم بها معظم المعاملات لم تأت من فراغ، وإنما كانت نتاجاً لهيمنة أمريكية مطلقة في المعسكر الرأسمالي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، هذه الهيمنة زادت وترسخت عقب نهاية الحرب الباردة وتفكك الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفيتي. لكن لم تمض إلا سنوات ليست بالكثيرة حتى بدأت الكثير من العورات تظهر في الاقتصاد الأمريكي. هذه الأمور بدل أن يتم البحث عن حلول شافية لها في الداخل الأمريكي، باتت التهم توزع يميناً ويساراً ولم يستثن من ذلك حتى الحلفاء بأنهم وراء عثرات الاقتصاد الأمريكي. وقد جاء الرئيس دونالد ترامب بإجراءات غير مسبوقة على صعيد الرسوم التجارية، معتبراً أن هذه الوسيلة هي التي من خلالها ستأتي الدول الأخرى مذعنة، فضلاً عما ستدره من أموال على الخزينة الأمريكية، ناهيك عما ستؤدي إليه من عودة الشركات الأمريكية للعمل في الداخل.
يشار هنا إلى أن هذه القناعات كانت لدى ترامب منذ سنوات طويلة قبل أن يدخل معترك السياسة، كما أن الأمر لم يرتبط فقط بالصين المنافس القوي من خارج المعسكر الرأسمالي، والتي طالما اتهمت من قبل إدارات أمريكية غير إدارتي دونالد ترامب بأنها تتعمد خفض قيمة عملتها حتى تحقق منتجاتها فائضاً في الأسواق الخارجية بما فيها السوق الأمريكية، وكذلك قيام بكين بما اعتبرته واشنطن "سطواً" على براءات الاختراع الأمريكية، و"سرقة" للوظائف وغيرها من الاتهامات الأمريكية التي كانت تأخذ منحى تصاعدياً موازياً لاستمرار الصعود الاقتصادي الصيني. وفي مراحل تالية بات هذا الصعود متهماً أمريكياً بأنه صعود غير سلمي، ووصل الحال إلى اعتبار الصين مهدداً للنظام الدولي القائم على القواعد وليس لواشنطن وحدها في ظل ما باتت تتمتع به بكين من أدوات سياسية واقتصادية وعلمية. يلاحظ أيضاً أن بعض الاتهامات التي وجهت للصين سبق توجيهها لبعض حلفاء واشنطن وعلى رأسهم اليابان، وخاصة ما يتعلق بمسألة تخفيض العملة. وفي الوقت الراهن لم يعد الأمر يتعلق بمجرد اتهامات أمريكية للحلفاء، وإنما بإجراءات عقابية تطالهم كما تطال غيرهم على الصعيد التجاري، ولم يعد الأمر يقف عند ذلك، وإنما بات الحلفاء تحت ضغط أمريكي متواصل من أجل المزيد من المدفوعات لواشنطن مساهمة فيما تقوم به من حماية لهم. بل إنها تحذرهم صراحة من مجرد التنسيق مع الصين فيما يتعلق بقضية الرسوم التجارية، حيث اعتبر وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت مثل ذلك التصرف بمثابة "خطوة انتحارية".
من الطبيعي أن ما أصاب الاقتصاد الأمريكي إجمالاً قد انعكس على العملة الأمريكية، وقد ترافق مع ذلك صعود لاقتصادات أخرى باتت تضيق الفجوة كثيراً بينها وبين الاقتصاد الأمريكي وعلى رأسها الصين، فضلاً عما باتت تسعى إليه تلك الاقتصادات من صيغ تعاون خارج المنظومة الغربية، وقد وصل الأمر إلى إنشاء مؤسسات تمويل عارضتها الولايات المتحدة من قبيل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي جاء بمبادرة صينية، والذي بدأ العمل في عام 2016 بعدد أعضاء بلغ 57 دولة مؤسسة، وأخذ العدد يتزايد إلى أن وصل بعد أربع سنوات إلى 103 عضو، تمثل اقتصاداتها حوالي ثلثي الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وعدد سكانها حوالي أربعة أخماس سكان العالم.
ترافق مع ذلك توسع شبكة علاقات الصين الاقتصادية، خاصة في إطار المشاريع التي طرحتها، وعلى رأسها مبادرة الحزام والطريق، كما أنها بادرت إلى عقد اتفاقات بموجبها يتم عقد صفقات تتم تسويتها بالعملات المحلية. وقد باتت العملة الصينية تستخدم ضمن احتياطيات العملة الأجنبية في الكثير من الدول خاصة في القارة الأفريقية. ومع تصاعد الاستثمارات الصينية في الخارج باتت الولايات المتحدة تحذر من تلك الاستثمارات تحت لافتة "فخ الديون الصينية".
عملة اليورو التي تحدثت عنها كريستين لاجارد قد لا تكون البديل الوحيد المطروح للدولار على الساحة الدولية في حال كانت احتمالية الاستبدال قائمة من الأساس. إذ ما زال الدولار هو العملة الأولى في المعاملات الدولية. وهنا هل يمكن تصور وجود تنسيق وتعاون بين الاتحاد الأوروبي والصين على هذا الصعيد؟ كما هو معلوم فإن الاتحاد الأوروبي يمد خطوة تجاه الصين ويؤخر الأخرى، وهو ما زال يصنف الصين كشريك ومنافس وخصم نظامي في نفس الوقت. كما أن واشنطن لا تخفي قلقها من أي تقارب أوروبي مع بكين.
وهنا يمكن أن تطرح مسألة أخرى تتعلق بمدى العلاقة بين ما طرحته كريستين لاجارد وما يطرحه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بخصوص الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، وما أضافه عند زيارته إلى فيتنام في 27 مايو 2025 فيما يتعلق باستراتيجية الطريق الثالث، معتبراً أن "أكبر اقتصاد في العالم يقرر عدم احترام قواعد التجارة العالمية ويفرض رسوماً تتغير تبعاً لليوم الذي نستيقظ فيه". كما أنه عاد للتركيز على هذه النقطة في خطابه بحوار شانجريلا في سنغافورة في 30 من الشهر نفسه، علماً بأن انتقاداته لم تقف عند واشنطن، وإنما نالت الصين نصيبها أيضاً.
فرص التحول عن الدولار
لن يكون من السهل على دول العالم التحول مرة واحدة عن الدولار، خاصة وأن الكثير من الدول تربط عملاتها به، كما أن الثقة في العملات الأخرى لم تصل بعد إلى مستوى الثقة في الدولار على الرغم من الهزات التي يتعرض لها، ثم لا يجب إغفال الوضع الخاص للولايات المتحدة في صندوق النقد الدولي، وهو الوضع الذي لن تقبل بسهولة التخلي عنه، خاصة وأن خبرة تعديل حصص التصويت في الصندوق قد شهدت مقاومة أمريكية شديدة رغم كل المتغيرات في الواقع الاقتصادي الدولي.
ما زال الدولار في مقدمة العملات التي تستخدمها الدول ضمن احتياطياتها النقدية، وقد وصل نصيب الدولار في هذه الاحتياطيات بنهاية عام 2024 إلى حوالي 58%، وفي المرتبة الثانية يأتي اليورو بحوالي 20%، أما العملة الصينية فإن نسبتها حوالي 2,2% فقط، وتسبقها كل من العملة اليابانية والجنيه الإسترليني والدولار الكندي.
يحتاج العالم إلى نقاش جاد حول قضايا اقتصادية كثيرة، ربما لا يكون استبدال الدولار في مقدمتها. وعلى صعيد العملات تحديداً، هناك القضايا الخاصة بالعملات الرقمية. فالكثير من القواعد التي باتت هناك قناعات بأنها أصبحت مستقرة باتت في مرمى الاستهداف حتى من قبل من دافعوا عنها وتبنوها لسنوات طويلة، ومن ذلك حرية التجارة، والعولمة، والاحتكام إلى المؤسسات الدولية في حال نشوب الخلافات. وهنا تطرح تساؤلات عديدة: هل الأهم البحث عن عملة بديلة للدولار أم إعادة الاعتبار لقواعد منظمة التجارة العالمية المفترض أنها تضمن حرية التجارة، وتوفير حلول للخلافات التي تنشب بشأنها. ومن ثم ضرورة الدخول في عملية جادة لإدخال إصلاحات جدية وجذرية على مؤسستي بريتون وودز ممثلتين في صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي. فكيف لهاتين المؤسستين أن تبقيا تحت الإدارة الأوروبية والأمريكية منذ نشأتهما على الرغم من كل ما طال الاقتصاد العالمي من تطورات بما في ذلك بروز قوى اقتصادية فاعلة خارج المنظومة الغربية؟، وكيف لدول باتت اقتصاداتها تقل كثيراً عن اقتصادات سبقتها ومع ذلك ما زالت تتمتع بحصص تصويت تفوق تلك الدول التي تخطتها؟، فعلى سبيل المثال فإن الولايات المتحدة منفردة تمتلك 16,5% من حصة التصويت في صندوق النقد الدولي، ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تمتلك مجتمعة 29,6%، بينما حصة الصين 6,1%، وهي أقل من حصة اليابان البالغة 6,2%. هذا التوزيع لم يعد يعكس الأوزان النسبية للقوى الاقتصادية العالمية.
مسألة منافسة عملات أخرى للدولار مطروحة منذ سنوات، وكان هناك تعداد لمزاياها حتى من قبل علماء اقتصاد في جامعات أمريكية، ومن بينهم إيمانويل فارحي من جامعة هارفارد، والذي ذهب إلى أن ظهور عملات منافسة للدولار يقترب من أن يكون أمراً حتمياً، وحدد في ذلك الإطار اليورو الأوروبي والرنمينبي الصيني، معتبراً أن مثل هذه المنافسة قد تجعل من النظام النقدي الدولي "أكثر أماناً وكفاءة"، ليس هذا فحسب بل التنافس على صعيد العملات سوف يعوض "النقص في الأصول الآمنة"، وإن كان قد ذهب إلى أن ما أسماه بـ"النظام النقدي متعدد الأقطاب بحق لن يكون له وجود في المستقبل"، معتبراً أنه رغم ما يقوم به الاتحاد الأوروبي والصين على صعيد دعم الدور الدولي لعملة كل منهما، فإن "السمعة والمؤسسات لا يتم بناؤها بين عشية وضحاها".
قد يبدو هذا التقييم الذي مضى عليه ست سنوات منطقياً، لكن في ظل التغيرات والمتغيرات الراهنة ربما كانت الفترة الزمنية المطلوبة أقل، خاصة وأن هناك تآكلاً واضحاً في السمعة والمؤسسات التي تحدث عنهما إيمانويل فارحي بالنسبة للولايات المتحدة، في مقابل تصاعد بالنسبة لقوى أخرى على رأسها الصين. فضلاً عن أن هناك قناعة بأن الأمر لن يحدث بشكل تلقائي، وإنما ينبغي أن يكون عن استحقاق على حد تعبير لاجارد التي ذهبت إلى أن "اليورو لن يكتسب النفوذ العالمي بل عليه أن يستحقه"، مضيفة أن "التغيرات الجارية تفتح الباب أمام لحظة عالمية لليورو".
ويصبح السؤال المطروح: هل تستمر هذه اللحظة ليس بالمعنى الحرفي للكلمة وإنما بمعنى استمرار تلك الظروف؟، وهنا لابد من طرح تساؤلات من قبيل: ماذا بعد رحيل دونالد ترامب عن السلطة؟، هل ستستمر السياسة الأمريكية على حالها؟، ومن ثم هل سيستمر التباعد بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أم أن الأمر سيكون مشابهاً لما حدث بعد انتهاء ولاية ترامب الأولى ومجيء إدارة بايدن؟، حيث عادت الأمور إلى طبيعتها، وحدث ما يمكن تسميته ترميم للعلاقات الأمريكية-الأوروبية في إطار عملية ترميم لعلاقات واشنطن بحلفائها في أوروبا وآسيا.
ختاماً، يتضح أن مسألة التنافس بين العملات لا تحكمها مجرد رغبات ولا حتى قرارات، فهذه عملية ترتبط بممارسات وسياسات تخص الدول أصحاب العملات المتنافسة وكذلك كل دول العالم التي تنخرط في تفاعلات تجارية تتطلب تسويات. كما أن المسألة ليست مجرد فنيات تتعلق بالأمور النقدية، وإنما لها ارتباطاتها بالمسائل المالية والتجارية وكذلك تؤثر وتتأثر بكل مراحل العملية الإنتاجية، وكذلك التجارة العالمية للخدمات. المسألة ليست نقدية بحتة ولا اقتصادية خالصة، وإنما هي ترتبط بتحولات تاريخية استراتيجية، وهذا ما تم في الماضي، وما يمكن أن يحدث في المستقبل.
من الواضح أن هناك عملية تتطور، هذه العملية بدأت منذ انهيار قاعدة الذهب بداية سبعينيات القرن الماضي، ومن ثم جاء إطلاق عملة الاتحاد الأوروبي الموحدة مع نهاية التسعينيات، لتصل اليوم إلى الاستحواذ على نسبة ليست بالقليلة في احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية، والعملة الصينية التي لم يكن لها وجود ضمن هذه الاحتياطيات تقريباً باتت موجودة حتى وإن كانت نسبتها قليلة إلا أنه يتوقع زيادتها، يضاف إلى ذلك الاتجاه إلى المزيد من اتفاقيات تسوية المعاملات بالعملات المحلية، كما أنه لا يمكن إغفال توجه الكثير من الدول إلى زيادة مكون الذهب ضمن احتياطياتها في ظل التذبذب في أسعار العملات.
هذه التطورات لا يمكن فصلها عن التطورات فيما يتعلق بموازين القوى الاقتصادية على الساحة الدولية، والتي تنعكس في موازين القوة الشاملة، والتي لم تعد كما كانت عند نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا حتى عند نهاية الحرب الباردة. وإذا كان العالم يعيش حالة من عدم اليقين تحذر الكثير من المؤسسات الدولية من تداعياتها، فإن اليقين الراسخ هو أن العالم يتغير، أما حدود هذا التغير ومداه ومنتهاه فرهن التفاعلات الدولية تعاونية كانت أو صراعية. ومن الواضح أن مسألة التنافس بين العملات باتت في قلب هذه التفاعلات.